الاثنين، أكتوبر 20، 2008

الثقة المعدومة بين اطراف الوساطة المصرية

نقولا ناصر

(ان "التقدم" الذي تم احرازه في الوساطة المصرية ما يزال هشا وتمهيديا ولا يزيد على كونه اتفاقا على "اللقاء" اوائل الشهر المقبل للبدء في الحوار الفلسطيني على قضايا ما زال الاختلاف عليها يهدد بتفجير الوساطة نفسها التي يتطلب انجاحها وبالتالي انجاح الحوار حسن النوايا وتوفير كل الاجراءات الممكنة لتعزيز الثقة غير المتوفرة حتى الان)

ان الدلائل على انعدام الثقة بين الاطراف المعنية بالوساطة المصرية والمؤشرات الى استخدامها كوسيلة ضغط لا كواسطة لمد الجسور بينها لا يهدد بفشل هذه الوساطة فقط بل يهدد بتفاقم الانقسام الفلسطيني الراهن وباندفاع الرئاسة الفلسطينية الى الاعتماد اكثر على تحالفاتها غير الفلسطينية للاستقواء بها على حسم الاصطراع بالقوة العسكرية بكل ما يعنيه ذلك من اراقة مجانية للدم الفلسطيني ، مما يهدد بدوره بحرب اهلية لا يستطيع احد التكهن بنهايتها اذ ليس من المتوقع ان تنجح سلطة الحكم الذاتي الفلسطينية فيما فشلت فيه دولة الاحتلال الاسرائيلي مما اضطرها الى الانسحاب من قطاع غزة ، ليتسع الانفضاض الشعبي عن قطبي الانقسام ، وتهتز اكثر مصداقيتهما عربيا ودوليا ، ويشتد الحصار على قطاع غزة ، وتنشا ظروف موضوعية لانحلال السلطة في الضفة الغربية او لحلها .

وسيقود كل ذلك الى انحلال أي قيادة فلسطينية تتمتع بالصدقية وطنيا وعربيا ودوليا ، وبالتالي الى تاكل منظمة التحرير الفلسطينية كممثل شرعي وحيد لشعبها مما يعزز ادعاء اسرائيل بعدم وجود شريك فلسطيني قادر على الالتزام باي اتفاق معه للتخلص من الاستحقاقات التي تفرضها عليها ضغوط قوى دولية تسعى لاغراض خاصة باطماعها الاقليمية الى تسوية سياسية للصراع العربي والفلسطيني – الاسرائلي لكي تتفرغ لتسريع عملية تهويد الضفة الغربية وخصوصا في القدس لتخلق هناك حقيقة جيوبوليتيكية جديدة تنقل الصراع الى مرحلة نوعية جديدة مثلما جرى في سنة 1948 .

ربما يرى البعض في مثل هذا السناريو شططا ومبالغة نظرا لتكرار الوساطات بين الفلسطينين وتكرار فشلها ، غير ان مجموعة من العوامل تميز الوساطة المصرية الحالية عن سابقاتها ، فمصر نفسها اولا معنية مباشرة بانجاح وساطتها لان لها مصلحة في انهاء الانقسام الفلسطيني بسبب مضاعفاته الامنية والسياسية عليها داخليا واسرائيليا واميركيا ، ولم يكن للوسطاء السابقين مثل هذه المصالح الحيوية ، ثم هناك ثانيا استحقاق تجديد اتفاق التهدئة بين حماس وبين اسرائيل في التاسع عشر من كانون الاول / ديسمبر المقبل ، وهناك ثالثا الاستحقاق الدستوري الفلسطيني لتجديد ولاية الرئاسة في التاسع من الشهر الاول من العام المقبل . وهذه العوامل الثلاثة بصفة رئيسية وغيرها تعطي لانجاح الوساطة المصرية اهمية بالغة لم تكن لسابقاتها بينما سيقود فشلها الى بدء تعقيدات امنية وسياسية فلسطينية واقليمية مشحونة بعوامل تفجير غير محدودة .

وللاسف الشديد ان معظم الاطراف المعنية بالوساطة المصرية لا تبدو مدركة للنتائج ذات الابعاد الاستراتيجية لنجاحها وفشلها على حد سواء .

وفي مقدمة هذه الاطراف مصر نفسها كما يظهر من التصريحات النزقة المتكررة ذات النتائج العكسية ضد حماس التي ادلى بها وزير الخارجية المصري احمد ابو الغيط والتي تعتبر نشازا عن لغته الدبلوماسية المحترفة في كل القضايا الاخرى ، فهذه التصريحات اولا تظهر الوسيط المصري على مسافة غير متساوية من طرفي الانقسام الفلسطيني وتبدي ثانيا انحيازا الى احد الطرفين لا يسهل مهمة زميله الوزير عمر سليمان وهي ثالثا تعكس بتناقضها مع تصريحات سليمان المتوازنة والقليلة تباينا مصريا يضعف دور الوسيط المصري كما انها رابعا تكشف وجود تيار قوي في المؤسسة الحاكمة في القاهرة يتبنى او يتقاطع مع الرؤية الاميركية الاسرائيلية للانقسام الفلسطيني على قاعدة التعامل مع حماس كمنظمة ارهابية مثلما تصنفها وزارتا الخارجية في واشنطن وتل ابيب .

وبقدر ما تضعف تصريحات ابو الغيط الوسيط المصري باستعدائها لحماس بقدر ما تضعف هذه الوساطة باستعداء اطراف عربية عندما رفض في اخر تصريحاته لتلفزيزن بي بي سي يوم الخميس الماضي تدخل اي قوى او دول عربية غير مصر في المصالحة الفلسطينية بينما تجري هذه المصالحة باسم جامعة الدول العربية وسوف تتوج بمباركتها ، حسب تصريحات الامين العام عمرو موسى ، وبينما يعلن طرفا الانقسام الفلسطيني كلاهما ترحيبهما بكل الجهود العربية لراب الصدع الفلسطيني حد ان يصف الرئيس الفلسطيني محمود عباس نفسه اثناء زيارته الاخيرة لدمشق الدور السوري في ذلك بانه حيوي وبينما الوساطة المصرية ذاتها تجري على اساس المبادرة اليمنية التي تحولت الى قرار لقمة دمشق العربية الاخيرة .

واذا كانت شرعية حماس التي اكتسبتها عبر صناديق الاقتراع تعفيها من الرد على تشكيك ابو الغيط في شرعيتها فان تصريحاته التي قال فيه ان الحركة تبحث عن الشرعية عندما تطالب بفتح معبر رفح انما تسلط الاضواء اكثر على وجود قرار مركزي مصري باستخدام فتح هذا المعبر واغلاقه وسيلة للضغط على حماس لان هذا هو التفسير الوحيد لاستمرار اغلاقه من الجانب المصري ومما يؤكد ذلك ان فتح هذا المتنفس الوحيد لقطاع غزة على العالم الخارجي تربطه القاهرة بموافقة الرئاسة الفلسطينية مما يشير بدوره الى انحياز يضعف دور الوسيط المصري ، او ان تكون الشرعية المصرية نفسها في ممارسة سيادتها على المعبر منقوصة فلا تستطيع فتحه من جانبها الا بالتنسيق مع دولة الاحتلال وهو ما تنفيه القاهرة مؤكدة سيادتها الكاملة على المعبر ، وقول ابو الغيط ان حماس انما تبحث عن الشرعية عندما تطالب بفتح المعبر ليس مقنعا كفاية لاستبعاد التفسيرين كما انه يغطي على حقيقة ان فتحه هو مطلب شعبي حيوي للقطاع بغض النظر عمن يحكم في غزة مع ان فتح المعبر يستكمل شرعية حماس كتحصيل حاصل لكنه في حد ذاته لا يمنحها لا هي ولا غيرها الشرعية .

غير ان الخطير في كل هذا الجدل حول المعبر انه يغطي على سر مكشوف يتمثل في الحملة التي تشنها مصر على شبكة الانفاق التي فتحها الفلسطينيون كبديل لا غنى عنه لفتح المعبر ، بضغط من التزاماتها الناجمة عن معاهدتها مع اسرائيل وعن علاقتها الاستراتيجية مع الولايات المتحدة ، وللاسف الشديد ان كل وسائل الاعلام تنقل اخبار التفجيرات المصرية للانفاق التي تكتشفها السلطات المصرية لكنها تتستر على الضحايا الفلسطينين الذين يسقطون نتيجة لتفجيرها والذين زاد عددهم حتى الان على خمسة واربعين ضحية . والمفارقة هنا ان حماس التي اجبرت دولة الاحتلال الاسرائيلي على فتح معابرها مع القطاع بالتهديد الصاروخي غير القاتل لامن واستقرار الجانب الاخر من الحدود لا تستطيع اللجوء الى الاسلوب نفسه مع مصر لاسباب واضحة غنية عن البيان لكن مصر تبدو مصممة على تضييق الخيارات "الاخرى" امام حماس حد عدم ادراج موضوع معبر رفح على جدول اعمال الوساطة المصرية للحوار الوطني الفلسطيني وهذا هو الامر الاخطر الذي تكشفه تصريحات ابو الغيط الاخيرة ، مما يكشف ايضا وجود تنسيق مع الرئاسة الفلسطينية لا يمكن وصفه بالبراءة تحت غطاء التذرع بالاحترام المصري للشرعية الفلسطينية ممثلة بمنظمة التحرير ورئاستها .

ان القانون الانساني الذي يدفع حتى مراجع اسلامية الى الافتاء باكل لحم الجيفة ينبغي ان يتقدم على كل الشرعيات والالتزامات التعاقدية والاولويات والتحالفات السياسية والخلافات بين الدول والقوى السياسية واذا لم تستطع الوساطة المصرية والحوار الفلسطيني فتح بوابة الفرج الوحيدة في رفح لانقاذ مليون ونصف المليون فلسطيني محاصرين في قطاع غزة من كارثة انسانية تتهددهم فما الجدوى منها اذن ، فهذه القضية الانسانية ينبغي ان تتصدر جدول اعمال الوساطة المصرية وينبغي عدم ربطها حتى بالتوصل او عدم التوصل الى اتفاق حول الوحدة الوطنية الفلسطينية .

والتنسيق الرئاسي الفلسطيني مع مصر حول استمرار اغلاق معبر رفح لا يكفي لتسويغه التذرع بالالتزام بالاتفاق الخماسي عام 2005 على فتحه كما ان التذرع باعتراف مصر بشرعية منظمة التحرير ورئاستها وبضرورة موافقتها على فتحه ليس حجة مقنعة كافيه لرد الشبهة عن الطرفين بانهما يستخدمان فتح المعبر وكذلك الماساة الانسانية الناتجة عن اغلاقه كوسيلة ضغط على حماس ولا لرد الشبهة بان هذا التنسيق قد اتسع ليشمل استبعاد فتح المعبر من جدول اعمال الوساطة المصرية والحوار الفلسطيني ، وتتحمل الرئاسة الفلسطينية مسؤولية الرد على الحجة المصرية التي تكرر اعلانها بان القاهرة تربط فتح المعبر بموافقتها . ومن الواضح ان الماساة الانسانية في القطاع واهل القطاع نفسه قد تحولوا الى رهائن للمناورات السياسية بين الاطراف المعنية بالوساطة المصرية .

والموقف من قضية وضع فتح معبر رفح على جدول اعمال الوساطة المصرية ليس هو المثال الوحيد على غياب اجراءات تعزيز الثقة بين الاطراف المعنية بهذه الوساطة اذ ان رفض الرئاسة الفلسطينية لاقتراح تم تنسيقه مع الوسيط المصري بعقد لقاء ثنائي اواخر الشهر الجاري بين حركتي فتح وحماس يمهد للحوار الفلسطيني التعددي الشامل اوائل الشهر المقبل ، وهي نفسها التي اقترحت جولة الحوارات الحالية ووساطة القاهرة تحديدا فيها ، هو تطور يحمل من التناقض الذاتي بقدر ما يحمل من التهديد باحباط الوساطة وبتبديد التفاؤل بالتقدم الذي احرزته حتى الان .

ولو توفرت النوايا الحسنة من اجل تعزيز الثقة لانجاح الوساطة المصرية لكان اللقاء الممتنع حتى الان بين الرئيس الفلسطيني وبين رئيس المكتب السياسي لحركة حماس خالد مشعل خير اجراء لخلق مناخ من التفاؤل والاجواء الايجابية تمنح قوة دفع لكي تثمر الوساطة اتفاقا قبل استحقاقي تجديد التهدئة مع اسرائيل وتجديد الولاية الرئاسية وكلاهما تحول الى عامل ضغط على طرفي الانقسام بل وتحول لديهما الى اداة للضغط على الطرف الاخر بكل ما يعنيه ذلك من نتائج عكسية على كليهما وعلى الوساطة نفسها .

ويصعب على المراقب في هذا السياق الا ملاحظة حرص الرئاسة الفلسطينية على مواصلة اللقاءات العقيمة مع رئيس وزراء دولة الاحتلال الاسرائيلي ايهود اولمرت بالرغم من انتهاء ولايته باعتبار استمرار هذه اللقاءات من اهم اجراءات تعزيز الثقة لانجاح عملية للتفاوض يجمع اطرافها جميعا على انها انتهت بينما بقيت اجراءات تعزيز الثقة فيها بدءا من لقاءات عباس – اولمرت وانتهاء باستمرار التنسيق الامني ، ثم مقارنة هذا الحرص بالرفض الرئاسي الحازم لاقتراح الوسيط المصري واقتراح سوري مماثل بلقاء ثنائي بين قيادي وحركي بين الرئاسة وبين حماس .

ان الاشتراط المسبق الذي يضع العربة امام الحصان لابرام اتفاق ينهي الانقسام قبل أي لقاء ثنائي مع حماس (رئيس كتلة فتح البرلمانية عزام الاحمد) لا تفسير له سوى التعامل مع الوساطة المصرية وغيرها كوسائل ضغط على حماس لا كوسائط لبناء جسور وطنية معها تنهي الانقسام . كما ان رفض الرئيس عباس عقد الاجتماع الثنائي التمهيدي للتوافق على قضايا الخلاف مما يسهل الحوار "الشامل" اللاحق حولها ويقصر امده لا يظهر حسن نية من ناحية ، ولا يعزز الثقة من ناحية ثانية ، ولا يستجيب لرغبة الوسيط المصري ثالثا ، ويهدد وساطته رابعا ، ويهدد الحوار الوطني نفسه خامسا ، و يكشف سادسا ميلا لمواصلة نهج سابق هو الذي اوصل الوضع الفلسطيني الى ما ال اليه الان من حالة ماساوية ينذر استمرارها باوخم العواقب على اي مشروع وطني ، سواء كان تفاوضيا ام مقاوما .

كما ان تذرع الرئاسة الان بحجة عدم "تهميش" الفصائل الاخرى لرفض اللقاء الثنائي ينطوي على الكثير من التناقض ويشي بالكثير من المناورة فهذه الصحوة المفاجئة على الحق المشروع لهذه الفصائل في الشراكة والمشاركة لم تحدث الا بعد ان وجدت الرئاسة والفصائل معا في الخلاف "الثنائي" الاصلي فرصة مواتية للمطالبة بهذا الحق وقبل هذا الخلاف لم تختلف الفصائل ، وهي لا تختلف الان ، لا مع فتح ولا مع المنظمة ولا مع السلطة على برنامجهم السياسي الا في الهوامش بل انها كانت وما زالت جزءا لا يتجزا من هذا البرنامج ومؤسساته وغطاء "تعدديا" و"يساريا" و"قوميا" له .

ولذلك فان التوافق الوطني مطلوب ثنائيا اولا ، ولذلك ثانيا كان اتفاق مكة المكرمة ومثله المبادرة اليمنية هو اتفاق ثنائي في الجوهر ، ولذلك ثالثا يصبح هذا التوافق الثنائي شرطا مسبقا للتوافق الوطني التعددي لان من البديهي انه لا توجد أي ضمانات او مسوغات واقعية تجعل اي توافق بين حماس وبين الفصائل "الاخرى" مجتمعة او منفردة ملزما لفتح والرئاسة ، بينما العكس صحيح .

والتفسير الوحيد لاحباط هذا الاجراء "الثنائي" الهام لتعزيز الثقة هو استمرار "الفيتو" الاميركي المسلط على رقاب فريق الرئاسة الفلسطينية بعدم المصالحة مع حماس حتى ترضخ لشروطه ، كما اتضح من مسارعة هذا الفريق الى ابلاغ الاميركيين والاوروبيين بان اللقاء الذي جرى مؤخرا بين السفير الفلسطيني في القاهرة نبيل عمرو وبين موسى ابو مرزوق نائب مشعل انما كان مبادرة شخصية لم يكن الرئيس عباس على علم بها .

ان "التقدم" الذي تم احرازه في الوساطة المصرية ما يزال هشا وتمهيديا ولا يزيد على كونه اتفاقا على "اللقاء" اوائل الشهر المقبل للبدء في الحوار على قضايا ما زال الاختلاف عليها قائما ويهدد بتفجير الوساطة نفسها بينما يتطلب الاتفاق حولها بيئة مختلفة تماما عن البيئة الحالية للحرب الباردة المستمرة بين طرفي الانقسام اعلاميا وسياسيا واعتقالا واستقواء بالخارج . ومما لا شك فيه ان انجاح الوساطة المصرية وبالتالي الحوار الفلسطيني يتطلب حسن النوايا وتوفير كل الاجراءات الممكنة لتعزيز الثقة غير المتوفرة حتى الان .

*كاتب عربي من فلسطين
nicolanasser@yahoo.com*

ليست هناك تعليقات: