الأحد، أكتوبر 12، 2008

حك ذاكرة الشاطرين في ذكرى 13 تشرين

الياس بجاني
"فتَأتي ساعةٌ فيها يَسمَعُ صوتَه جَميعُ الَّذينَ في القُبور فيَخُرجونَ مِنها، أَمَّا الَّذينَ عَمِلوا الصَّالحات فيَقومون لِلحيَاة وأَمَّا الَّذينَ عَمِلوا السَّيِّئات فيقومونَ للقضاء".
)القدّيس يوحنّا 24:5(

في الذكرى الـ 18 للمجزرة الرهيبة التي ارتكبها النظام السوري البعثي والقوى اللبنانية والإقليمية والأصولية والإرهابية اللقيطة في 13 تشرين الأول 1990، ننحني إجلالاً وإكراماًً أمام أرواح شهداء وطن الأرز من عسكريين ومدنيين ورهبان، وأمام آلاف المعاقين والجرحى، وبخشوع نرفع الصلوات إلى الله طالبين منه بشفاعة قديسي لبنان شربل ورفقا والحرديني ويعقوب أن يريح أنفس الذين قضوا في ساحة الشرف، ويبلسم جراح المعذبين والمرضى ويعيد المساجين والمخطوفين والمنفيين.

الشهادة للحق تفرض علينا اليوم أن نقارن موقع الجنرال عون وخطابه والمواقف في 13 تشرين 1990 ، ذلك اليوم التاريخي الدامي، وبين موقع وخطاب ومواقف الرجل اليوم. ففي ذلك اليوم كان في قصر الشعب، وفي قلوب وضمائر اللبنانيين، رافعاً بيارق السيادة والحرية والإستقلال، واليوم هو وللأسف في بلاد الفرس ومغرب في وطنه وغريب بين ناسه ، ورافعاً رايات "ولاية الفقيه"، وحامياً لسلاح إرهابي وأصولي هدفه القضاء على الكيان اللبناني، لبنان الرسالة والتعايش.

فشتان بين الموقعين وبين الرجلين!!

نعود بالذاكرة إلى ساحات قصر الشعب، حيث كان هناك قائداً للجيش، صار رئيساً للحكومة الانتقالية، نعود متذكرين مشهد مئات الألوف من اللبنانيين يلتفون حول القائد الذي وقف في وجه المحتل السوري وأعوانه. تعود بنا الذاكرة إلى حيث كان أفراد الشعب اللبناني يفترشون باحات (قصر الشعب) ويستظلون الصنوبر المحيط به. كانوا هناك مع أولادهم وأقربائهم وجميعهم صعدوا إلى (قصر الشعب) ينتظرون بفارغ الصبر أن يُطلّ عليهم الجنرال ليبثَّ فيهم الروح الوطنية ونفحة المقاوَمة. كان المحتشدون يُعطون ولا يأخذون. ليل 12 - 13 تشرين الأوَّل، تفرَّق الناس من باحات القصر، وقيل يومها إن الجنرال طلب منهم المغادرة لأن مطَّلعين على القرار أبلغوا إليه أن الساعة الصفر اقتربت.

المشهدُ اليوم مختلف تماماً، فبعد 18 عشر عاماً يقف الجنرال في قاطع غير القاطع السيادي، ومع غير شعب القصر. يقف مع الذين أخرجوه منه وقتلوا جنوده ودمروا وطنه. نعم، إن الذين أخرجوه من القصر عسكرياً هُم حلفاؤه اليوم. منهم من يجلس إلى طاولته بصفته عضواً في كتلته النيابية، ومنهم مَن يتردّد عليه في الرابية ليشيد بمقاومته لأميركا والغرب والقرارات الدولية، ومنهم من أصبح وديعة في حزبه، ومنهم من يشد على يده كلما تهجم على بطريرك الموارنة والصرح البطريركي.

18 عشر عاماً انقلب فيها المشهد، لكن أبطال المسرحية ما زالوا هم إيّاهم وإنْ تغيَّرت أدوارهم. كانوا في طليعة المتقدِّمين والمهاجمين لقصر الشعب، واليوم هم حلفاء الجنرال بعد أن وقع في شر أطماعه وتخلى عن كل ماضيه واسقط شعاراته الوطنية والسيادية وأمسى مدافعاً عن سوريا الأسد الذي قال يوما للبنانيين بأنه سيكسر رأس أسدها!! لقد سقط الرجل في فخ أطماعه وأضاع البوصلة فانحدر وطنياً إلى ما تحت التحت.

في تشرين الأوّل 1990 كان حلفاء الجنرال اليوم يتفنَّنون في إيجاد الصفات "المسورنة" لإلباسها له: فمن "الجنرال الصغير" إلى "قائد التمرُّد" و"المتصهين" و"العميل، و"المجنون"، وغيرها الكثير من المفردات البعثية العكاظية، أما اليوم فهؤلاء هم أنفسهم (حلفاء الإحاطة) يكيلون له المدائح ويحرضون على السياديين والاستقلاليين.

ما هكذا كنّا نريد الذكرى، كنّا نريد لشعب لبنان العظيم الذي أمضى أيامه ولياليه في قصر الشعب أن لا يكفر بهذا الرجل الذي انقلب على ذاته وعلى أهله وثوابت الوطن. إلا أن الحقيقة هي غير ذلك والجنرال اليوم هو مشكله قاتلة للبنان الوطن بسيادته وحريته والاستقلال، بل سرطاناً لا أمل من علاجه ينخر عظام مجتمعه المسيحي ويعمل على نحر كل تاريخه وثقافته والثوابت.

لقد كفر الجنرال بالقيم، وانقلب على الثوابت، وتنكر لمرجعته الدينية التي أعطي لها مجد لبنان، ونقض كل خطابه السيادي، وأفلس وطنياً وأصبح يبرر ما يقوم به من ممارسات هجينة بأخطاء وخطايا من كان ينتقدهم ويتهمهم بالخيانة والعمالة.

باع الغالي والنفيس من شعارات الوطن والحريات التي رفعها منذ 1988 وحتى عودته من المنفى سنة 2005 وأصيب بغشاوة البصر والبصيرة فتعامى عن أن الزعامة المسيحية لا تمر من دمشق ولا من طهران ولا من الضاحية الجنوبية، بل بساحة الشهداء وبالرابع عشر من آذار، فهذا التاريخ هو الذي حقَّق الشراكة في الوطن والمواطنية بعدما انتزعها من أيادٍ حوَّلت المواطنين إلى أتباع لا شركاء، فهل يُدرِك العماد هذه الحقائق؟

نقول للجنرال إن شهداؤنا يخاطبوننا ويقولون لنا أن لبنان الحر والسيد المستقل لن يكون مباحا للمارقين والمرتدين والمتلونين، بل للذين ارتبطت أسماؤهم بسجل الشهادة والعطاء والصمود، وهم يحثوننا ليعود كل واحد منا إلى ذاته وربه. لنقف في ذكرى استشهادهم وقفة ضمير ونخاطب أرواحهم ونجري معهم جردة حساب.

من القلب هنيئا للشهداء وهنيئا لنا إن عرفنا عيش الشهادة لان الشهادة الحقة هي استشهاد من نوع آخر ودماؤهم تناشدنا لنشهد للحقيقة ولنرذل المرتدين والشاطرين من أهلنا والقيادات.

لا بد من فرك وحك وجدان وضمير الجنرال لعل في العمل هذا ما يوقظ في أعماقه شريط الذكرى الأليمة بأوجاعها وتضحياتها الجلل والدماء الطاهرة التي أرقيت!!

هل يذكر أنه في ذلك اليوم المشؤوم تعرضت منطقة بكاملها للقصف الجوي والبري المكثفين ومن ثم دخل جيش الاحتلال السوري ومعه فلول المرتزقة إلى المنطقة لترتكب المجازر بحق جيشنا والأبرياء والعزل من أهلنا؟

هل يذكر أن هؤلاء دنسوا القصر الجمهوري ووزارة الدفاع، وأنه تخللت العملية الإرهابية تصفية المئات من العسكريين والمدنيين بعد أسرهم؟

هل يتذكر أنه تمت تصفية 117عسكريا في ضهر الوحش، و14 مدنيا في بسوس بينهم قاصرون، و26 في دير القلعة في بيت مري، فضلا عن خطف الراهبين الانطونيين الابوين شرفان وابي خليل؟

هل لا زال يتذكر المقبرة الجماعية للعسكريين التي تم اكتشافها في باحة وزارة الدفاع الوطني؟

نسأل الجنرال كيف طاوعه ضميره على أن ينكر وعلنية وجود معتقلين في السجون السورية وهو يعلم علم اليقين أنه تم في 13 تشرين 1990 اسر العديد من المدنيين والعسكريين، بعضهم قتل، والبعض الآخر أُفرج عنه، فيما المئات لا يزالون يقبعون في غياهب السجون السورية، وهل غابت عن باله جريمة اغتيال داني شمعون وعائلته؟

بالتأكيد لم ينسى الجنرال كل هذه الأحداث المؤلمة، ولكن الأكيد أيضاً أنه يتناسى عن سابق تصور وتصميم لأن قبلته أصبحت السلطة وكل ما عداها لا قيمة ولا وزن له في قاموسه الجديد.

عاليا نرفع الصوت لكشف مصير المفقودين والمخطوفين كافة القابعين ظلماً وعدواناً في السجون السورية وسط إنكار وتخلي لوجودهم ليس فقط من قِبل جلاديهم البعث وخاطفيهم منظمات الإرهاب والأصولية ورموز حقبة الاحتلال السوري للبنان من رسميين وسياسيين ورجال مليشيات، بل وبوقاحة وتخدر ضمير وجحود غير مسبوقين من قبل الجنرال نفسه الذي وللأسف منحه الشعب ثقته والولاء طوال سنوات وصدَّق أنه يحمل لواء القضية والهوية والحريات، فإذا به ينقلب على ذاته والطروحات بعد عودته من المنفى وينتقل بخياراته المستجدة وتحالفاته الهجينة إلى قاطع محور الشر.

كنّا نتمنى اليوم أن يكون الجنرال في موقع من مواقع الكرامة والعزة والعرفان بالجميل للشهداء، أو حتى رئيساً في بعبدا قلعة الصمود حينذاك، أمّا أن يكون في الضاحية الجنوبية وطهران وقصر المهجرين ومع البعث السوري وكل أيتامه عندنا من مافياويين ومرتزقة ومأجورين وانتهازيين وأصوليين وتجار مقاومة فهذا والله كفر وجحود وتناسٍ للذكرى وتغييب لمعناها وخيانةً لدم الشهداء

نتمنى لو أن الجنرال يتذكر قول مار افرام السرياني: "أن نموت في الجاد أليق بنا من أن نحيا في السقطة والذل. هذا العالم ميدان جهاد وقد أوجب علينا الرب ألا يقف جهادنا حتى النهاية".

هذا المقال كان نشر السنة الماضية في نفس الذكرى، وهو يعاد نشره اليوم مع بعض التعديلات حيث أن المأساة هي هي، وجنرال الربية هو هو، وقد حطت به الرحال في بلاد الفرس، والمعاناة هي هي، والوجع هو هو، والحسرة والخيبة على حالهما، إلا أننا شعب يعيش على الرجاء والنصر بإذن الله سيكون للحق وللبنان الرسالة مهما طال الزمن.

ليست هناك تعليقات: