الخميس، أكتوبر 23، 2008

صراع الأمل .. مع الجاهلية والجهل

صبحي غندور

تعيش الجالية العربية في أميركا محنة ارتجاج وضعف في الهويتين العربية والأميركية. فالمهاجرون العرب، أينما وُجِدوا، ينتمون عملياً إلى هويتين: هوية أوطانهم العربية الأصلية ثمّ هوية الوطن الجديد الذي هاجروا إليه. وقد تفاعلت في السنوات الأخيرة، خاصّة عقب أحداث 11 سبتمبر 2001، جملة تطوّرات انعكست سلبياً على الهويتين معاً. ففي الحالة الأميركية أصبح المواطن الأميركي ذو الأصول العربية موضع تشكيك في هويته الأميركية وفي مدى إخلاصه أو انتمائه للمجتمع الأميركي. وقد عانى الكثير من العرب في عدّة ولايات أميركية من هذا الشعور السلبي لدى معظم الأميركيين حيال كل ما يمتّ بصلة إلى العرب والعروبة والإسلام.

أيضاً، ترافق مع هذا التشكيك الأميركي بضعف "الهوية الأميركية" للأميركيين ذوي الأصول العربية، تشكّك ذاتي حصل ويحصل مع المهاجرين العرب في هويتهم الأصلية العربية، ومحاولة الاستعاضة عنها بهويات فئوية بعضها ذو طابع طائفي ومذهبي، وبعضها الآخر إثني أو مناطقي أو في أحسن الحالات إقليمي.

وإذا كان مردّ التشكيك الأميركي ب"الهوية الأميركية" للمهاجرين العرب هو "الجهل"، فإنّ سبب ما يحدث من تراجع وضعف في مسألة "الهوية العربية" على الجانب الآخر هو طغيان سمات مجتمع "الجاهلية" على عموم المنطقة العربية وانعكاس هذا الأمر على أبنائها في الداخل وفي الخارج.

وحينما تصل سيدة أميركية إلى حدّ توصيف مرشح الرئاسة الأميركي باراك أوباما بأنّه "عربي" ومن أجل ذلك لا تثق به، فإنّ ذلك خير دلالة على مدى الجهل المهيمن على معظم الأميركيين في مسائل الشعوب الأخرى وثقافاتها، وفي الخلط الذي يحدث داخل المجتمع الأميركي بتعميم التسمية بين كل عربي ومسلم، وفي عدم التمييز بين الدين والجماعات السياسية والهويات الثقافية والوطنية.

هو جهل أميركي مشحون منذ عشرات السنين في التشويه والسلبية ضدّ العرب والإسلام، ثمّ جاءت الأعمال الإرهابية في 11 سبتمبر 2001 لتعطيه زخماً كبيراً من الخوف والحذر وعدم الثقة بكل ما هو عربي وإسلامي.

هذا "الجهل الأميركي" استفادت منه ولا تزال القوى والجماعات الدينية والسياسية الأميركية الحاقدة على العرب، وهي توظّفه في أجنداتها الداخلية وفي مسائل السياسة الخارجية.

ورغم الدور الهام الذي تقوم به مؤسسات وجمعيات ومراكز عربية وإسلامية في الردّ على هذا التشويه وفي نشر المعرفة السليمة عن العرب والإسلام، فإنّ هناك انعداماً لتوازن القوى والإمكانات والعدد بين ناشري "الجهل" وبين الساعين لتعميم المعرفة السليمة.

في الجانب الآخر، فإنّ ضعف الهوية العربية يساهم حتماً في ضعف دور الجالية العربية وفي مسؤوليتها عن نشر المعرفة الصحيحة بالعرب والإسلام وبالقضايا العربية. و"فاقد الشيء لا يعطيه"، ولا يمكن أن ينجح العرب في الغرب بنشر الحقائق عن أصولهم الثقافية القومية والحضارية الدينية إذا كانوا هم أنفسهم يجهلونها، بل ربّما يساهم بعضهم من المتأثّرين سلباً بما هو سائد الآن من تطرّف بالمفاهيم الدينية والإثنية في نشر مزيد من الجهل في المجتمعات الغربية، وفي تأجيج المشاعر السلبية بين الشرق العربي والإسلامي وبين الغرب العلماني والمسيحي.

ثمّ إنّ انعدام التوافق على "الهوية العربية" لدى المهاجرين العرب سيجعلهم يتحرّكون وينشطون في أطر فئوية محدودة تقللّ من شأنهم وتأثيرهم، كما تغشي بصيرتهم عن أولويّات العمل المطلوب، فينحصر الهمّ لدى بعضهم ب"الآخر" من أبناء الوطن أو الدين الواحد المشترك. وفي الأحوال هذه، لا يمكن أن تكون هناك جالية عربية واحدة، أو جالية مسلمة واحدة، أو عمل مشترك مؤثّر في عموم المجتمع الأميركي أو الغربي عموماً.

الملامة هنا لا تقع على المهاجرين العرب أنفسهم وحسب بل على المناخ الانقسامي السائد في معظم البلدان العربية، وعلى سيادة الأفكار والتصريحات التي تفرّق بين أبناء المنطقة العربية ولا توحّد. فاللوم أوّلاً وأخيراً على الأوطان الأصلية التي يهاجر الشباب العربي منها بكثافة كبيرة، والتي تظهر فيها وتنمو جماعات التكفير والرفض للآخر، والتي تتحمّل أيضاً الحكومات القائمة فيها مسؤولية تردّي الأوضاع والنظم السياسية والاقتصادية والاجتماعية ممّا يزيد من توفير البيئة المناسبة لجماعات التكفير في الداخل، وللتشجيع على الهجرة إلى الخارج.

هي ظواهر "المجتمع الجاهلي" ما نرى الآن يحدث في عدّة بلدان عربية من قضايا ذات صلة بالعصبية ومن جرائم قتل الأبرياء وتقسيم الناس وأبناء الوطن الواحد إلى جماعات وفرق طائفية ومذهبية وإثنية متصارعة.

فالفهم الخاطئ للعروبة والدين هو أيضاً حالة مرضية قائمة الآن في المجتمعات العربية كما هي علّة مستديمة في المجتمعات الغربية.

ولنتخيّل آثار هذا المزيج من "الجاهلية" العربية و"الجهل" الغربي على مستقبل العرب وأوطانهم. فبمقدار ما تسود "الجاهلية" في أوطان العرب، بمقدار ما يسهل هوانهم واحتلال أراضيهم وتدخّل الآخرين في شؤونهم. كذلك الأمر في مخاطر تواصل وزيادة "الجهل" الغربي عن العرب والإسلام والذي سيفرز حكومات وأيديولوجيات كالتي قامت عليها إدارة بوش وما مارسته من أجندة سياسية وعسكرية في البلاد العربية والإسلامية.

هناك حتماً مؤشرات خير تنبثق الآن في الجانبين العربي والغربي، لكنّها ما زالت في طور النموّ أو بأشكال محدودة. والأمل طبعاً أن ترتفع أكثر أصوات الدعوة إلى التضامن الحكومي وإلى التوحّد الشعبي في المنطقة العربية، كما هو الأمل أيضاً بأن تكون الانتخابات الأميركية القادمة بداية نهاية عهد إشعال الفتن وتغذية الأحقاد، والذي لم تسلم أميركا نفسها من مصائبه!

إنّ الساحة الأميركية (كما هي كل ساحات دول الغرب) مفتوحة لبثِّ السموم والأحقاد على الإسلام والعرب، لكن أيضاً هي ساحة مفتوحة (ولو بظروفٍ صعبة) على العرب والمسلمين لكي يصحّحوا الصورة المشوَّهة عنهم وعن أصولهم الوطنية والحضارية. وكما هناك العديد من الحاقدين في الغرب وأميركا على العرب والمسلمين، هناك أيضاً الكثيرون من أبناء أميركا والغرب الذين يريدون معرفة الإسلام والقضايا العربية من مصادر إسلامية وعربية بعدما لمسوا حجم التضليل الذي كانوا يعيشونه لعقود. فالغرب تحكمه الآن حالة "الجهلوقراطية" عن الإسلام والعرب والقضايا العربية، وهي الحالة التي تجمع بين مجتمع ديمقراطي تسهل فيه الحركة السياسية والإعلامية، وبين تجهيل يمارسه البعض لمسائل تتعلّق بالعرب وبالمسلمين وبقضايا المنطقة العربية.

لذلك، من المهمّ أن يعمل العرب والمسلمون في أميركا والغرب على تعميق معرفتهم بأصولهم الحضارية والثقافية وأن يقوموا بالفرز الفكري بين ما هو "أصيل" وما هو "دخيل" على الإسلام والثقافة العربية. كما سيكون من الأجدى أن يعمل المهاجرون العرب على بناء النماذج الصحيحة لأنفسهم ولأوطانهم الأصلية من خلال اغتنام فرصة وجودهم المشترك في أوطان جديدة تسمح أوضاعها الدستورية السليمة بتفاعل إيجابي خلاّق فيما بينهم، ينتج عنه تصحيحٌ لا للصورة المشوّهة عنهم وعن أصولهم الثقافية والحضارية فقط، بل تصحيحٌ وتقويمٌ لأنفسهم أيضاً ولما يمكن أن يشكّلوه من نموذج مطلوب لتكامل وتضامن كل الأمّة العربية.

ليست هناك تعليقات: