الجمعة، أغسطس 15، 2008

المقاومة لا تلغى بشحطة قلم

ادمون صعب
النهار
"إن المجتمع المسيحي والمجتمع الاسلامي على حد سواء، سوف يزدهران اذا استرشدا بمبادئ العدالة والحرية، وهما مفهومان أساسيان لنظام الحكم الصالح".
خير الدين التونسي
(مفكر إسلامي مغربي 1810 – 1890)

كان أمس يوما غير عادي في حياة "أبو فادي".

ففي 14 آب 2008 تكون مضت سنتان على حرب تموز. وإذ هي ذكرى تؤرخ لدى كثير من اللبنانيين لهزيمة واحد من أقوى جيوش العالم على أيدي حفنة من المقاتلين في جنوب لبنان، فانها بالنسبة اليه محطة ترمز الى همجية عدو غادر. إذ هو فقد في مجزرة مروحين في 15 تموز زوجته وأولاده. يومها أنذر الاسرائيليون سكان القرية بوجوب المغادرة، فخرجوا منها مسرعين مختبئين في حقول التبغ والزيتون، وصعدوا بيك أب في اتجاه يارين وشيحين، وعلى طريق شمع حلقت فوقهم طائرة انطلق منها صاروخ باتجاههم فدمر البيك أب وسقط 22 شهيدا بينهم زوجته وأولاده الذين لا تفارقه ذكراهم.

نهض أمس باكرا، فصلّى، ثم أعد ركوة قهوة وجلس وحيدا على شرفة المنزل. أشعل سيجارة وبعدما أخذ "مجّة" طويلة سرد بعيدا، فمر أمامه شريط طويل من المجازر: عيتا الشعب 15 شهيدا، صور 12، العباسية – مدينة الاحلام 9، برج الشمالي 5، عبّا 8، حولا 5، انصار 3، القاع 28، الطيبة 4، الغازية 15 أضيف اليهم 14 سقطوا في التشييع، صريفا 27، النميرية 7، عين عرب 6، قانا أكثر من 50، يارون 6، القليلة وجبين 12، حاريص 16، الحلوسية 10، عيترون 11، بعلبك – دار الحكمة 17 الخ...

وراح يسأل نفسه: ما ذنب هؤلاء حتى يذبحوا كالنعاج ويلوّنوا بدمائهم أرض الوطن؟

هل من أجل تحرير الارض فقط؟ وهل الارض لهم وحدهم؟

أليست أرض كل الناس؟

فلماذا اذاً لا يهب "الآخرون" للدفاع عنها فتختلط دماء الجنوبيين بدماء بقية اللبنانيين من الشمال والجنوب والبقاع والجبل مسيحيين ومسلمين يشترون بأرواحهم عزة الوطن وكرامته، ويدمغون بدمائهم صك سيادته وحريته واستقلاله؟

بعد سحبة طويلة من السيجارة أعقبتها رشفة قهوة، جاءه جواب من الداخل: ان البلاد مقسمة جغرافياً كيانات، تقيم فوق كل منها قبيلة أو شعب يعتبر ان مهمته تنحصر في الدفاع عن حدود كيانه. وهكذا دافع المسيحيون عن كيانهم في مواجهة الفلسطينيين في "حرب السنتين" ودمروا مخيماتهم وأخرجوهم من أراضيهم في ما يشبه "التنظيف" العرقي بقيادة الشيخ بشير الجميل الذي كاد أن يعلن هذا الكيان "المنظف" دولة مستقلة لولا أن الاستشارات التي أجراها أقنعته بأن شهداء "المقاومة اللبنانية" الذين سقطوا آنذاك لم يسقطوا من أجل خليج جونيه، ولا قناة باكيش أو وادي زحله، بل من أجل لبنان الـ10452 كيلومترا مربعا، أي من أجل يارون وعيترون وعلما الشعب... أي من أجل كل لبنان، وإلا حرام دماء الشهداء.

وهكذا ايضا دافع الدروز عن كيانهم في "حرب الجبل" التي هجّر بسببها نحو ربع الشعب المسيحي الذين لا يزال عدد كبير منهم خارج دياره، بينما هاجر الآخرون يأساً.

أما المسلمون السنّة الذين التحقوا بالفلسطينيين فانكفأوا داخل كيانهم بعد خروج منظمة التحرير الفلسطينية من بيروت اثر الاجتياح الاسرائيلي عام 1982.

وإذ حررت الشعوب الثلاثة اراضيها، ولم تلتفت الى الكيان الشيعي في الجنوب ولم تحرك ساكنا باستثناء القرار 425 الذي انتزعه غسان تويني للبنان اثر اجتياح 1978 واستمر دون تنفيذ حتى طردنا اسرائيل بايماننا وقوة سواعدنا وبطولات شهدائنا في 25 ايار 2000، وكانت المرة الاولى التي تتحرر أرض عربية بغير الجيوش النظامية.

• • •

كادت السيجارة ان تحرق أصابع "ابو فادي"، فأطفأها وأشعل أخرى، ثم أفرغ ما تبقى في ركوة القهوة في الفنجان وساح في رحلة تأمل جديدة:

لم يكن هناك سبيل لاستنهاض الهمم لتحرير الارض بغير الربط بين الارض والسماء. ففي اللحظة التي أعطيت فيها الارض قدسية بات الاستشهاد من أجلها تكليفا شرعيا، وخصوصا بعدما أعلن الامام موسى الصدر "ان مقاتلة اسرائيل حلال". وقرن الاستشهاد من أجل الارض بوعد المجاهدين بالجنة، ليس لهم وحدهم بل لأهلهم كذلك. لذلك كان المجاهدون يلحون في طلب الشهادة من أهلهم على أساس انه سيقيمون لهم مكانا في الجنة. وعلى هذا الاساس كانت الرحلة الاستشهادية بطاقة عبور الى جنة موعودة، ولكنها بطاقة باتجاه واحد.

ولأن مقاتلة عدو كالاسرائيلي مزود أحدث الاسلحة وأكثرها تطورا لم يكن بالامر السهل، فقد جندت المقاومة كل أسباب الانتصار. إذ هي أعدت جيشا مكتمل الجهوزية. فكان التدريب العالي، والتخصص في المجالات العلمية التي اقتضت توجيه الطلاب في الجامعات نحو العلوم الكهربائية والهندسية والاتصالات وعلوم الكومبيوتر، اضافة الى الرياضيات وعلم الطوبوغرافيا، من أجل اتقان تشغيل المدفعية والاسلحة المتطورة، والتعامل مع الاحداثيات وأجهزة الرصد والتتبع والتنصت في سلاح الاشارة، اضافة الى اتقان اللغة العبرية وادارة شبكات التجسس داخل اسرائيل وخارجها. فضلا عن اقامة منشآت سرية وانفاق تحت الارض لادارة المعارك وتخزين الصواريخ والاسلحة بعيدا من أنظار العدو وطائرات تجسسه.

وقد شكلت هذه البنية التحتية لدى المقاومة عنصرا أساسيا في الانتصار الذي تحقق في حرب تموز.

ولأن المناطق التي كانت مسرحا للعمليات افتقرت الى البنية التحتية الصحية، فقد أنشئت في الجنوب مستوصفات ومستشفيات ميدانية، كما بنيت مستشفيات خارج أرض المعركة في الجنوب وبيروت والبقاع لاسعاف الجرحى ومعالجتهم. وتأسست شركات لاستيراد الادوية والمستحضرات الطبية.

ولم توفّر المقاومة مصدرا مشروعاً لتزود المال والمعدات إلا ولجأت اليه، خلافا لحركات المقاومة الشعبية التي كانت تعمد الى الخطف وتقاضي الفديات اضافة الى المتاجرة بالمخدرات، كما في أفغانستان وكولومبيا، لشراء الاسلحة والانفاق على المقاتلين.

كذلك اقيمت مؤسسات اجتماعية للاهتمام بأسر الشهداء ومتابعة اوضاعهم الحياتية، وأخرى تربوية لتعليم أولاد الشهداء في كل المراحل الدراسية، بما فيها الجامعية.
إنها "دولة المقاومة" بكل ما في الكلمة من معنى، وليست "الدويلة" التي يتحدثون عنها بتهكم!

وغداً عندما يطرح موضوع المقاومة ومستقبلها من خلال الخطة الدفاعية التي سيضعها رئيس الجمهورية على طاولة الحوار، فانما سيُطرح مشروع كبير، دولة مقاومة كاملة قامت على أكتاف طائفة من اجل استرجاع الارض التي تقف عليها في الجنوب بعدما قارعت العدو بنوع من النضال الإلهي حقاً.

واذ يأتي ممثلو كل "شعب" الى طاولة الحوار مقدمين ما لديهم لـ"الدولة الاتحادية المستقلة"، سيجدون أن لدى المقاومة دولة جاهزة مستعدة لتقديمها الى أهلها، على أساس ان الذي لم يبخل بالدماء والمهج لن يبخل بالعتاد ولا حتى بالمال.

لذلك واهم من يظن ان الغاء المقاومة وإنهاء دورها يكمن ان يتما بشطحة قلم. فلنعقل جميعاً.
• • •
وهنا فرغ "ابو فادي" من ارتشاف آخر قطرة من القهوة، واطفأ آخر سيجارة... واستراح

ليست هناك تعليقات: