محيي الدين شهاب
النهار
لم يكن الجمهور المسيحي في ما كان يسمى المنطقة الشرقية وقتذاك وحده يطرب لسماع الشيخ بشير الجميل يطالب في خطاباته بـ"لبنان أولا" والاستقلال والسيادة وخروج الغرباء من لبنان وتحريره من الاحتلال السوري والوجود الفلسطيني المسلح وفرض سلطة الدولة اللبنانية على أراضيها. في ذاك الزمن كان جمهور المسلمين يشاركون الشيخ بشير أحلامه وآماله ولو سرا دون الجهر بذلك.
والسبب يعود الى هول الواقع العسكري والسياسي الذي كان قائما في ما كان يسمى وقتذاك بيروت الغربية، إذ كانت مئات المكاتب المسلحة في كل شارع وزاروب، والمسلحون ينتشرون في كل مكان وهم خليط من جنسيات مختلفة عراقية وسورية وفلسطينية ويمنية وأريترية وسودانية فضلا عن خليط من الاحزاب والفصائل تتولى مسؤولية "بيروت الغربية" أمنيا، وتفرض ثقلها بالقمع والارهاب والاغتيال .
وكان أول ثمراتها اغتيال سماحة الشيخ أحمد عساف مؤسس وإمام مسجد عائشة بكار – وكان مقربا من سماحة المفتي الشهيد حسن خالد – لا لشيء إلا لأنه رفع صوته مرارا في خطب الجمعة يطالب بأن لبنان لأهله وان بيروت لأهلها ويسعى لاغلاق المكاتب المسلحة على اشكالها وأنواعها، وزاد انه طالب بفتح الحوار مع الكتائب والمسيحيين من أجل بلورة قاسم مشترك بدل الاقتتال والتناحر فكان نصيبه الاغتيال،
وكيف كان للمسلمين في ذاك الوقت الجرأة على رفع الصوت، ومن يتحكم بشارعهم قيادات ديكتاتورية ترسل الاموال والسلاح من خارج الحدود دون حسبان شرطها قمع اللبنانيين وقهرهم والتزعم عليهم. وهل نسينا تصفية الحسابات بين جبهات الرفض والاعتدال والدماء الغزيرة التي سالت بين الاطراف المتناحرة؟
وهل نسينا تنظيرات العقيد معمر القذافي عندما أراد ان يجعل من لبنان بحيرة دماء كبيرة، وبعض أساطين الاجرام والارهاب استوطن بيروت وحولها مغارة للأشقياء الاقليميين والدوليين وفي طليعتهم المنظمات الارهابية التي نفذت عمليات دموية في أوروبا، والتي انطلقت جميعها من بيروت؟
وهل نسينا كيف كان الارهابي كارلوس واليابانيون الحمر ومنظمات الارهاب الايطالية واليونانية تتدرب في معسكرات فلسطينية وتتخذ من بعض الشقق والبنايات في بيروت الغربية مراكز انطلاق لعملياتها؟
وماذا علينا ان نتذكر اكثر وأكثر عن تلك المرحلة السيئة الذكر حيث فاقت الممارسات السورية والفلسطينية والارهاب الدولي والاقليمي ما يعجز اللسان عن وصفه فكيف للمسلمين اللبنانيين ان يرفعوا الصوت وقد كان ذلك مستحيلا؟
كان المسلمون وحتى ممن هم أعداء لبشير الجميل يتمنّون له التوفيق في مشروعه حتى يتخلصوا من عبء الغرباء الثقيل على بلدهم ومدينتهم.
والمسلمون وان تحالفوا مع الفلسطينيين والغرباء ضد المسيحيين اللبنانيين في لحظة طغت فيها العصبية الدينية او القومية وأججتها تصريحات عدة لمسؤولين مسيحيين اخافت المسلمين من مشروع الوطن القومي المسيحي وعبارات طرد المسلمين الى مكة وغيرها من التنظيرات المتطرفة التي نعترف بأنها رمت المسلمين دون وعي او تفكير في أحضان الغرباء معتبرين انهم بذلك التحالف انما يدافعون عن وجودهم ضد تحالف الكتائب مع اسرائيل، وبذلك ارتكب المسلمون والمسيحيون الخطأ القاتل فاستغل الغرباء المسلمين أفضل استغلال واستغلت اسرائيل المسيحيين ايضا أفضل استغلال.
وكانت خطابات بشير عن لبنان واستقلاله وسيادته وحريته تكاد تكون الوحيدة التي تذكر أن لبنان ما زال موجودا وان هناك شعبا اسمه الشعب اللبناني.
ما زلت أذكر تماما كيف عاد الرئيس صائب سلام من اجتماعه مع الشيخ بشير في القصر الجمهوري عندما وجد فيه صورة معاكسة لكل ما روج عنه من صورة شنيعة في الوسط الاسلامي ليس اقلها انه قاتل وعميل اسرائيلي وموتور طائفي مسيحي، لكن أقواله وأفعاله بعد انتخابه رئيسا ناقضت تلك الصورة وجعلته مقبولا من المسلمين، الذين اشترطوا بعد ان يتسلم الرئاسة ان ينقذهم مما يصيبهم في بيروت وأن يرفع عن اللبنانيين الذل والاهانات التي تعرضوا لها على أيدي خليط الغرباء المسلحين، بل ان مطالب المسلمين زادت في حدتها عما كان يطالب به بشير نفسه حيث ركزت الوفود الزائرة لبكفيا على ان المسلمين مستعدون لتقديم تنازلات سياسية شريطة التخلص من حكم وسيطرة الغرباء وأن يأخذ بشير كل الصلاحيات لتحقيق هذه الغاية.
ان ما عاشه المسلمون اللبنانيون من مأساة على أيدي الغرباء في تلك المرحلة شيء لا يمكن وصفه. وكان صوت بشير يعيد اليهم الأمل في أن لبنان الذي فقدوه في "الغربية" سيعود اليهم يوما ما من "الشرقية". هكذا كان الامل الذي لم يتحقق واستمرت المأساة بعده طويلا.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق