الأحد، أغسطس 31، 2008

الانقسام الفلسطيني "الاخر" هو الاخطر

نقولا ناصر
يجري توظيف الانقسام الراهن بين فتح وبين حماس ، وبين الشرعيتين الفلسطينيتين التشريعية والرئاسية وبين حكومتيهما في رام الله وغزة لخدمة والتغطية على الانقسام الاقدم والاخطر منه بين سلطة الحكم الذاتي الفلسطينية وبين مرجعيتها منظمة التحرير الفلسطينية ، وفي اطار كل منهما على حدة ، بين تيارين يصطرعان داخل حركة التحرير الوطني الفلسطيني "فتح" على قيادة السلطة والمنظمة وعلى دوريهما ، اصطراعا يسهل ويمهد ل"الانقلاب" الحقيقي الجاري في الساحة الفلسطينية برعاية اميركية – اسرائيلية معلنة ، والذي يجري التعتيم عليه كشرط لازم لانجاحه ، وهو انقلاب سوف يؤثر حسمه بالتاكيد ، سلبا او ايجابا ، على قضايا ونتائج الحوار بين قطبي الانقسام الراهن بين فتح وبين حماس .

وقد افرز الانقسامان قوة او قوى "ثالثة" لم تتبلور وطنيا بعد في اطار سياسي معلن وواضح لكن اركانها وسياساتها واضحة تماما في تقاطعها بل تطابقها مع "الرؤية" الاميركية – الاسرائيلية لتسوية الصراع العربي والفلسطيني – الاسرائيلي سياسيا ، او تصفيته لا فرق ، وهذه القوة او القوى متداخلة مع تيار ينسجم معها في فتح والفصائل المؤتلفة معها في اطار منظمة التحرير ، وهي تسعر كلا الانقسامين ، لانها الوحيدة المستفيدة من استمرارهما ، وتناور بينهما وتقتطع لنفسها يوميا نفوذا متناميا على حسابهما فهي ، لا فتح ، التي تتولى عمليا مقاليد حكومة الحكم الذاتي في رام الله ، وتسعى الى السيطرة على مؤسسات صنع القرار في فتح والسلطة والمنظمة ، بينما تحرص على استمرار حصار حماس سياسيا واقتصاديا وعسكريا بسبب عدم توفر الامكانيات العملية التي تتيح لها تغلغلا مماثلا في صفوفها ، بحيث يكاد يكون هذا هو الانقلاب الفعلي الذي يستحق هذا الوصف على الحركة الوطنية الفلسطينية المعاصرة وعلى كل مؤسسات اطراف انقساماتها الحالية ، فيما تنشغل هذه الاطراف اما في الفعل ورد الفعل على الانقسامين او في البحث عن طرق ووساطات لاحتوائهما .

ومن احدث مظاهر هذا الانقسام القديم – الجديد الاخطر ما يدور من صراع وجدل حول انعقاد او عدم انعقاد المؤتمر الحركي السادس لفتح وحول مكان وزمان انعقاده ان اتفق على عقده ، وحول انعقاد او عدم انعقاد المجلس الوطني لمنظمة التحرير كما حول مكان انعقاده في "الداخل" او في "الخارج" ناهيك عمن يحضره -- ان اتفق على انعقاده ، ثم ردود الفعل على مصادقة الرئيس محمود عباس على تعيين رئيس للدائرة العسكرية للمنظمة من غير الاعضاء الاصلاء في اللجنة التنفيذية ومن غير ممثلي الفصائل الكبرى فيها ، وكان من اخر هذه المظاهر ايضا السجال العلني بين مستشاري الرئيس عباس وبين رئيس كتلة فتح في المجلس التشريعي للسلطة عزام الاحمد حول توقيع الاخير لاعلان صنعاء كتتويج للمبادرة اليمنية تم اجهاضه خلال دقائق بعد توقيعه وكذلك حول وجود "فيتو" اميركي على الحوار بين فتح وبين حماس ، كما قال الاحمد ، او عدم وجود مثل هذا الفيتو كما كرر عباس نفسه القول ، الخ .

غير ان المثال الاحدث على هذا الاصطراع والدليل الملموس الاوضح على التوجه لالحاق المنظمة بالسلطة ، التي تستمد تفاصيل سلطاتها من مصادقة الحاكم العسكري للاحتلال الاسرائيلي عليها ، كان مبادرة حكومة سلطة الحكم الذاتي الى اشتراط مصادقتها والرئيس عباس على هيكليات مؤسسات المنظمة كشرط مسبق لصرف رواتب موظفيها ! وقد جاء هذا التطور متاخرا بعد ان حذر من وقوعه منذ مدة طويلة الشركاء المجمدة شراكتهم لفتح في اطار المنظمة ، اذ كان تحصيل حاصل لحلول وزارة مالية السلطة محل الصندوق القومي الفلسطيني كمصب لتمويل منظمة التحرير وسلطتها مما حول خزينة السلطة الى قناة لتمويل المنظمة فارتهنت المنظمة بذلك للسلطة ولمنح مانحيها المشروطة سياسيا بشروط املاها الاحتلال نفسه .

وكان هذا الانقسام الاقدم والاخطر قد اتضح في خلافات فتح – فتح العلنية التي سبقت انتخابات كانون الثاني / يناير 2006 التشريعية ثم تفاقمت بعدها بسبب تبادل الاتهامات حول المسؤولية عن الفشل في الانتخابات لكي تسلط الاضواء الساطعة عليها اثر ذلك بسبب الاختلاف الحاد حول زمان انعقاد المؤتمر الحركي السادس ومكانه وبرنامجه السياسي وهو الاختلاف الذي اخرج شخصية فتحاوية دولية مرموقة مثل مراقب فلسطين السابق لدى الامم المتحدة ناصر القدوة من اللجنة التحضيرية لعقد المؤتمر التي تتوالى الانباء عن الخلافات بينها وبين الرئيس عباس وهي الخلافات التي حالت دون الرئيس وحضور اجتماعاتها .

وهذا الخلاف الفتحاوي الداخلي حال دون تنفيذ اتفاق القاهرة حول "تفعيل" المنظمة اوائل عام 2005 وبدلا من تنفيذ هذا الاتفاق فان ذاك الطرف في الانقسام الفتحاوي المسؤول عن مرحلة تهميش المنظمة وتجاهلها منذ توقيع اتفاق اوسلو قد انتقل الان ، مستقويا بالقوة "الثالثة" اياها ، الى مرحلة تصفية خصمه الفتحاوي داخل المنظمة منزلقا بذلك بوعي او دون وعي نحو خطر تصفية المنظمة نفسها وبالتالي واد اتفاق القاهرة في مهده بدفن "تفعيل" المنظمة الى غير رجعة ومعه الامكانيات العملية للحوار مع حماس والوحدة الوطنية على قاعدة الشراكة في اطار منظمة يجري يسرعة اخضاعها لسلطة حكم ذاتي اصبح للخلاف مع حماس لديها اولوية على "الخلاف" مع دولة الاحتلال .

وهذا الوضع المعكوس للعلاقة بين السلطة وبين المنظمة يتناقض تماما مع القرار الواضح الذي اتخذه المجلس المركزي الفلسطيني في دورته المنعقدة بتونس بين 10 – 12 تشرين الاول / اكتوبر 1993 بانشاء "السلطة الوطنية الفلسطينية" كسلطة تابعة لمرجعية المنظمة التي انشاتها ، ويضع عربة قيادة منظمة التحرير امام حصانها في وضع خطر يهدد فيه أي انهيار للسلطة بانهيار المنظمة ذاتها ، وربما يكون هذا هو الهدف النهائي للتحالف الاميركي الاسرائيلي الذي يشجع ويمول تغول السلطة وحكومتها على منظمة التحرير ، لضرب الطرفين ببعضهما تمهيدا لتصفية "الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني" المعترف به عربيا ودوليا .

والمفارقة ان حماس غير العضو في المنظمة وهي تطالب بتفعيلها على قاعدة الشراكة الوطنية وفقا لاتفاق القاهرة تبدو "خشبة النجاة" الرئيسية لانقاذ المنظمة من التصفية التي تخطط لها كما انها تبدو اكثر حرصا على المنظمة ممن يستخدمون المنظمة ومرجعيتها سلاحا ضدها وخصوصا القوة او القوى "الثالثة" التي افرزتها سلطة الحكم الذاتي بدعم خارجي والتي تحاول الان السيطرة على "الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني" من اجل اضفاء شرعية وطنية على برنامجها السياسي الذي ما كان له ان يمر او يستمر حتى الان لو لم يجر توقيع اتفاقيات اوسلو دون مشاركة المنظمة وفتح التي تقودها ولو لم يجر تهميش المنظمة وتجميد مؤسساتها وتعطيل دورها القيادي منذ توقيعها . ولم يعد خافيا على احد ان استمرار هذا الانقسام الاقدم والاخطر يمثل العقبة "الداخلية" الاكبر امام نجاح أي حوار وطني بين فتح وبين حماس وان حسم هذا الانقسام الاقدم هو شرط مسبق لانهاء الانقسام الراهن بين الحركتين اللتين تقودان النضال الوطني .

ان المذكرة التي قدمها عضو اللجنة التنفيذية للمنظمة عبد الرحيم ملوح باسم الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين الى عباس مؤخرا -- (حول وضع اللجنة التنفيذية واقتصار دور عدد من اعضائها على مجرد حضور اجتماعاتها وحول عدم وجود أي دور لها كمرجعية لاداء السلطة وحول العلاقة الغامضة او الغائمة بينها وبين السلطة وحكومتها قبل ان يخلص الى القول "اننا لا نشعر باننا شركاء حقيقيين في القرارات السياسية وفي تطبيقاتها") -- هي شهادة "شاهد من اهله" ، تنكا جرحا وطنيا متقيحا حد التسمم ، وبالرغم من كونها مؤشر صحوة متاخرة لشركاء فتح في المنظمة ، فانها شهادة هامة وجديرة بالمتابعة والتطوير والبناء عليها لانقاذ المنظمة مما قال عضو لجنتها "المجمد" اسعد عبد الرحمن في مقال اخير له انه "ايام مظلمة" تنتظرها نتيجة لتغول حكومة السلطة في رام الله على كل مؤسساتها .

ومما يزيد الطين بلة ان حكومة السلطة الحالية هي الاضعف بين كل سابقاتها ، ولا يبقيها عائمة سوى كونها الاكثر تساوقا مع املاءات الاحتلال وشروطه التي تبناها المانحون لها بحذافيرها ، وجدول اعمالها الاقتصادي يقرره المانحون ويحصرونه في الرواتب والامن بينما يقرر جدول اعمالها الامني المجلس الثلاثي للجنرالات الاميركيين وليم فريزر وجيمس جونز وكيث دايتون وهو المجلس الذي يمثل المرجعية الحقيقية لبرنامج هذه الحكومة والذي يضع في راس جدول اعماله تصفية ككل المعارضين للرؤية الاميركية – الاسرائيلية لحل الصراع وفي مقدمتهم بالطبع منظمة التحرير وحركة فتح في الخارج بخاصة وحركة حماس في الداخل على الاخص .

كما ان هذه الحكومة ايضا هي الاقل تمثيلا لشعبها بين كل حكومات الحكم الذاتي السابقة فهي لا تحظى بتاييد الفصائل المؤتلفة مع فتح في اطار المنظمة ، ولا بتاييد فتح نفسها ولجنتها المركزية التي كانت تعين الحكومات السابقة ، بينما تطعن في شرعيتها حركة حماس ، لتظل مجرد "حكومة تسيير اعمال" تستمد شرعيتها من شرعية وطنية مجتزاة هي شرعية الرئاسة المنتخبة التي تعيش اواخر ايام ولايتها ، وربما لهذا السبب يستمر الاحتلال في اعتقال نواب حماس من اعضاء المجلس التشريعي لكي يظل هذا المجلس معطلا لان مجرد تفعيله سيقود بالتاكيد الى نزع الغلالة الشفافة المتبقية من شرعيتها .

*كاتب عربي من فلسطين
nicolanasser@yahoo.com*

ليست هناك تعليقات: