الأحد، أكتوبر 05، 2008

باكستان: التحكم في جهاز طالت أظافره

د. عبدالله المدني
وسط ضجيج وتوارد الأنباء من كل حدب وصوب حول الانتخابات الرئاسية الأمريكية وانهيارات أسواق المال والشأن النووي الإيراني وعمليات الاختطاف في مصر و القرصنة قبالة السواحل الصومالية والتفجيرات العشوائية في العراق وأفغانستان وفضيحة الحليب الملوث في الصين، أطل خبر صغير برأسه فاسترعى انتباه الكثيرين لما له من دلالات وتداعيات على الأوضاع في كل من باكستان وأفغانستان وربما غيرهما. الخبر كان حول قرار اتخذه الرئيس الباكستاني الجديد آصف علي زرداري في التاسع والعشرين من سبتمبر/ أيلول المنصرم بتعيين الجنرال احمد شجاع باشا رئيسا جديدا لجهاز الاستخبارات الداخلية المعروف اختصارا باسم آي اس آي، وذلك خلفا للجنرال نديم تاج الذي كان قد تولى المنصب قبل عام واحد فقط من استقالة قريبه الرئيس الباكستاني السابق الجنرال برويز مشرف ليكون الأخير بذلك القائد السابع عشر لهذا الجهاز الحساس، إذا ما استبعدنا مؤسسه غير الباكستاني، الاسترالي من اصل إنجليزي "كاو هوم". وعلى حين رأى البعض في هذا الحدث جزءا من حركة تنقلات واسعة في الجيش الباكستاني، أراد قائد المؤسسة العسكرية الجنرال أشفق برويز كياني من خلالها استبدال مؤيدي الرئيس السابق مشرف بجنرالات مؤيدين له، خاصة وان الخطوة جاءت متزامنة مع أربع عشرة تعيينا جديدا في القيادات الأمنية والعسكرية العليا، فان آخرين قرأوا الحدث قراءة مختلفة فقالوا أن أهميته تكمن في ما يلي:

قراءة مختلفة لخطوة الرئيس الباكستاني

* أن الرئيس آصف زرداري أراد من خلال خطوته تلك استعراض عضلاته أمام الداخل والخارج كرئيس قادر على اتخاذ القرارات السريعة والحاسمة متى ما تطلب الأمر ذلك، وكان فيه خدمة للوطن وسمعته. والمعلوم أن الفترة الأخيرة شهدت اتهامات وشكوك من قبل واشنطون وحلفائها لجهاز الاستخبارات الباكستاني باللامصداقية في الحرب ضد الإرهاب وبدعم الأصوليين والمتشددين من أنصار حركة طالبان المدحورة وتنظيم القاعدة الإرهابي، إضافة إلى ضغوط متزايدة لحث إسلام آباد على إبداء قدر اكبر من الحزم في محاربة الإرهابيين والمتشددين. والجدير بالذكر أنه كلما ارتفع صوت في الغرب الحليف ينتقد جهاز الاستخبارات الباكستاني أو يتهمه بالتقاعس عن أداء مهامه على أكمل وجه، يأتي الرد واصفا تلك المزاعم بأنها خبيثة ومؤكدا على اتسام رجال الجهاز بأعلى درجات المناقبية والولاء والتنظيم. على أن الأمر تغير فجأة في الأسابيع القليلة الماضية، فبدا كما لو أن إسلام آباد لم تعد قادرة على مواصلة الإنكار إزاء الأدلة التي يضعها الأمريكيون أمامها على الطاولة أو إزاء تردد وكالة المخابرات الأمريكية في مشاركة المعلومات الأمنية الحساسة مع جهاز المخابرات الباكستانية خشية تسربها إلى المتشددين الإسلاميين، أو إطلاع هؤلاء عليها بطريقة أو بأخرى. ومن هنا جاء تصريح وزيرة الإعلام الباكستانية السيدة شيري رحمن أثناء مرافقتها لرئيس الحكومة يوسف رضا جيلاني في زيارة الأخير إلى واشنطون في أغسطس/ آب الماضي، والتي لئن نفت فيه ضلوع مخابرات بلادها في أحداث دموية في الهند أو أفغانستان فإنها اعترفت للمرة الأولى باحتمال وجود أفراد داخل جهاز الاستخبارات الباكستانية ممن يتعاطفون أيديولوجيا مع حركة طالبان أو أفكار تنظيم القاعدة، وبالتالي يسهلون تحركاتهما. ونقول للمرة الأولى لأنها فعلا أول مرة يتفوه فيه مسئول باكستاني بمثل هذا الكلام، و إلا فان كثيرين ممن ليست لهم صفة رسمية قالوا بذلك مرارا، من أهمهم الصحفية الكندية كاثي غانون (مراسلة وكالة الاسوشيتدبرس في أفغانستان لأكثر من 18 عاما) والتي ذكرت في كتابها المعنون ب "من الحرب المقدسة إلى الإرهاب المقدس): أن الرئيس الأمريكي جورج دبليو بوش طلب من رئيس الاستخبارات الباكستانية السابق محمود احمد يوم أن زار الأخير واشنطون قبيل الغزو الأمريكي لأفغانستان أن ينقل إلى زعيم طالبان الملا محمد عمر بأن عليه تسليم نفسه وزعيم القاعدة أسامة بن لادن و إلا فان الولايات المتحدة ستغزو أفغانستان وستسقط نظامه بالقوة العسكرية، لكن نظرا لتعاطف الجنرال الباكستاني مع طالبان، كانت الرسالة التي نقلها إلى الملا عمر معكوسة بمعنى أن واشنطون لن تغزو أفغانستان وستكتفي في أحسن الأحوال بضربات جوية، وان الصمود كفيل بإلحاق الهزيمة بالأعداء.

* إن الرئيس آصف زرداري أراد بخطوته تلك إعادة إخضاع جهاز الاستخبارات الباكستانية لسلطة وزارة الداخلية، وتصفية العناصر المتشددة التي اخترقته فحولته إلى دولة داخل دولة، وتحديدا منذ زمن الرئيس الأسبق الجنرال محمد ضياء الحق، وذلك منعا لتحميل بلاده مسئولية كل حادثة إرهابية أو دموية تقع في أفغانستان أو الهند على نحو ما حدث في السابع من يوليو المنصرم حينما وقع انفجار في السفارة الهندية في كابول (أسفر عن 57 قتيلا) فقيل أن "عملاء استخبارات باكستانيين ضالعون في الحدث"، بل وأيضا على نحو ما حدث مؤخرا في حادثة تفجير فندق ماريوت في راوالبندي، حيث قيل أن عناصر من الاستخبارات مكلفة بحماية الفندق سربت معلومات أمنية دقيقة إلى المتشددين الإسلاميين ليستهدفوا الفندق وضيوفه وعلى رأسهم رئيس البلاد. وفيما يشكك بعض الدبلوماسيين – مثل الدبلوماسي الأمريكي المسئول عن شئون جنوب شرق آسيا ريشارد باوشر – في نجاح زرداري في إصلاح جهاز المخابرات المعطوب والمخترق، يخشى آخرون – بناء على أمثلة سابقة - من أن تؤدي عملية إصلاح الجهاز إلى تشجيع كبار ضباطه على استباق الأمور و القيام بانقلاب عسكري كنوع من الحماية لنفوذهم ومصالحهم.

أداة في يد الماريشال أيوب خان والجنرال ضياء الحق

والحقيقة أن العبارة التي وضعنا بين مزدوجين في الفقرة السابقة لطالما ترددت طيلة العقود الستة الماضية منذ تقسيم الهند البريطانية، ولا سيما في المنعطفات الحادة في تاريخ شبه القارة الهندية. على أن الدمار الذي لحق بسمعة الجهاز ومناقبيته يرجع أولا إلى أواخر الخمسينات حينما تحول إلى أداة في يد المارشال محمد أيوب خان لتعزيز نظامه العسكري و لجمع المعلومات عن خصومه من الساسة المدنيين ومن في حكمهم من المتمردين البشتون والبلوش أو ممن كان يشك في ولائهم مثل ضباط الجيش من العرق البنغالي في ما كان يسمى وقتذاك بالجناح الشرقي للبلاد. غير أن هذا لا يقاس إطلاقا بما حدث للجهاز في ظل حكم الديكتاتور محمد ضياء الحق. وملخص القصة أن دور جهاز الاستخبارات الباكستانية الذي تأسس باديء الأمر في عام 1947 من وحدتين (الأول تحت مسمى جهاز الاستخبارات الداخلية والآخر تحت مسمى الاستخبارات العسكرية)، قبل أن يحول إلى مؤسسة أمنية واحدة تحت اسم جهاز الاستخبارات الداخلية غداة فشله في القيام بدوره في الحرب الهندية-الباكستانية الأولى (1947)، ويتم تزويده برجال مدنيين وعسكريين من أسلحة البحر والجو والبر قد توسع كثيرا بحيث تجاوز خدمة مصالح باكستان إلى خدمة مصالح بعض الدول الحليفة على نحو ما حدث أثناء الحرب الأفغانية ضد السوفييت، بل تجاوز خدمة مصالح البلاد العليا إلى خدمة أفراد في السلطة، هذا ناهيك عن تحوله في الحقبة التي تلت الغزو السوفيتي لأفغانستان في عام 1978 و الحقبة التي تلت قيام الثورة الإيرانية في عام 1979 إلى مؤسسة تصدر بضاعتها وخبراتها لمن يطلب من اجل سحق معارضيه في الداخل مقابل مساعدات مادية معتبرة.

تراجع نفوذ الجهاز في عهد بوتو الأب

وهكذا فان الجهاز الذي نحن بصدده اليوم عاش عصره الذهبي الأول في عهد الجنرال أيوب خان، بينما تراجع دوره ونفوذه كثيرا في عهد خليفته، الرئيس المدني ذوالفقار علي بوتو، الذي كثيرا ما اتهم الجهاز بالرعونة والحماقة وبالتالي التسبب في انسلاخ الجناح الشرقي للبلاد تحت اسم "جمهورية بنغلاديش الشعبية"، ليعود الجهاز ويعيش عهدا ذهبيا آخر في زمن الجنرال ضياء الحق حينما منحه الأخير سلطات واسعة لمطاردة خصومه في ولاية السند من أتباع حزب الشعب الذي كان ضياء الحق قد انقلب على زعيمه ومؤسسه ( ذوالفقار علي بوتو) وأعدمه شنقا في يوليو/ تموز 1977 ، وللتجسس على فصائل المجاهدين والجماعات البلوشية المتعاطفة معهم خوفا من وصول الأسلحة من الفريق الأول إلى الفريق الثاني، ولجمع المعلومات وتحليلها عن المنظمات الباكستانية الشيعية ذات الصلة بنظام الملالي في طهران.

بداية تعاون الجهاز مع الأمريكيين

ومما لا يمكن تجاوزه أنه في هذا المنعطف تحديدا بدأت واشنطون مد يد العون الفني والمادي إلى جهاز (آي اس آي) الباكستاني، حيث قام الأخير لهذا الغرض بإنشاء قسم خاص تحت قيادة العقيد محمد يوسف ، تولى إرسال عسكريين ومدنيين باكستانيين إلى الولايات المتحدة من اجل التدريب على العلوم الاستخباراتية المتقدمة. وقد قام هؤلاء بعد عودتهم إلى باكستان بلعب ادوار مهمة دعما لفصائل المجاهدين التي كانت تتخذ من باكستان منطلقا لمحاربة السوفييت، ولا سيما الفصيل الذي كان يتزعمه حليف أمريكا بالأمس وعدوها اليوم " لورد الحرب ذو الولاءات المتقلبة قلب الدين حكمتيار".

دور الجهاز في خلق طالبان ودعم القاعدة

ومما لا يجب أيضا المرور عليه مرور الكرام في هذا السياق، الادوارالمحورية الهامة التي لعبها الجهاز في خلق حركة طالبان وتمكينها من الاستيلاء على السلطة في كابول سواء عن طريق ضخ المساعدات المالية أو إمدادات الأسلحة والرجال على نحو ما أبرزته تقارير مخابراتية أمريكية في مارس/ آذار 1998 . فضلا عن أدوارها في خلق جماعات مسلحة مناهضة لنيودلهي وتزويدها بما تحتاجه من اجل جلب الصداع للهند في إقليم كشمير المتنازع عليه.

والحقيقة أن هناك قائمة طويلة لدى الولايات المتحدة بأسماء من ارتبطوا في الماضي بجهاز آي اس آي الباكستاني أو تعاونوا معه أو تدربوا على يدي عناصره من اجل خلق المشاكل في أكثر من دولة طبقا، ومن بينهم بطبيعة الحال عناصر من تنظيم القاعدة الذي يقال أن احد قادته ويدعى أبو زبيدة قد التقى في عام 2000 وقبل وقت قصير من انتقال بن لادن من السودان الى أفغانستان بمسئولين عسكريين كبار في الاستخبارات الباكستانية مثل الجنرال مشرف علي مير الذي كان يشغل وقتذاك منصب قائد سلاح الجو.

د. عبدالله المدني
باحث ومحاضر أكاديمي في الشئون الآسيوية
البريد الالكتروني

ليست هناك تعليقات: