الأحد، أكتوبر 12، 2008

مسعى بحريني للتعلم من دروس التنمية اليابانية والسنغافورية

د. عبدالله المدني
صارت طوكيو وسنغافورة في السنوات الأخيرة محطتين مشتركتين في زيارات معظم قادة دول الخليج العربية إلى الشرق الأقصى. ولعل آخر الأمثلة الرحلة الحالية لولي عهد مملكة البحرين نائب القائد الأعلى لقوة دفاعها رئيس مجلس التنمية الاقتصادية فيها الشيخ سلمان بن حمد آل خليفة والتي حل فيها في طوكيو لأول مرة وفي سنغافورة للمرة الثانية. وهذه الزيارة لئن أكدت أن البحرين ماضية في حرصها على تمتين علاقاتها وروابطها مع شركائها التقليديين من دول الغرب الكبرى مثل الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا – شأنها في ذلك شأن شقيقاتها في منظومة مجلس التعاون الخليجي – فإنها تشير في الوقت نفسه إلى أن صانع القرار البحريني يضع عينه الأخرى على دول الشرق الكبرى مثل اليابان و أيضا الصين التي ينتظر أن يزورها قريبا للمرة الأولى رئيس وزراء البحرين الشيخ خليفة بن سلمان آل خليفة، وذلك تحقيقا لسياسة التوجه شرقا التي لطالما طالبنا بها فصارت اليوم لحسن الحظ ركنا ركينا من أركان السياسة الخارجية الخليجية – ليس من اجل مناكفة الغرب وتهديده في مصالحه الحيوية في هذه البقعة من العالم - كما يتمنى بائعو الشعارات التي ما قتلت ذبابة أو صنعت مسمارا - وإنما فقط من اجل الاستفادة القصوى من استثمارات وخبرات وتجارب دول الشرق الناهضة في مختلف ميادين التقدم والنهضة والتنمية. هذه التجارب والخبرات التي لسنا في حاجة لضرب الأمثلة عليها، كونها باتت ماثلة للعيان.

اليابان كسرت القاعدة

في هذا السياق يقول الدكتور سايمون انولت الذي عمل لأكثر من عقدين مستشارا دبلوماسيا للحكومة البريطانية، قبل أن يتقلد مناصب مماثلة في منظمات دولية عديدة مثل الأمم المتحدة والبنك الدولي والمنتدى الاقتصادي العالمي: انه من الصعب جدا إعطاء الأحكام حول الأماكن دون زيارتها أو الشعوب دون مخالطتها، تماما مثلما هو الحال إزاء صعوبة إعطاء انطباع عن كتاب ما بمجرد إلقاء نظرة على غلافه الخارجي. ويضيف سايمون قائلا: انه من الصعوبة بمكان لدولة ما أن تقنع شعبا من الشعوب خارج حدودها بعظمتها وإنجازاتها الخارقة دون القيام بجهد دعائي جبار أو تقديم مساعدات وخدمات مجانية ضخمة يستفيد منها عدد كبير من الناس. لكن اليابان وحدها استطاعت أن تكسر هذه القاعدة، وذلك بفضل دعم اليابانيين للدولة الديمقراطية ذات المؤسسات الممثلة لهم والمترجمة لتطلعاتهم والمنهمكة حصريا في وضع الاستراتيجيات بعيدة المدى لخلق امة قوية ناهضة وسمعة صناعية ناصعة واقتصاد قوي متماسك وأوضاع اجتماعية ومعيشية نموذجية.

التنسيق والعمل الهارموني في النموذج الياباني

و بطبيعة الحال فمثل هذه الأدوات والأجهزة التي عرفها اليابانيون واستخدموها بعيد هزيمتهم العسكرية المرة في منتصف الأربعينات، صارت اليوم متبعة في الكثير من الدول لتحقيق نفس الأهداف، غير أن ما ينقصها هو التراتبية والتنسيق والعمل الهارموني والذي يتخذ في النموذج الياباني الشكل التالي:

*مجلس السياحة المختص باستثمار الأموال من اجل تحويل اليابان إلى مقصد للعطلات ووجهة سياحية أساسية في الشرق الأقصى
*وكالة تنمية الاستثمارات المختصة بجذب الاستثمارات الاجنبية وتذليل المشاكل والعقبات البيروقراطية التي قد تصادفها.
*المعهد الثقافي المختص ببناء العلاقات والجسور الثقافية مع الدول والثقافات الأخرى، إضافة إلى تنمية المنتج الثقافي الياباني والتعريف به عالميا.
*مجلس تنمية الصادرات والمختص بالتنسيق ما بين الشركات اليابانية المصدرة إلى الخارج والقيام بحملات الدعاية للمنتج الياباني في الأسواق الاجنبية.
*وزارة الخارجية المختصة برسم أفضل السياسات التي تخدم الأمة ومصالحها الاستراتيجية.
*وكالة المساعدات الخارجية المختصة بتقديم القروض والهبات للدول النامية تشجيعا لها على الوقوف على قدميها أو من اجل محاربة الفقر والجهل والمرض.

أسلوب جديد لإدارة الأمم

وعودة إلى سايمون انولت، فانه يقول في مكان آخر من بحثه القيم المعنون باسم "أسلوب جديد لإدارة الأمم": أن سمعة الدول غالبا ما تكون متأثرة تأثيرا مباشرا بنوعية تعاملها السياسي والاقتصادي والثقافي مع الأمم الأخرى. ويضيف: سواء أكنا نريد السفر لتمضية عطلة ما أو شراء منتج أجنبي، أو كنا نريد التقدم إلى وظيفة شاغرة في الخارج أو الانتقال إلى مدينة جديدة عبر الحدود أو اختيار فيلم سينمائي للمشاهدة، فان ما يتحكم في اتخاذ قراراتنا هو تلك السمعة.

خمس قنوات طبيعية لبناء السمعة

وبناء على هذه القاعدة، وانطلاقا من حقيقة أن الدول تبني لنفسها السمعة أمام الآخر من خلال خمس قنوات طبيعية: السياحة وما يشتمل عليها من خدمات وكياسة وظرف ونزاهة في التعامل مع السائح، والصادرات وما تتضمن من جودة المنتج واعتدال سعره وقوة صموده، والتبادل الثقافي وما يتبعه من أنشطة تراثية وموسيقية، والإعلام وما يقوم به من دور ترويجي لصالح سياسات البلاد و التعريف بعلمائها ومبدعيها ونجومها في عوالم الأدب والفن والموسيقى والرياضة، فان اليابان لم تحتج إلى كبير عناء – قياسا بغيرها - لتقديم نفسها ومنتجاتها الحضارية إلى الآخر، بل صار لاسمها ومنتجاتها سحرا ورنينا خاصا لا ينافسها فيه احد، إضافة إلى نيلها لقبا خاصا تجسد في "النمنمة اليابانية"، بمعنى أنه إذا كان الألمان هم عباقرة الهندسة، والفرنسيون هم عباقرة صناعة العطور والسويسريون هم عباقرة صناعة الساعات، والإيطاليون هم عباقرة تصميم الأزياء وصناعتها، والأمريكيون هم عباقرة السلاح و ارتياد الفضاء فان اليابانيين هم دون أدنى شك عباقرة صناعة المنمنمات الالكترونية.

أمة متواضعة لا تتحدث كثيرا عن نفسها

على انه رغم كل هذه الصورة المتميزة، فان اليابانيون هادئون ومتواضعون ولا يتحدثون كثيرا عن أنفسهم، ولا يحدثون صخبا أو ضجيجا حول إنجازاتهم. و أتذكر أنه حينما مازح احد الأصدقاء صديقا يابانيا مشتركا قبل سنوات قائلا: متى تعلنون رسميا عن تحولكم إلى دولة كبرى بعد كل ما حققتموه من منجزات؟ كان رد الياباني هو: هذا لن يحدث قبل أن تصبح أطوالنا متساوية مع أطوال الأسكندنافيين، وبنيتنا الجسدية مماثلة لبنية الألمان، ولون أعيننا في زرقة أعين الإنجليز.

الطفل الذي تغير في السنوات الأخيرة


غير أن الاقتصادي الياباني البارز" يوشيزاكي تاتسوهيكو" يعلق على هذا بالقول "إن الأمور تغيرت في السنوات الأخيرة "، واصفا بلاده بالطفل الذي اعتاد ألا يتحدث في الصف أو ذاك الذي اعتاد أن يرفع يده بخجل وحياء بعد أن ينتهي الآخرون من رفع أياديهم. ويضيف أن طوكيو بعد عقود من الصمت والانزواء وعقدة الذنب النابعة مما فعلته العسكريتاريا الإمبراطورية في كوريا والصين ومنشوريا وبلدان جنوب شرق آسيا بدأت بالتحرك فجأة مستفيدة من انتهاء الحرب الباردة وغياب الثنائية القطبية، فساهمت أولا في تنظيف السواحل الكويتية من مخلفات حرب تحرير الكويت في عام 1991 ، ثم أتبعت ذلك بإرسال سفنها الحربية لمواكبة وحماية سفن القوات الحليفة أثناء إبحارها في مياه المحيط الهندي، ثم قدمت نفسها كمرشحة لأحد المقاعد الدائمة في مجلس الأمن الدولي حينما ينظر في أمر إصلاح هيئة الأمم المتحدة، وقامت بمبادرة جريئة لتحقيق الإجماع حول قرار أممي بفرض عقوبات على كوريا الشمالية بسبب برنامج الأخيرة النووي، هذا ناهيك عن قيامها بدور إنساني فعال في برامج إعادة تعمير العراق من خلال إرسالها لفرقة عسكرية غير مسلحة للمرابط في منطقة السماوة وتقديم الخدمات الطبية وخدمات إصلاح شبكات المياه والكهرباء، وقيامها بدور إنساني آخر ممثلا في مبادرتها لمساعدة ضحايا موجة المد البحري "التسونامي" في دول المحيط الهندي.

ظهور قوى جديدة افقد اليابان قوتها نسبيا

ومما قاله تاتسوهيكو أيضا: " إن هذا لئن اشعر كل ياباني بالفخر، فانه يجب ألا ينسينا أن العالم من حولنا يتغير كل يوم وان قوى جديدة مثل الهند والصين والبرازيل وروسيا الاتحادية بدأت بالتشكل والظهور، وبالتالي فان موقع اليابان الاقتصادي في العالم أصبح نسبيا اضعف من السابق وقدرتها على منافسة الأخيرات أو قيادة آسيا صار مشكوكا فيه. وما قاله الباحث الياباني صحيح، لكن الصحيح أيضا أن كل أو بعض هذه القوى الصاعدة الجديدة تتوجه شرقا، وتحديدا نحو اليابان باعتبارها نموذجا ودليلا للنجاح.

لكن القوى الجديدة في حاجة إلى اليابان

فمن ينكر مثلا أن روسيا التي تتحرك اليوم لتصبح قوة كبرى – ليس من خلال الأسلحة النووية وأرتال الدبابات المجنزرة وغزو أراضي الدول المجاورة وإنما من خلال النفط والغاز، أي من خلال الطاقة التي يتزايد عليها الطلب العالمي يوما بعد يوم وترتفع أسعارها باضطراد غير مسبوق خالقة فوائض مالية ضخمة للدول المصدرة. فروسيا كانت في عام 1998 على شفير الإفلاس، فإذا بمبيعات البلاد من النفط والغاز وحدها تقلب المعادلة ليصبح في خزينتها العامة في نهاية أغسطس/ آب 1999 نحو 14 بليون دولار وليرتفع هذا الرقم في الربع الثالث من العام الجاري إلى 140 بليون دولار. وإذا ما أرادت موسكو أن تحافظ على هذا المورد الحيوي، فلا خيار أمامها سوى طلب مساعدة اليابانيين المتقدمين تكنولوجيا في أعمال اكتشاف وحفر حقول النفط والغاز الجديدة، خاصة وان كل التنقيبات الروسية ما بين عامي 1999 و 2006 تمت في سيبيريا حيث الحقول قديمة ولم تخضع للصيانة لأكثر من سبب، بعضه طبيعي والآخر سياسي.

موسكو تحتاج إلى الخبرة اليابانية في سيبيريا

من ناحية أخرى، تحتاج روسيا الاتحادية إلى البدء في خطط عاجلة لتنمية أراضيها الشاسعة في سيبيريا، والتي لم تصل إليها أيادي التخطيط والبناء. وهنا أيضا يمكن للروس الاعتماد على اليابانيين الذين – فضلا عن إمكانياتهم التكنولوجية واللوجستية المتقدمة - تراكمت لديهم الخبرة اللازمة للتعامل مع الأوضاع الطبيعية والجغرافية المشابهة لأوضاع سيبيريا.

زيارة ولي عهد البحرين لم يأت إذن من فراغ

وجملة القول أن اختيار ولي العهد البحريني لطوكيو وسنغافورة كمحطتين في جولته الحالية لم يأت من فراغ. فالبحرين، كما الدول الأخرى تنظر إلى هذين البلدين كنموذج يحتذى بهما على جميع الأصعدة وفي مختلف الميادين، بل ربما الأمر بالنسبة للبحرين أكثر أهمية انطلاقا من سياسة وخطط قادتها المعلنة في تحويل البلاد إلى ورشة عمل جبارة ومركز للجذب الاستثماري و حديقة للإشعاع والتنوير والتسامح في المنطقة مثلما كان حالها منذ أقدم العصور.

د. عبدالله المدني

*باحث ومحاضر أكاديمي في الشئون الآسيوية من البحرين

تاريخ المادة: 12 أكتوبر/ تشرين الأول 2008

البريد الالكتروني: elmadani@batelco.com.bh



ليست هناك تعليقات: