الأحد، أكتوبر 26، 2008

نوَّرْت مصر

سعيد الشيخ

اذا قُدّر لك ان تزور مصر كسائح ستلمس الجهود الهائلة التي تعمل عليها الحكومة المصرية من اجل انتاج سياحي يستطيع المنافسة الدولية... وشعار " نوّرت مصر" الذي ترفعه وزارة السياحة المصرية في اعلاناتها لجلب السياح، لا شك انه شعار ذكي يراد منه بسط الانطباع الطيب لدى السائح الذي يقصد مصر لسببين اساسيين وهما التاريخ والشمس. وهناك اسباب اخرى توفرها الفنادق لنزلائها كالبرامج الترفيهية التي لا تخلو من الرقص الشرقي الذي بات له شعبية واسعة لدى قطاعات واسعة من الاوروبيين الذين تشدهم رجرجة البطن... وستندهش كثيرا ان كنت عربيا من اجادة الراقصات الروسيات والالمانيات للرقص الشرقي على مستوى يفوق احيانا مستوى الراقصات المصريات اللواتي يؤدين عملهن بملل واضح امام جمهور اوروبي لم يتعوّد على إداء "النقطة" أو البقشيش المنتشر في الحياة المصرية بشكل واسع.

لو قدّر لك ان تزور مصر كسائح فأنت منذ البداية دولار يمشي!
فالمواطن المصري الذي يشعر بالغبن والتهميش من قبل حكومته يجد ضالته في حشود السياح الدافقة على مدار السنة الى مصر، في الاسترزاق وتعويض ما يعتقده حق له بعد انتقاص الدولة لحقوقه الاساسية. لذلك فالسائح المقدم على شراء سلعة ما او بحاجة لخدمة ما ، هو واقع في مصْيَدة لا مناص منها حتى يتم دفع ما لا يدفعه المواطن المصري نفسه. وان حاول السائح الاحتجاج على استغلاله فسيسمع اجوبة هي الشكوى بعينها عن واقع أليم يرزح تحت وطأته ملايين الفقراء في مصر المحروسة. وكلمات المواساة هنا ليست هي المطلوبة، بل المطلوب ان تخرج من جيوبك الثمن الاعلى من الثمن المتداول كي تبدو انسانا راقيا ومتفهما ، ولكن سائق التاكسي لن يراك كذلك بانسانيتك وانت تترجل من على الرصيف (اذا كان هناك من رصيف غير مشغول من الباعة وكراسي المقاهي) لتقطع الى الجهة المقابلة من المكان المخصص للمشاة، بل سيغير عليك بسيارته ليسألك ان كنت بحاجة لأن يوصلك الى مكان ما.
يقول لك المرشد السياحي لا تدفع اكثر من عشرة جنيهات اجرة لتاكسي تقلك من الفندق الى وسط البلد ، وهذه العشرة ما كان يقبلها اي سائق لسيارة مخلخلة مع عدّاد معطل أو مهجور. ويقول لك المرشد عليك ان تساوم في الاسعار ، فكيف تصل الى السعر المناسب وهو مضاغف عن السعر الحقيقي عدة مرات. واسوق هذه الواقعة كمثال: سعر كيس البطاطا المقرمشه(شبس) في الاسواق العادية ثلاثة جينهات وفي محل بمكان سياحي تكتشف ان البائع بيده الحنونة قد طبع على وصل البيع ثمانية وعشرون جينيها.

لقد استطاعت الاجهزة الامنية المصرية بمساعدة بعض المواطنين الشرفاء ان تحد من ظاهرة النشل في المواصلات والامكنة العامة، ولكن ليحل مكانها على ما يبدو ظاهرة السرقة المنظمة في غياب المساءلة القانونية عن تحديد الاسعار واشعار الزبون بها قبل اقدامه على الشراء.

في واقع الحال المعيشي المصري تبدو السياحة ترفا لا يتناسب مع الظروف المحيطة... قبل ان تطأ رجليك ارض الكنانة تكون لديك صورة قاتمة كوّنتها من خلال القراءات ومشاهدة الافلام المصرية عن المجتمع الرازح تحت وطأة الجوع والقلّة والعوز، ولأنك تسافر مع شركة منظمة للسياحة فأنك لن تلامس هذا الواقع أبدا، بل ستذهب بك هذه الشركة الى حيث البذخ والكمال في مستوى العيش وذلك حسب نجوم الفندق الذي حجزت فيه اقامتك القصيرة ... وهنا يداهم خاطرك المثل المصري: "الذي معه قرش يسوى قرش" وهو المثل الذي تعوّدت سماعه بشكل متكررمنذ الصغر عند مشاهدة الافلام، ولم يكن يروق لك لأنك مبكرا آمنت بالقيمة الانسانية. وهذا الشعور سيسبب لك صدمة وانت ترى الطوابير في بعض الاحياء ما زالت طويلة امام الافران للحصول على الرغيف بينما فائض الاطعمة الفاخرة في الفنادق يرسل الى المزابل.

وتشعر ان الكل مشغول بك، وكلمات التبجيل تحوطك . وكل ذلك من اجل "بقشيش" تعتقد انه لا يسمن ولا يرد عن جوع ولكن للمواطن المصري يعني الكثير... وستعرف كم يعني عندما شرطيا يحرس باب بنك مغلق قصدته للتبديل الى عملة مصرية. كيف هذا الشرطي يترك مكان حراسته ويرافقك الى شارع آخر حيث بنك آخر مازال موظفوه في ساعات الدوام.

الجوع في مصر ليس فقط في البطون.. فلو قدّر ان يكون برفقتك امرأة هي زوجتك او ابنتك او أختك فسترى جرأة العيون الجائعة تخترقها طولا وعرضا. وربما همست لك بغضب انهم يلامسون اجسادهم بجسدها. وهنا لا تدري ان كانوا يقصدون او ذلك بسبب الزحام. ولكن نهم العيون لا يترك شكاً بأن الجوع على كل المستويات. وتفكر بأن سينما السبعينيات وما تلاها بقليل والتي قدمت لنا كل ذلك العري وتلك الاثارة كأنها ما كانت تأتينا من مصر ونحن في مجتمعاتنا العربية المحافظة والفقيرة.

ليت الطبقة المصرية الحاكمة التي افلحت في وضع برامج السياحة لجلب المليارات والمزيد من الاستثمارات الاجنبية فكرت بملايين الفقراء من المواطنين ووضعت لهم البرامج للقضاء على الفقر والتخلف... فنهضة مصر تبدأ بالانسان المصري وليس بظاهرة سياحية تستفيد منها فقط طبقة سيطرت على السلطة برأسمالها المتوحش.
صحيح ان مصر ارض واحدة .. ولكن فيها كل تناقضات الارض.

ليست هناك تعليقات: