الخميس، أكتوبر 16، 2008

ركض الصحف للربح المادي, فقط يخفّض مستواها الصحفي والفكري باستمرار

د. حبيب بولس
من المعروف أن الصحافة الجادة في العالم كله تدفع أجرا لكتابها أو للذين ينشرون فيها مقابل مقالاتهم أو إبداعاتهم. إلا عندنا, فالكتابة مجانية والحمد لله. ولأنها مجانية فمن الطبيعي أن تتسيّب وأن ترخص وأن لا يكون لأحد حق المطالبة بتحسينها. والسؤال لماذا لا تدفع صحفنا لكتابها؟ لماذا هذا الاستهتار, مع العلم أن معظم كتابنا ومبدعينا من الطبقة ضعيفة الحال اقتصاديا؟ هذا من جهة؟ أما من جهة أخرى, فان عملية الكتابة تأخذ من وقت الكاتب أو الأديب الكثير, كما أنها تتطلب جهدا فكريا كبيرا, لماذا على هذا الوقت وعلى هذا الجهد أن يذهبا سدى ودون مقابل؟ انه سؤال مشروع.

حدثني مرة أحد الأدباء اليهود, وقد التقينا صدفة في إحدى الندوات, انه لا يقبل الظهور في ندوة أو محاضرة, كما أنه لا يقبل نشر كلمة واحدة في الصحف دون مقابل, وحين عرف أننا لا نتقاضى أجرا لا من كتاباتنا ولا من ظهورنا في محاضرات أو ندوات, ضحك ساخرا وقال: إذا استدعيت مهنيا إلى بيتك ليصلح شيئا ما, هل سيسامحك بأجره لأنك أديب أو مبدع؟ طبعا لا. ونحن مهنتنا الكتابة نرتزق منها تماما مثله, إذن لماذا لا نتقاضى منها أجرا؟ كيف سنعيش إذا!!!
أدهشني كلامه لما فيه من صدق وحقيقة وواقعية. ولكن ما يحصل عندنا هو العكس ومع أن صحفنا متعددة, ولكونها كذلك من المفروض أن تكون بينها منافسة لاستقطاب خيرة الكتاب والمبدعين والأدباء. وهذا لا يتم طبعا إلا إذا دفعت لهم أجرا واحترمتهم, إلا أنها تضرب بهذه القضية عرض الحائط وأنا أتساءل من الملوم في هذا كله؟ الكتاب أم أصحاب الصحف؟ في رأيي كلاهما.
فصاحب الصحيفة لأنه لا يهتم إلا بما تدره عليه صحيفته من الربح المادي, مستعد لان يلغي مقالا كاملا مهما كان وزنه ومهما اخذ من جهد كاتبه, ومهما كانت فائدته, من اجل نشر إعلان ما, ذلك لان الإعلان مربح, لذا صارت الإعلانات أهم بكثير من قصيدة أو من قصة أو من مقال فكري أو أدبي. وأصحاب الصحف يحاولون جهدهم أن يبلعوا لا أن يدفعوا.
كما أنهم لا يهتمون بشيء قدر اهتمامهم بالمادة وبالناحية الربحية, لذلك لا يقيمون وزنا لكاتب أو لأديب مهما كانت منزلته. كما أنهم يعرفون انه مع غياب ملاحق أدبية ثقافية ومجلات متخصصة من جهة, ومع غياب دور نشر تسعى لنشر الثقافة والأدب من جهة أخرى, وقلة حيلة الكاتب في نشر ما يكتبه في كتاب من ثالثة, سيضطر الكاتب لان يلهث وراء الصحيفة ولان يتنازل عن حقه من الأجرة, بغية أن يرى إبداعه منشورا. والسؤال هل صار الجشع المادي هو المسيطر علينا؟ هل صارت أهداف صحافتنا تنصب فقط على الربح المادي دون الاكتراث بالجوانب الفكرية والأدبية والثقافية. وأنا لا اقصد في ذلك الصحف التي تلتزم بخط فكري محدد وإنما اقصد الصحف التجارية الدعائية مع انه حتى النوع الأول صار ينحو أيضا وبسبب المادة نحو النوع الثاني, من حيث اللهاث وراء الإعلان على حساب المقال الجاد.
كيف الخروج من هذه الأزمة؟ هل الدفع للأدباء وللكتاب وللمبدعين يكسر ميزانية الصحيفة أو المجلة؟ وحين أقول الدفع لا اقصد تلك المبالغ الكبيرة وإنما الشيء المعقول. لا اعتقد ذلك.
ألا يعرف أصحاب الأمر أنهم إذا أرادوا رفع مستوى صحفهم لن يتأتى لهم ذلك إلا إذا دفعوا؟ لأنهم عندها, وعندها فقط, يستطيعون أن يتحكموا بما نشر, كما يستطيعون أن يُملوا على الكاتب أو على الأديب المستوى اللائق والمطلوب. إن دور الصحافة في الأمم المتحضرة ليس الربح المادي فقط, إنما أيضا التثقيف والتنوير والتشجيع ومصلحة الشعب ومن ثم الربح المادي وكل هذه الأمور مجتمعة لا يمكن لصحيفة أن تصل إليها إلا إذا احترمت كتابها ودفعت لهم أجرا مناسبا مقابل تعبهم. وهذا الدفع يعني التزام الكاتب بمستوى معين, لأنه سيعرف عندها أي إذا نال أجرة أن مستوى كتاباته إذا تدنى سيزول أجره. لأن الدفع يعني التحكم بالمستوى ومنع التسيّب الحاصل في النشر اليوم عندنا. وإذا تحكمت الصحيفة بمستوى ما يكتب اشتهرت أكثر, وإذا اشتهرت أقبل عليها القراء وهذا يجعلها تربح ماديا أكثر.
الأمر إذن, حلقة متواصلة. لماذا إذًا يغفل أصحاب الصحف هذه الحقيقة؟ على ماذا يعتمدون؟ هل يعتمدون على أننا كقراء لا نبالي بالمستوى؟ أم على أننا ككتاب وأدباء منقسمون على أنفسنا ولا نعرف كيف نطالب بحقوقنا؟ إنهم يعتمدون على الأمرين معا, يعتمدون على غفلة القراء وعلى تشرذم الكتاب وضياعهم, إذ لا جسم نقابيا يضمهم ويحصِّل لهم حقوقهم.
من هنا إذا أردنا أن نخرج من هذه الحالة الشائهة والمضحكة في آن معا علينا أن نهيب بالقراء ليقفوا عند حقهم.
عليهم ألا يقبلوا بأي شيء, عليهم المطالبة بالثمين, فهذا حقهم إذ أنهم المستهلكون وهم الذين يدفعون ثمن الصحيفة, كما أن على الكتاب أيضا أن يوحّدوا صفوفهم وجهودهم. عليهم أن يرفضوا النشر كيفما اتفق عليهم ألا يرخصوا بأدبهم وبفكرهم فالبضاعة الرخيصة لا يُقبل عليها أحد. حتى لو أدى الأمر إلى المقاطعة وعدم النشر. عندئذ ستلهث وراءهم الصحف, وستلبي مطالبهم. عليهم أن يبتعدوا عن المنافسة في أمور لا تعود على أحد بمنفعة لأن التنافس الحق هو التنافس في مستوى ما ينشر فقط. من حقهم أن يتقاضوا أجرة لذلك, ويجب عدم التنازل عن هذا الحق المشروع والمتبع في صحافة العالم قاطبة. وهنا أنا لا أتحدث عن كتاب وأدباء هواة أو ناشئين إنما عن الذين يحترفون الكتابة والذين قد تمرسوا فيها, بحيث إذا غابت أقلامهم عن الساحة شعر القراء بالفراغ. قديما قالوا " وأدركته حرفة الأدب" وقصدوا أنه صار فقيرا فهل سنظل هكذا. هل مكتوب على الكتاب والأدباء الفقر؟ وفي ظل حياة لا ترحم.
أما المجلات المتخصصة عندنا والتي تعلن عن نفسها أنها ثقافية فكرية أدبية , فهي ورغم قلتها, الوضع فيها مشابه للصحف, حيث أننا نجدها تسعى هي الأخرى للربح أو على الأقل للفائدة المادية, فهي لا تصدر إلا لماما مع أنها من المفروض أن تصدر شهريا. وذلك كي تحافظ على أكثر ما يمكن مما يصل إليها من ميزانية "وزارة الثقافة" وما يصل إليها ليس قليلا.
وهي لا تدفع لكتابها أيضا مع أن الميزانية تسمح بذلك. ولكن على ما يبدو فان المادة صارت تلعب دورا, مع أن هذه المجلات تعلن عن نفسها أنها لم تتأسس لغاية الربح.
من هنا إذا أردنا أن تكون صحفنا ومجلاتنا مقروءة بشكل واسع, فعلى هذه الصحف والمجلات أن ترفع من مستواها. ورفع المستوى يكون بواسطة تحسين أدوات الكاتب وتشجيعه, وهذا يكون بالدفع له مقابل ما يكتب, فعندها وعندها فقط يصير لنا الحق بمطالبته بتحسين ما ينشره وبرفع المستوى دائما.
وهذا في نهاية الأمر يعود بالفائدة علينا جميعا, فهل سنرى في القريب من سيبادر إلى ذلك!! ربما.. ونحن بانتظار!

ليست هناك تعليقات: