خالد ساحلي
ما الإنسان إن نزعت منه روحه؟ ألا تراه إن أرجع وديعة الروح إلى بارئها وغادرت قواه الخفية ذلك الجسد العفن بشهواته صار مادة كباقي المواد ، شبيه الأشياء المعروضة على قارعة الطريق و في الأسواق. ما الإنسان بدون روح؟ إنه الجثة المتعفنة التي دل عليها غراب البين. الإنسان بلا روح تفعل به ما تشاء لأنه لا يستجيب لك مهما أهنته ومهما اعتقدت أنك آلمته في كبريائه إنما بروحه إنسان لا غير.
إنك حين تهين إنسانا إنما أهنت روحه وحين تحقّره إنما حقرّت عقله الذي فيه. إن كان حيا يستجيب لك وقتئذ رافضا إذلاله و لو صابرا على أذاك. إن رفضه الإذلال تأكيدا لوجوده ولوجود بقية من الكرامة و الإباء و الشرف وكل تعلق بالحمية و العصبية وقيمة الإنسان فيه. إنما يحتج بتلك القوة الكامنة بداخله تلك الطاقة الفاعلة الرافضة للاستعباد المؤكدة للحرية التي خلق بها و لأجلها، الحرية التي تمنحه الحق في الدفاع عن ذاته في عالم يحكمه قانون المنفعة و الإخضاع. أما إن كان على غرار ذلك تابعا منقادا راضيا بطاعته لغيره مقدسا للمتحكم فيه قابلا باستعباده إنما أعلن بذلك انتهائه و فنائه بأبخس الأثمان لقد جلب العار بعرض من الدنيا يصيبه. قد يعذر الإنسان أخاه الإنسان لظروف ما ويقال عنه خضع لغسيل دماغ فصار كالحيوان مروّض لا غير أو كان تحت التهديد بين المسدس و قطعة الحلوى.
الإنسان كمثل الكلمة أو الكلمة جزء منه خلقت من قبله لأجله و الكلمة الطيبة تقع في النفس الموقع المفرح الموقع الحسن و كذلك الكلمة المهينة المحتقرة تشق جرحا غائرا، إنما الأولى عاملت الروح و رفعت من شأنها لعلمها بقدسية جوهر الإنسان و أما الثانية فقد قدمت الإهانة لأنها لا تعرف قدسية الجوهرة الغالية داخل الآدمي. الإنسان على قدر احترامه لنفسه على قدر احترامه لغيره و على قدر احترام الغير له مهما اختلفت أشكالهم وأصنافهم ، وعلى قدر إهانته للغير و ازدرائهم على قدر انحطاطه في عيون الآخرين وتشوه صورته و سقوطه من سلم القيم و الأخلاق التي يمثلها المصلحون والغيورين من الشرفاء داخل كل مجتمع. ومهما نظر له المنافقون والمخادعون نظرة الإعجاب إنما هم يوقعون بضحاياهم به فيضربون بيده. ما الإنسان؟ لما تؤثر فيه الكلمة على نوعيها؟
أليست الكلمة معنى يصل إلى محرك المعاني داخل البشري؟ أليست الروح سدرة منتهى قيمة الإنسان؟ ألا يبحث الإنسان الواعي عن مسلك لكماله الذي لا يكتمل؟ أليس الإنسان الباحث عن معناه الحقيقي داخل تيه المعنى محاصرا بمن يمنحه معناه الحقيقي في الحياة و بين من يحرمه إياه وبين و سطيهما؟ ما الإنسان الحديث القابل بكل شيء لأجل تحقيق متعته ومنفعته؟ ألا يمثل الإنسان الحديث الإنسان القديم؟ الذي بفضله شمخ صرح الحضارة؟ أليس امتدادا له؟ إن التاريخ ليقص علينا أحسن القصص و أشوقها في البطولات والمواقف ألم يكن التاريخ القديم مضرب المثل في التضحيات لأجل تأكيد الذات و رفع ذل العبودية و تكسير قيدها؟ هل مضى زمن الأنبياء و تابعيهم و القادة و الثوار و المصلحون الفلاسفة ليحل محله عصر كل شيء قابل للبيع حتى و لو كانت النفس البشرية ؟
الإنسان الحديث لا شك يدمر نفسه بتدمير الآخر والعالم من حوله ، يسارع في إظهار إمارات فنائه من خلال أنانيته التي يسميها مطلب اجتماعي و التي حرم بها حق غيره ، أنانيته لأجل البقاء ومحافظته على ذاته غير آبه للأرواح التي تسقط وتنهار في بقاع كثيرة من العالم ،غير آبه للغير فلو أستطاع سحب الهواء من أنوفهم لفعل.قليلون هم من يناصرون ما تبقى من القضايا العادلة المطالبة بضرورة حماية الإنسان و صون كرامته، كثيرون هم الضحايا و قليلون هم جلاديهم. من كثرة الضحايا من استهوتهم بضاعة روّجت لهم بألسنتهم فصاروا تحت تأثيرها راضين بهيمنتها عليهم جاعليها مقدسا لا تصل إليها أيديهم و إن وصلت أيدي غيرهم لاقت إثما عظيما و تعزيرا. إن الهيمنة التي فرضت كمركز و جعلت من الآخر الهامش هي من تملك قدر الإنسان المتخلف والضعيف.
المقلد التابع يفقد داعي الابتكار و الخلق و يتنازل في الوقت ذاته عن اللغة لأجل اللغة التي تتحدث بالهيمنة ومن يفقد الأولى و الثانية يفقد العقل المبتكر و اللغة المترجمة وهذان تابعان للروح داخل الآدمي. هل في خضوع الإنسان عندنا للقهر وحين تمارس عليه سياسات الهيمنة من الداخل يسهّل ذلك الهيمنة عليه من الخارج؟ إنسان الداخل مهد الطريق لاستعباد أخيه الذي رفض استعباد الخارج و هيمنته.
أخيرا قبلها وهو لا يتلاءم و لا يتأقلم مع طبيعتها إنما قبول المضطر قبول دون الرضا. من هو الإنسان إذن بين هذا و ذاك برغم إدعاء الأول التحضر و الثاني الكثيرة شكواه للوضع القائم المؤثر عليه دون التأثير فيه ونداءاته المتكررة المتعالية للحالة البائسة الحصيد من جراء صراعات الإنسان، صراع الإنسان مع ذاته و تواطئه معها على نفسه وتواطأ الإنسان مع الآخر على الآخر وتواطأ الآخر مع الآخر على الإنسان وفي كل الحالات الإنسان يعمل على هلاكه وخسرانه لأنه يورد نفسه الموارد الهالكة لاعتقاده أنها سبب رفاهيته وراحته وتقدمه . العصر والإنسان في خسر لاهثا في مسيرة فنائه لكن وماذا بعد الإنسان في فقدان قدسيته؟ ماذا بعد هذه الحضارة التي يجمع الجميع على فنائها ؟ ثمة كثير من الأسئلة التي تدلنا على أننا كلما فكرنا في الصعود أكثر نفقد ماهيتنا و نصبح نتدلى دون تربة و لا جذور.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق