الاثنين، أكتوبر 27، 2008

بريتون وودز – 2" ليس الحل

نقولا ناصر
عندما "بشر" الرئيس الاميركي الاسبق جورج بوش الاب ب"نظام عالمي جديد" اوائل عقد التسعينات من القرن العشرين الماضي كان يقصد "عولمة" نظام الليبرالية والنيوليبرالية الراسمالية على النمط الاميركي الذي بدا في عهد سلفه رونالد ريغان ، او "اللانظام" كما اثبتت الازمة المالية الراهنة ، مستغلا انهيار الاتحاد السوفياتي كنظام منافس بديل ، لكنه ترك للرئيس بوش الابن تدشين البدء في عولمة النسخة الاميركية من الراسمالية باحتلال افغانستان ثم العراق لتبوء عولمة النسخة الاميركية من الراسمالية بما وصفه روبرت زوليك ، رئيس البنك الدولي ، ب"الفشل" ليتداعى القادة السياسيون للنظام الراسمالي الى عقد قمة واشنطن في الخامس عشر من الشهر المقبل ليبحثوا ضمن بنود اخرى على جدول اعمالهم مقترح رئيس الوزراء البريطاني غوردون براون عقد "بريتون وودز – 2" لوضع قواعد جديدة تمنع تكرار الازمة الحالية التي ضربت النظام الراسمالي العالمي الذي تاسس في "بريتون وودز – 1" عام 1944 .

لكن الازمة المالية الاميركية التي نجحت في "التعولم" بسرعة نجاحا يتناقض تماما مع الفشل الذريع الي واجهته محاولة عولمة النظام الذي خلقها تفتح نافذة فرصة تاريخية لمقاربة جديدة للاقتصاد العالمي ولبناء نظام عالمي جديد حقا يقوم على اساس التعددية في الاقطاب الاقتصادية والمراكز المالية والقوى العالمية امام الدول والشعوب التي تضررت من الازمة ونظامها الاميركي ومثلها تلك التي الخاسرة من النظام الراسمالي نفسه الذي فجر حربين عالميتين والعشرات من الحروب الاقليمية والاهلية ووسع الفجوة بين الدول الغنية وبين الدول الفقيرة وبين الاغنياء وبين الفقراء في الدول الراسمالية نفسها كما في الدول التي خضعت لاستعمارها المباشر او لهيمنتها السياسية او لنهب شركاتها العملاقة العابرة للقارات .

لقد استغل بوش الابن ظاهرة "القاعدة" التي رعاها قائدا النيورليبرالية ريغان في الولايات المتحدة ومارغريت ثاتشر في بريطانيا لمحاربة النظام السوفياتي البديل في افغانستان بعد هجمات الحادي عشر من سبتمبر / ايلول لكي يدشن حملته لعولمة نظامه باحتلال افغانستان ثم العراق وللهيمنة على منظمة الامم المتحدة وتحويلها الى مظلة شرعية دولية لفرض سلسلة من العقوبات السياسية والاقتصادية او التهديد بفرضها على بقايا حركة التحرر الوطني في ما كان يعرف بالعالم الثالث في زمن الحرب الباردة ونظام القطبين الدولي ، لترفض ادارته التصديق على معاهدة الحظر الشامل على التجارب النووية ، وتبطل عمليا معاهدة حظر الصواريخ المضادة للصواريخ البالستية ، وتعارض المحكمة الجنائية الدولية ، وتبدا حملة اتفاقيات ثنائية مع بلدان العالم لضمان حصانة جنودها المنفلتين دون رائع ضد أي ملاحقة قضائية وطنية او دولية ، وتنسحب من اتفاقيات كيوتو حول المناخ ، في سياق سلسلة من اتفاقيات التجارة الحرة الثنائية مع بلدان العالم كفاتحة ل"عصر السوق الحرة" امام احتكارات النيوليبرالية العابرة للقارات في "القرن الاميركي الجديد" ، باعتبار كل ذلك من معالم هذا القرن قبل ان تنفجر الازمة الراهنة لتتحول الى المعلم الاهم له الذي يهدد بكساد عالمي يجهد الان بوش وغيره من سادة القرن وسدنة السوق الحرة الى حماية انفسهم منه وليذهب العالم "الاخر" الى الجحيم .

لذلك كان من المريب ان تتكرر مرارا خلال ايام قلائل مؤخرا على السنة بوش والرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي وبراون وكبار مسؤولي المؤسسات التي اسسها "بريتون وودز – 1" عبارات "الفقراء" والدول الفقيرة" و"الدول النامية" بينما يتفادون الاشارة الى الملايين من ناخبيهم ودافعي ضرائبهم الذين تهدد الازمة بافقارهم داخل معاقل الراسمالية نفسها ، وان يتواضع بوش فيتحدث عن ضرورة ان "يعمل المجتمع الدولي معا لاننا في هذه الازمة معا" بعد ان لوى الاتحاد الاوروبي ذراعه لكي يقبل باقتراحه عقد سلسلة من مؤتمرات القمة الدولية حول الازمة تقرر ان تكون قمة واشنطن اولها ، لكي تجمع مجموعة الدول الثمانية الكبرى بعد ذلك على دعوة اهم "الدول النامية" مثل الصين والهند والبرازيل وكوريا الجنوبية لتنضم اليها في قمة العشرين بواشنطن منتصف الشهر المقبل .

لقد كان الامر مريبا لان المصلحة الحيوية الحقيقية للدول النامية والفقيرة تكمن في قيام نظام دولي اقتصادي وسياسي جديد تماما وليس في عقد "بريتون وودز – 2" لتجديد النظام القائم على الاسس التي وضعت في "بريتون وودز – 1" الذي لم تكن هذه الدول ممثلة فيه وبالتالي لم تكن شريكا اصيلا في النظام العالمي الذي اسست له بعد الحرب العالمية الثانية اذ كان معظمها مستعمرا او يناضل من اجل التحرر من الاستعمار تماما مثلما لم يكن الاتحاد السوفياتي السابق و"المنظومة الاشتراكية" التي كانت تدور في فلكه ممثلا فيه او شريكا في المؤسسات التي انبثقت عنه كصندوق النقد الدولي بالرغم من حضور جوزيف ستالين لاجتماعاته .

وعندما يجهر الرجل الاول في دولة نامية -- تربطها علاقات صداقة وتحالف عريقة مع الولايات المتحدة ولها نشاطها الفعال في المؤسسات التي انبثقت عن "بريتون وودز -1" ومع الدول الرئيسية القائدة للنظام العالمي الذي اسسه -- مثل خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز بان وراء الازمة المالية العالمية "حرب اقتصادية خفية" وان العربية السعودية ودول الخليج العربية الاخرى "هدف" لهذه الحرب تستهدف "زعزعة هذه النعمة" التي تتمتع بها فان الريبة تتعزز حد اليقين في ان الدافع لدعوة الدول النامية الى قمة واشنطن هو ان تكون شهود زور على تجديد النظام الاقتصادي والسياسي نفسه الذي فجر الازمة بحيث لا يعود مستبعدا ابدا ان يكون الهدف من الدعوة صرف انظار الدول النامية بعيدا عن مجرد التفكير بنظام بديل مستقل يؤسس لنظام عالمي اكثر عدلا بالنسبة لمصالحها ، ومما يزيد في الريبة ان الدول الراسمالية الاعضاء في مجموعة الثمانية قد اجتمعت واتخذت قرارها بانقاذ النظام الذي سيدها على العالم بعد ان قررت فيما بينها جدول اعمال قمة العشرين في واشنطن وقررت ان يكون عقد "بريتون وودز – 2" البند الاول فيه دون ان يكون للدول النامية أي راي في ذلك ، اما الدول الفقيرة فانها لم تكن واردة في الحسبان اصلا .

واذا كانت الازمة قد فتحت نافذة فرصة امام الدول الراسمالية الاعضاء في مجموعة الثمانية -- التي منحتها الازمة الجراة لادانة النسخة الاميركية النيوليبرالية للراسمالية علنا -- لكي تنتقل من وضع التبعية للقطب الاميركي منذ الحرب العالمية الثانية الى وضع للشراكة معه يتناسب مع وزنها الاقتصادي والمالي وبالتالي فان لها مصلحة في عقد "بريتون وودز – 2" لوضع اسس لنظام راسمالي تتعدد اقطابه وتكون ندا لا تابعا للقطب الاميركي فان مصلحة الدول النامية والفقيرة ليست واضحة في احسن الاحوال وهي متناقضة في اسوا الاحوال مع أي نسخة ثانية من "بريتون وودز – 1" .

فالداعون الى "بريتون وودز – 2" لا يسعون الى نظام عالمي جديد بل الى انقاذ الراسمالية والنظام الذي اسسته في "بريتون وودز – 1" وبتعزيز صندوق النقد والبنك الدوليين ومنظمة التجارة العالمية عن طريق توفير الية للرقابة على احتكارات القلة التي زج جشعها النظام الراسمالي في ازمته الراهنة لذلك يقولون ان الازمة "من صنع الانسان" ، لا ملازمة بنيوية للنظام نفسه كما قال ماركس ، واذا كان هناك فشل في النظام فانه فشل "الراسمالية على النمط الاميركي" ، لا فشل الراسمالية على الاطلاق ، وان شطط "الليبراليين الجدد" الاميركيين كان "جنونا" و "خيانة للراسمالية" كما قال ساركوزي عشية لقائه بوش في كامب ديفيد في الثامن عشر من الشهر الجاري ، وان علاج "هذه" الازمة الراسمالية يكون فقط بالمزيد من الراسمالية .

ان الدعوة التي وجهها براون ، التلميذ "العمالي" للنسخة البريطانية من النيولبرالية الاميركية التي كانت رائدتها في المملكة المتحدة زعيمة حزب المحافظين ورئيسة الوزراء السابقة ثاتشر ، لعقد مؤتمر "بريتون وودز – 2" هي من ناحية دليل على ان سدنة الراسمالية الليبرالية والنيوليبرالية انفسهم قد اعترفوا بفشلها وبمسؤوليتها عن الازمة الراهنة ، وهي من ناحية ثانية اعتراف منهم بضرورة البحث عن قواعد جديدة للنظام الراسمالي العالمي وبالتالي للنظام السياسي السائد حاليا ، وهذا في حد ذاته هو من ناحية ثالثة اعتراف منهم كذلك بضرورة اقامة نظام دولي جديد .

لكن الاهم هو ان ملخص دعوة براون هو تجديد النظام السائد ومنع انهياره ثم منع قيام نظام بديل واجهاض دعوات ومبادرات دولية متزايدة لا تحض على هدم النظام القائم بل تدعو فقط الى شراكة فيه تنهي الاحادية القطبية واحتكارها لصنع القرار الاقتصادي والمالي والسياسي ، شراكة بين القطاعين العام والخاص اثبتت نجاعتها في النموذج الصيني ، وشراكة دولية في الموارد الوطنية الحيوية للعالم لا تخرجها من ولاية السيادة الوطنية كما اثبتت جدواها في النموذج "البوليفاري" للاشتراكية الديموقراطية والنموذج الفنزويلي للتعاون الاقليمي الذي يقوده هوغو شافيز في الحديقة الخلفية اللاتينية للولايات المتحدة الاميركية ، لكن طموحات كهذه تقتضي الاستقلال عن بريتون وودز الاول والثاني ووضع قواعد جديدة للعلاقات الاقتصادية والسياسية الدولية ، لانه "عندما يتحدث الدبلوماسيون الأوروبيون والأميركيون عن شراكة مسؤولة مع القوى الصاعدة فإن ما يعنوه حقا هو أنه لا يجب السماح للصين والهند وباقي الدول الأخرى بتحدي القواعد والمعايير الموجودة" ، كما كتب فيليب ستيفنس في فاينانشال تايمز البريطانية مؤخرا .

فالحل للازمة الراهنة قد يكون لدى شافيز او في بكين ، لكنه بالتاكيد ليس في "بريتون وودز" اولى او ثانية او ثالثة فذلك سيكون مجرد وعد للدول النامية والشعوب الفقيرة بالمزيد مما هي فيه .

*كاتب عربي من فلسطين

nicolanasser@yahoo.com



ليست هناك تعليقات: