الجمعة، أكتوبر 24، 2008

إلى روح الشهيد فتحي الشقاقي

محمد داود

ثلاثة عشر عاماً تمر على استشهاد الدكتور والمفكر الإسلامي فتحي الشقاقي "أبو إبراهيم" مؤسس وأمين عام حركة الجهاد الإسلامي في فلسطين، عندما أقدمت وحدات مختارة من الموساد الإسرائيلي باغتيال الشقاقي، أثناء سيره في أحدى أزقة جزيرة مالطا قادماً من ليبيا، وهي تأتي في سياق سلسلة من عمليات الاغتيال الجبانة التي نفذتها تلك الوحدات المحترفة والنشطة في العالم لقتل وتصفية رموز وعلماء ومقاومي أبناء شعبنا الفلسطيني، الذي يتطلع للحرية والاستقلال وكنس الاحتلال، بدءً من الشهيد الرئيس ياسر عرفات وخليل الوزير وصلاح خلف وغسان كنفاني وماجد أبو شرار وكمال ناصر و أبو يوسف النجار وكمال عدوان وأبو الهول ومعين بسيسو والشيخ أحمد ياسين والرنتيسي وأبو علي مصطفى وعماد مغنية و... والقافلة تسير على درب الآلف من الشهداء الفلسطينيين والعرب والمسلمين وغيرهم الذين اغتالتهم عناصر وفرق الموت الإسرائيلية المنتشرة حول العالم. وبهذا الرعيل عبر صيرورة تاريخية ومستمرة من القادة والرموز الذين قضوا نحبهم ونحن الباقون، "مشاريع الشهادة ننتظر" كما قالها الرئيس الشهيد عرفات.

وللحديث عن حياة الأسطورة الشهيد "الشقاقي" ضرب من الشوق لا يمكن حصره في هذا المقام الرفيع، فقد تميزت بطابع خاص عنوانها البساطة والتوكل على الذات والإخلاص للدين والوطن، خاصة بعد رحيل والدته وهو في سن الطفولة، فتعمقت متابعته للقضية الفلسطينية والتخاذل العربي في مواجهة المشروع الصهيوني فتأثر بالفكر الناصري، ولكن هزيمة 67 تركت فراغاً شاسعاً في نفسه جعلته يبتكر وسائل جديدة تحطم جدار صمت المرحلة التي اتسمت بالتراجع العربي والدولي اتجاه مقاومة ورفض المشروع الصهيوني الآخذ في التشبث والتعاظم على أرض فلسطين، فكانت الحاجة لميلاد تيار إسلامي راديكالي مقاوم ينهض جنباً مع التيارات القومية الفلسطينية والتحررية المقاومة، وقد سجلت معركة الكرامة أروع البطولات والانتصارات للشعب الفلسطيني ولـ م.ت.ف، والتي تزامنت مع سلسلة كبيرة من العمليات الفدائية، ولكن سرعان ما تعرض الفلسطينيون لمحاولات وأد في أيلول الأسود ولاحقاً في لبنان وتركهم عزل يصارعون الاحتلال والمتآمرين على تصفية القضية والشعب الفلسطيني، فشعر أن المشروع الوطني والمشروع الإسلامي في تحدي وبحاجة إلى مؤازرة، ودعم بأدوات جديدة نوعياً وليس كمياً لتكون هي البوصلة التي تحافظ على اتجاهها نحو القدس وفلسطين إذا تاه الآخرون عن الطريق، من خلال إشراك المقاومة الإسلامية التي تنبأ لمستقبلها المشرق بفكره المستنير، متمنياً ميلاد روحاً ثورية تسري في دماء ووجدان الأمة الإسلامية لتخرجها من سباتها لتنهض وتؤازر حركة التحرر الوطني الفلسطيني "فتح" وبطابع نوعي وثوري في الفكر قبل أن يكون ثورة على الأرض وجهاد للنفس قبل أن يكون جهاد للعدو وإيمان في القلب ووعي في العقل قبل أن يكون ثورة على المحتل، في زمن سئمت الأمة من أداء الحركة الإسلامية المحبط التي أهملت الكفاح المسلح والمقاومة والثورة، على حساب الإصلاح والتربية التي أهملت قضية فلسطين والكفاح المسلح بحجة مرحلة التربية والإعداد عند الأخوان المسلمين، وانتظار الخليفة عند الأحزاب والتيارات السياسية والإسلامية الأخرى، "وهي سمة المرحلة بحذافيرها، فجاء الشقاقي ليطرح مشروعه النهضوي الثوري الذي جمع به بين "القرآن والبندقية" فأسس هو ورفاقه حركة الجهاد الإسلامي أواخر السبعينيات وعلى إثرها اعتقل عدة مرات في السجون المصرية لخطاباته ومؤلفاته الثورية انتهت بالهروب والعودة إلى أرض الوطن، ليواجه نفس المصير لارتباطه بأنشطة عسكرية والتحريض ضد الاحتلال الإسرائيلي، ونقل أسلحة إلى غزة، كان السعي من أجل إملاء الفراغ والانقلاب على الواقع المرير ليحرك هذا السكون والجمود المطلق في لحظة كانت تعيش القضية الفلسطينية أخطر مراحلها بعد أن تمكنت إسرائيل من إلحاق الأذى بالمقاومة المسلحة داخل الضفة والقطاع وإضعافها عقب اجتياح بيروت وخروج منظمة التحرير إلى الشتات، وهكذا أضحت هذه المرحلة التي أشبه باليوم، عنوانها الضياع والتراجع والجهل والتيه حتى جاءت انتفاضة الحجارة 87 وما تبعها من ثورة السكين والسيف، أبطالها الشهداء "طلال الأعرج ورائد الريفي" ليكون أول من دعا إليها ومارسها حركة الجهاد الإسلامي تحت شعار تقديم الواجب على الإمكان وكوسيلة ناجعة تخلق نوع من التوازن للرد على العدوان الإسرائيلي الهمجي المستمر على شعبنا الفلسطيني الأعزل، لكن النقلة النوعية سجلتها حركة الجهاد عقب عملية بيت ليد البطولية فأصبح الشقاقي على أثرها هدفاً يقض مضاجع زعماء الاحتلال وجنودهم، فأصدروا التعليمات بضرورة الخلاص من هذا العالم الثوري الذي يحمل فكر مختلف ومغاير عنوانه : " زوال إسرائيل حتمية قرآنية" محطماً بذلك جدار الصمت والخوف واللامبالاة والتعصب، فأدرك الشهيد الشقاقي أنه أصبح هدفاً رغم الاحتياطات الأمنية تمكنت أجهزة الموساد الصهيوني النيل منه واغتياله في مالطا يوم الخميس26/10/1995 وهو في طريق عودته من ليبيا إلى دمشق بعد جهود قام بها لدى العقيد القذافي بخصوص الأوضاع المأساوية للشعب الفلسطيني على الحدود المصرية، وباستشهاده يكون قد أسدل الستار عن رجل من القلائل الذين حافظوا على الأمانة وعاشوا حياتاً قصيرة من أجل فلسطين القضية والشعب.

فرحمك الله سيد فلسطين "أبو إبراهيم" والتحية والسلام إلى روحك الطاهرة .. عشت بطلاً في وجدان وضمير شعبنا الفلسطيني والأمتين العربية والإسلامية بعد أن وضعتهم على أبواب النصر والتحرير لتنقل الرسالة وتحكي للأجيال قصة رجل كرس حياته من أجل المقاومة والبطولة والعطاء ... إلى أن غادرتها بطلاً للّقاء ربك ... فسلام إليك وأنت تعيش في أحلامنا ومخيلتنا، وتطلعاتنا وآمالنا وصمودنا على البقاء والتحرر... فالعهد هو العهد، والقسم هو القسم بكل صدق وإخلاص .

كاتب وباحث

ليست هناك تعليقات: