صبحي غندور
تتزامن في هذه الفترة قضيتان عالميتان تجمعان بين السياسة والاقتصاد، بين الأمن السياسي والأمن الإجتماعي، بين محاولة تأمين لقمة العيش وبين الخشية على العيش نفسه. فالجوع والخوف هما أسوأ ما يُبتلى به فرد أو جماعة.
قد تكون الحروب بين الدول هي مسؤولة أحياناً عن وجود حالتي "الخوف والجوع"، لكن قد تحدث الحروب أيضاً بسبب تفاقم مشكلة "الخوف من الآخر"، كما قد يشهد العالم حروباً إقليمية لأسباب إقتصادية ترتبط بالخوف من الجوع نفسه. فهي حالات سببية لحروب كما هي حصاد طبيعي للحروب نفسها.
وإذا كان مفهوماً ما تخلّفه الحروب والكوارث الطبيعية من حالات الجوع والخوف، فإنّ من غير المبرّر أن نراها (هذه الحالات) تطرأ على مجتمعات لا هي في حال حرب ولا تعيش مخلّفات كارثة طبيعية. فالجوع والخوف في هذه المجتمعات هما محصّلة لغياب العدل السياسي والاجتماعي ولأساليب القهر التي تمارسها الحكومات ضدّ شعوبها، ولانتشار الفساد والاحتكار وسوء توزيع الثروات الوطنية وانعدام التخطيط الشامل، إقتصادياً واجتماعياً، ولشراسة المستفيدين من الحكم الفاسد.
ولا أعتقد أنّ الديمقراطية وحدها فقط هي العلاج السحري الناجع لحالتي الجوع والخوف. فليس بالضرورة أن ترتبط الديمقراطية بالعدالة الاجتماعية وبالأمن الاجتماعي وبالقيم الأخلاقية. ولعلّ خير مثال على ذلك، الأنظمة الديمقراطية الغربية عموماً التي حرصت على النظام الديمقراطي داخل مجتمعاتها بينما أباحت لنفسها استعمار واحتلال شعوب أخرى. فهي ديمقراطيات عنصرية لأنها استباحت شعوباً أخرى لصالح مصالحها، وهي حتى غير عادلة في مجتمعاتها أحياناً كما هو معظم "الديمقراطيات الغربية" التي لم تقم أصلاً على العدل الاجتماعي بين الناس حيث ما زال القوي الغني يأكل الضعيف الفقير، وهذا سياق طبيعي للترابط الحاصل في الغرب بين الديمقراطية في نظام الحكم السياسي وبين مقوّمات الاقتصاد الرأسمالي القائم على تشجيع الفردية والمنافسة الحرّة.
ولم يتحقّق التقدّم العلمي والتكنولوجي في الغرب ورفاهية العيش في مجتمعاته حصيلة وجود الديمقراطية فقط، وإنما أيضاً حصيلة أحد أمرين أو الاثنين معاً: السيطرة على شعوب أخرى ونهب ثرواتها.. والنظام الاتحادي التكاملي الذي أوجد قدرات اقتصادية هائلة. فالمواطن الأميركي قد يعجز عن العيش الكريم في ولاية ما فيغادر إلى ولاية أميركية أخرى.. كذلك في أوروبا الموحدة الآن حيث يتنقل الأوروبيون بحرّية كاملة بين دول الاتحاد الأوروبي، فتبقى الكفاءات والثروات الفكرية والمادية والمهنية داخل المجتمع نفسه، وهذا ما هو مفقود في المنطقة العربية حيث تهاجر الكفاءات والأموال العربية من أرض العرب إلى دول الغرب.
إنّ "الديمقراطية والاتحاد" هما في الغرب الآن وجهان لمشروع نهضوي واحد لمستقبل أفضل، بينما سعت الدول الغربية عموماً إلى المساهمة في تجزئة القوى الدولية الأخرى المنافسة لها، أو المستهدفة منها.
ولقد راهن البعض، أو اعتقد خطأً، أنّ "العولمة" هي التي تملك مفتاح حلّ الأزمات الاقتصادية في العالم، وبأنّها ستؤدي إلى تخفيف حدّة معاناة الشعوب، فإذا بالدواء المفترَض يتحوّل هو نفسه إلى مساهم بانتشار الداء في أكثر من بلد وقارة.
إنّ العالم يعيش حالةً من الفوضى ومن صراع المفاهيم حول هويّة العصر الذي دخلته الإنسانية بعد انتهاء الحرب الباردة بين القطبين الرئيسيين للعالم في القرن العشرين، هذه الحرب التي انتهت بانهزام وانهيار قطب المعسكر الشيوعي (الاتحاد السوفييتي) مقابل فوز وتعزيز قدرات المعسكر الرأسمالي بقيادة الولايات المتحدة الأميركية.
فبسقوط المنافس الشيوعي العالمي، بقيت "الرأسمالية" وحيدة في طرحها لنموذجٍ سياسي واقتصادي وثقافي متكامل لا يمكن أخذ بعضه دون البعض الآخر. فالصيغة السياسية للأنظمة الليبرالية هي الوعاء السياسي لمضمون "الاقتصاد الحر" والمنافسة التجارية الحرة.
ولأنّ "المنافسة الحرة" هي أساس في النظرية الرأسمالية، فإنّ حواجز الحدود والثقافات يجب أن تسقط أمام روّاد الرأسمالية من أصحاب شركات كبرى ومفكرين واقتصاديين وسياسيين. كذلك، فإنّ "المنافسة الحرة" تعني المنافسة وسط أبناء المجتمع الرأسمالي نفسه، وتكون نتيجة المنافسة محكومة بقانون "البقاء للأقوى".
لذلك، جاءت "أطروحة العولمة" كنتاج طبيعي لوجود الفكر الرأسمالي نفسه والذي لا يعترف بحدودٍ جغرافية أو حواجز ثقافية.
وقد تختلف أساليب "عولمة" هذا الفكر ومحاولات نشره من عصرٍ إلى آخر، ومن إستعمار مباشر إلى محاولة التحكم بالقوى الفاعلة داخلياً، لكن يبقى الهدف عند دعاته: تأمين مزيد من الأسواق للاستهلاك، ومزيد من الثروات للاستيلاء عليها، وتقنين العلاقات داخل المجتمعات وبين بعضها البعض على أساس أوضاعٍ ثقافية وسياسية واقتصادية تصون قوانين "الرأسمالية" ووجودها ودورها.
لقد كانت دول العالم الثالث (وهي المنطقة العربية وأفريقيا وأميركا اللاتينية وقسم كبير من آسيا) تعيش، خلال حقبة صراع "المعسكر الشيوعي" والمعسكر الرأسمالي"، همّاً يختلف في طبيعته عن هموم دول "العالم الأول" الغربي و"العالم الثاني" الشرقي.. فقد كان الهمّ الأول لدول العالم الثالث هو التحرّر الوطني من السيطرة الاستعمارية المباشرة التي ميّزت القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين.
إن "الديمقراطية" و"العدالة الاجتماعية" هما أساس لبناء المجتمعات من الداخل حينما يكون هذا الداخل متحرّراً من سيطرة الخارج. لكن عندما يخضع شعب ما للاحتلال أو للسيطرة الخارجية، فإن مفاهيم ووسائل تطبيق الديمقراطية أو العدالة الاجتماعية، ستكون فقط بما يتناسب مع مصالح المحتلِّ أو المسيطر، لا بما يؤدّي إلى التحرّر منه أو من نفوذه المباشر. أمّا الآن، وفي مرحلة ما بعد سقوط النظام الشيوعي وعدم نجاح وحدانية السيطرة العالمية للقطب الغربي الأميركي، فإنّ العالم يشهد حالة تكتلات إقليمية كبرى عسى أن تنجح من خلالها المواجهة مع ظواهر "الخوف من الآخر" في الخارج، أو "الجوع" في الداخل.
لكن عربياً، فإنّ الحرّية، بمعناها الشامل، هي التي تحتاجها الأمّة العربية. الحرّية التي ترتبط فيها مسألة التحرّر من سيطرة الخارج مع مثيلتها في التحرّر من الاستبداد الداخلي والحكومات الفاسدة. الحرّية، التي يمتزج فيها تطبيق الديمقراطية السياسية مع العدالة الاجتماعية في كل بلد عربي حتى تستطيع الأمّة أن تتكامل لاحقاً فيما بينها، فيكون تكامل أقطار الأمة على أساس ديمقراطي سليم، هو الضمانة لتكون أمة "آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغدا من كل مكان" بعدما ذاق بعض شعوبها "لباس الجوع والخوف" بما كان حكامهم يصنعون!.
تتزامن في هذه الفترة قضيتان عالميتان تجمعان بين السياسة والاقتصاد، بين الأمن السياسي والأمن الإجتماعي، بين محاولة تأمين لقمة العيش وبين الخشية على العيش نفسه. فالجوع والخوف هما أسوأ ما يُبتلى به فرد أو جماعة.
قد تكون الحروب بين الدول هي مسؤولة أحياناً عن وجود حالتي "الخوف والجوع"، لكن قد تحدث الحروب أيضاً بسبب تفاقم مشكلة "الخوف من الآخر"، كما قد يشهد العالم حروباً إقليمية لأسباب إقتصادية ترتبط بالخوف من الجوع نفسه. فهي حالات سببية لحروب كما هي حصاد طبيعي للحروب نفسها.
وإذا كان مفهوماً ما تخلّفه الحروب والكوارث الطبيعية من حالات الجوع والخوف، فإنّ من غير المبرّر أن نراها (هذه الحالات) تطرأ على مجتمعات لا هي في حال حرب ولا تعيش مخلّفات كارثة طبيعية. فالجوع والخوف في هذه المجتمعات هما محصّلة لغياب العدل السياسي والاجتماعي ولأساليب القهر التي تمارسها الحكومات ضدّ شعوبها، ولانتشار الفساد والاحتكار وسوء توزيع الثروات الوطنية وانعدام التخطيط الشامل، إقتصادياً واجتماعياً، ولشراسة المستفيدين من الحكم الفاسد.
ولا أعتقد أنّ الديمقراطية وحدها فقط هي العلاج السحري الناجع لحالتي الجوع والخوف. فليس بالضرورة أن ترتبط الديمقراطية بالعدالة الاجتماعية وبالأمن الاجتماعي وبالقيم الأخلاقية. ولعلّ خير مثال على ذلك، الأنظمة الديمقراطية الغربية عموماً التي حرصت على النظام الديمقراطي داخل مجتمعاتها بينما أباحت لنفسها استعمار واحتلال شعوب أخرى. فهي ديمقراطيات عنصرية لأنها استباحت شعوباً أخرى لصالح مصالحها، وهي حتى غير عادلة في مجتمعاتها أحياناً كما هو معظم "الديمقراطيات الغربية" التي لم تقم أصلاً على العدل الاجتماعي بين الناس حيث ما زال القوي الغني يأكل الضعيف الفقير، وهذا سياق طبيعي للترابط الحاصل في الغرب بين الديمقراطية في نظام الحكم السياسي وبين مقوّمات الاقتصاد الرأسمالي القائم على تشجيع الفردية والمنافسة الحرّة.
ولم يتحقّق التقدّم العلمي والتكنولوجي في الغرب ورفاهية العيش في مجتمعاته حصيلة وجود الديمقراطية فقط، وإنما أيضاً حصيلة أحد أمرين أو الاثنين معاً: السيطرة على شعوب أخرى ونهب ثرواتها.. والنظام الاتحادي التكاملي الذي أوجد قدرات اقتصادية هائلة. فالمواطن الأميركي قد يعجز عن العيش الكريم في ولاية ما فيغادر إلى ولاية أميركية أخرى.. كذلك في أوروبا الموحدة الآن حيث يتنقل الأوروبيون بحرّية كاملة بين دول الاتحاد الأوروبي، فتبقى الكفاءات والثروات الفكرية والمادية والمهنية داخل المجتمع نفسه، وهذا ما هو مفقود في المنطقة العربية حيث تهاجر الكفاءات والأموال العربية من أرض العرب إلى دول الغرب.
إنّ "الديمقراطية والاتحاد" هما في الغرب الآن وجهان لمشروع نهضوي واحد لمستقبل أفضل، بينما سعت الدول الغربية عموماً إلى المساهمة في تجزئة القوى الدولية الأخرى المنافسة لها، أو المستهدفة منها.
ولقد راهن البعض، أو اعتقد خطأً، أنّ "العولمة" هي التي تملك مفتاح حلّ الأزمات الاقتصادية في العالم، وبأنّها ستؤدي إلى تخفيف حدّة معاناة الشعوب، فإذا بالدواء المفترَض يتحوّل هو نفسه إلى مساهم بانتشار الداء في أكثر من بلد وقارة.
إنّ العالم يعيش حالةً من الفوضى ومن صراع المفاهيم حول هويّة العصر الذي دخلته الإنسانية بعد انتهاء الحرب الباردة بين القطبين الرئيسيين للعالم في القرن العشرين، هذه الحرب التي انتهت بانهزام وانهيار قطب المعسكر الشيوعي (الاتحاد السوفييتي) مقابل فوز وتعزيز قدرات المعسكر الرأسمالي بقيادة الولايات المتحدة الأميركية.
فبسقوط المنافس الشيوعي العالمي، بقيت "الرأسمالية" وحيدة في طرحها لنموذجٍ سياسي واقتصادي وثقافي متكامل لا يمكن أخذ بعضه دون البعض الآخر. فالصيغة السياسية للأنظمة الليبرالية هي الوعاء السياسي لمضمون "الاقتصاد الحر" والمنافسة التجارية الحرة.
ولأنّ "المنافسة الحرة" هي أساس في النظرية الرأسمالية، فإنّ حواجز الحدود والثقافات يجب أن تسقط أمام روّاد الرأسمالية من أصحاب شركات كبرى ومفكرين واقتصاديين وسياسيين. كذلك، فإنّ "المنافسة الحرة" تعني المنافسة وسط أبناء المجتمع الرأسمالي نفسه، وتكون نتيجة المنافسة محكومة بقانون "البقاء للأقوى".
لذلك، جاءت "أطروحة العولمة" كنتاج طبيعي لوجود الفكر الرأسمالي نفسه والذي لا يعترف بحدودٍ جغرافية أو حواجز ثقافية.
وقد تختلف أساليب "عولمة" هذا الفكر ومحاولات نشره من عصرٍ إلى آخر، ومن إستعمار مباشر إلى محاولة التحكم بالقوى الفاعلة داخلياً، لكن يبقى الهدف عند دعاته: تأمين مزيد من الأسواق للاستهلاك، ومزيد من الثروات للاستيلاء عليها، وتقنين العلاقات داخل المجتمعات وبين بعضها البعض على أساس أوضاعٍ ثقافية وسياسية واقتصادية تصون قوانين "الرأسمالية" ووجودها ودورها.
لقد كانت دول العالم الثالث (وهي المنطقة العربية وأفريقيا وأميركا اللاتينية وقسم كبير من آسيا) تعيش، خلال حقبة صراع "المعسكر الشيوعي" والمعسكر الرأسمالي"، همّاً يختلف في طبيعته عن هموم دول "العالم الأول" الغربي و"العالم الثاني" الشرقي.. فقد كان الهمّ الأول لدول العالم الثالث هو التحرّر الوطني من السيطرة الاستعمارية المباشرة التي ميّزت القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين.
إن "الديمقراطية" و"العدالة الاجتماعية" هما أساس لبناء المجتمعات من الداخل حينما يكون هذا الداخل متحرّراً من سيطرة الخارج. لكن عندما يخضع شعب ما للاحتلال أو للسيطرة الخارجية، فإن مفاهيم ووسائل تطبيق الديمقراطية أو العدالة الاجتماعية، ستكون فقط بما يتناسب مع مصالح المحتلِّ أو المسيطر، لا بما يؤدّي إلى التحرّر منه أو من نفوذه المباشر. أمّا الآن، وفي مرحلة ما بعد سقوط النظام الشيوعي وعدم نجاح وحدانية السيطرة العالمية للقطب الغربي الأميركي، فإنّ العالم يشهد حالة تكتلات إقليمية كبرى عسى أن تنجح من خلالها المواجهة مع ظواهر "الخوف من الآخر" في الخارج، أو "الجوع" في الداخل.
لكن عربياً، فإنّ الحرّية، بمعناها الشامل، هي التي تحتاجها الأمّة العربية. الحرّية التي ترتبط فيها مسألة التحرّر من سيطرة الخارج مع مثيلتها في التحرّر من الاستبداد الداخلي والحكومات الفاسدة. الحرّية، التي يمتزج فيها تطبيق الديمقراطية السياسية مع العدالة الاجتماعية في كل بلد عربي حتى تستطيع الأمّة أن تتكامل لاحقاً فيما بينها، فيكون تكامل أقطار الأمة على أساس ديمقراطي سليم، هو الضمانة لتكون أمة "آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغدا من كل مكان" بعدما ذاق بعض شعوبها "لباس الجوع والخوف" بما كان حكامهم يصنعون!.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق