رضوان عبد الله
هذه السطور التي اخطها عبر هذه المقالة المذكرات، ليست من نسج الخيال، ولا هي من اختراعات بنات افكاري ولن تكون وهمية ولو قرأها القارئون بعد عشرات السنين .
رب سائل ما الهدف من هذه السطور، ولمَ اكتبها بمقالة وليس بكتاب كعادة من يرغب بكتابة مذكراته او خواطر ذكرياته؟! وهل تكفي مقالة بسطور معدودة لتغطي مذكرات حقيقية؟ الجواب ياتيكم بعد قراءة السطور فستثلج قلوبكم وتجاوبون على هوامس افكاركم وبرحابة صدركم طبعا. عبر السنوات العشر الاولى من حياتي الطلابية التي قضيتها في مدارس الاونروا حيث وبسبب الحرب وظروف التهجير، تلقيت التعليم الابتدائي والمتوسط في اربع من تلك مدارس في منطقة صور، لا ضرورة لذكرها فالهدف ليس المديح ولن يكون التشهير طبعا بل التذكير بامور ربما تكون جميلة ، وربما لا !
المهم من الامر انه في احدى تلك المدارس كان مدير مدرستنا انذاك يقف امامنا في الطابور الصباحي لدقائق تتراوح ما بين الخمسة والعشرة ليلقننا "درس اليوم" وهو عبارة عن نصائح وادبيات ودروس ومواعظ لنا المستقبل كي نستفيد منها لحياتنا المقبلة اذا اردنا ذلك، وهذا طبعا جانب ايجابي يتحلى به مدير المدرسة اطال الله بعمره . الطابور كان بدون اي نفس من اي طالب وطالبة، وكانت الابرة ترن على مسامعنا لو سقطت من اي فتاة او حتى من اي شاب، فالخوف موجود والاقرام معقود والالتزام بالانضباط وقتها كان معهودا.
الامر المهم الاخر ان نفس المدير كان يكابد من اجل ان يسعدنا حين يكون اي مدرس غائب ويدخل ليعطينا درسا في الموسيقى (كونه كان عضو كشافة في فلسطين) وكان من جانب اخر يلاعبنا كرة قدم، عسى ان ننفع منتخبنا الوطني او يتخذ منا منتخبا من المدرسة في دوري كروي ما.
في جانب اخر العديد من مدرسينا، ان لم يكن غالبيتهم، ولكن ليس كلهم، كانوا يهمون بأمرنا وبدراستنا وكان الخوف يعترينا حين نواجه احدهم في الحارة او في احد طرقات المخيم حتى ولو كنا مع اهالينا، لان القصاص سيكون قاسيا في اليوم التالي لدرجة كرهنا لمادة معينة بسبب تجاوز العديد من المدرسين حدود القصاص التي كانت تصل الى "الارهاب" او حتى الانتقام من التلميذ او التلميذة اذا لم يكن على قدر مهم من المذاكرة لدروسه (او لدروسها)، ولا انكر اني عانيت مثل كثير من زملائي الطلاب، خصوصا في المرحلة المتوسطة، من "جهل" بعض المعلمين لشعورنا واحاسيسنا وافكارنا، التي لم يرغبوا حتى بسماعها وليس فقط مناقشتها. واتجرا بضرب مثل احد مدرس اللغة الانكليزية كان محبب لي كثيرا يقابله احد مدرسي اللغة العربية الذي اوشكت ان اكره تلك اللغة، رغم قدسيتها لنا كعرب وكمسلمين، بسبب التعاطي السيء في طريقة تعليمنا اياها، يضاف اليه مدرس مواد الاجتماعيات (تاريخ، جغرافيا، وتربية مدنية) الذي لا اعتقد اني استطيع مسامحته لان درجتي كانت تتراجع من الاول الى الثاني او الثالث بسبب بخله بالعلامة معي وبسبب عدم مزاجية اسلوب مذاكرتي مع عصاه الغليظة، ومع طريقة استيعابه لنا كطلاب، وهذا ينطبق على عشرات من الطلاب بل مئات كانوا يعانون مثلي طبعا من ظلم وتعسف المدرس ، وربّما المدرّسة لتلميذٍ او تلميذة آخرين ، حيث انه لم يحصل وان تعلمت على يد مدرّسة على الاقل في مرحلتي الابتدائية و المتوسطة .
و اذكر منها الذكريات الاليمة ما حصل مع احدى الزميلات التي تجرأت على "جواب" المدرس المناوب ان تنضبط بالصف كان قالت له انها منضبطة فاعتبر ذلك "تطاولا" على مقامه الرفيع الذي لم يكن "بسماكة" عصاه بالطبع فإنهار على جنباتها ولم يتجرأ اي من "الارانب" الذين ربما تجاوز عددن وقتها "800" ارنب وارنبة" ان يردوا ظلمة عن زميلتهم التي قاومته برد عصاه عنها بيديها، الى ان جاء مدير المدرسة وزميلين له على صوت الصراخ والحوار الفظ الذي وصل صداه الى داخل الادارة وجوار المدرسة العازل لنا عن الفرار الى حرية العطلة التي كنا نفكر ، فردوه عنها بعد ان تهشم وجهها وبكل اسف شديد و ربما كسرت بعض اضلعها ، وكادت تلك المشكلة ان توقع خلافا كبيرا ليس بين عائلتي المدرس والتلميذة بل بين اهالي المخيم بحد ذاته لولا تدخل المخلصين من لجان اهل محلية و غير ذلك وقتئذٍ ، وتدخل مباشر من قيادة التنظيمين اللذين كانا ينتميان اليهما المدرس واهل التلميذة.
اكثر من ذلك فان المدرس الاخر الذي كان يعلمنا خطأ، او على الاقل يحل لنا بعض مسائل الرياضيات خطأ وحين تجرأنا بعرض مسالة منهن على مدرس اخر رفض حل المسألة لنا لعدم احراج زميله امامنا ونحن الذين "اكتشفنا" خطأه "ومسكنا عليه ممسك " ، ولكن ذلك المدرس اخاب املنا في اخذ ذلك "الممسك " الى المدير. ولكن بعد طول العمر المدرس الاول صار مدير مدرسة خاصة ويتاجر ما يتاجر بالطلاب، اما المدرس الثاني فإن تواضعه الزائد عن اللزوم جعله يرفض (المديرية) في احدى المدارس بسبب له او لاخر... وبعد جهد جهيد زرجاي متكرر ومتعدد تسلم ادارة احدى المدارس .
ربما " احك على جرب" بكتابتي هذه الوقائع الحقة وكتلميذ لم اكن افكر يوما بانني ربما اذكرها في مقالة وعلى الملأ، ولكن رغم كل ذلك كانت مدارس الاونروا تحترم النخبة الفلسطينية الحقة، رغم النسبة الكبير غير المتعلمة التي كانت من اهالينا، ورغم المستوى التعليمي المتوسط لكثير من معلمينا اذ لم يكن الكثير من المعلمين يحملون اجازة جامعية. الذي كان يكد ويجد من اجل يدرسنا بامانة كان يمازحنا حيث تتواصل العلامات العالية معنا (نحن الاوائل) وبما انه يستعير قلم احمر منا لتصحيح العلامات لنشاط معين او امتحان معين ان يقول لنا "ان القلم مخاوز معكم، ولكن تستاهلو علامات مش مثل اولئك الهناشل"، والهنشل حسب ما استفسرنا من احدهم يومها انه تعريب لكلمة هنكل وهي الشاحنة الكبيرة الضخمة بالهيكل الفارغ او ما شابه من شيء ضخم فارغ.
على كل حال فان المذكرات تستمر، والباب مفتوح للجميع ان يحك دماغه ليتذكر ولكن لم يكن الهدف اخذ العبرة وليس المديح الا بمكانية ولا التشهير كا خلت قلت اعلاه ولو بمكانه.
المهم يا اخوة ويا اصدقاء لو جاء لأحدكم ابنه او إبنته الآن بكسل لمدحتموه ولم تعاقبوه لأنه الحق على المعلم ! وهذا غير صحيح الى حد ما فـ " فاللحمات لك والعظمات لنا" هذا كان شعارا الاهالي القدامى ، اليوم لا نريد ان نأخذ ذلك قدوة لنا لكن على الاقل فقد اصبحنا اهالي لابنائنا ونحن على الاقل متعلمون بجزء كبير من اكثر من اهالينا "القدامى".
فرصة التعلم توفرت لنا اكثر من جيل النكبة، و اكثر طبعا بكثير وهذا بمعرفتكم جميعا، والطالب الذي كان يذهب مشيا من بيته الى المدرسة لمسافات طويلة تحت مطر الشتاء معتمرا النايلون او قبوعة فوق مريوله والجزمة البلاستيك ليتحاشى الغوص في وحل الزواريب والطرقات وفي الجانب الاخر يتمطى تحت شمس الربيع واوائل الصيف صار اليوم مثيله لا يذهب لمدرسته التي يراها من نافذة بيته الا بالباص او بالبسيارة ان لم يكن بالرانج روفر او بالـ....!
والمدرسة التي كانت تهدر الرياح الخمسينية او عواصف الشتاء تكسر زجاجها من قصف جوي او مدفعي او حتى بحري ويضطر الاهالي ومدراء المدارس وضع لوائح النايلون عليها الى ان تتوفر الامكانيات لاصلاح ما تكسر منها، ام المختبر المتواضع الذي كنا ندخله لاجراء بعض التجارب البسيطة فيه او في المشغل الاكثر تواضعا والذي كنا نمضي فيه حصة جميلة من المهارات اليدوية والابداعية لا يمكن ان يكون اجمل وسائل الايضاح المتطورة الحالية فلو توفرت بالمدارس لابدع اليوم من ابدع من الطلاب بشتى الاجيال. حتى البوق الكشف الذي كان مديرنا المحبوب يعلمنا عليه نشيد (اه يا زين العابدين) وكنا نستمتع به لا اعتقد انه كان يلبي طموح المدير نفسه، بل يا ترى ما ذا يحصل او توفرت الادوات الموسيقية الجميلة والمتطورة من ضمن مشتريات المدرسة؟!
ماذا يمكن ان اتذكر بعد لاعبر لكم ولنا عن خالص تحياتنا لمدرسينا الذين كنا نحبهم والى اولئك الذين اخطأوا بحقنا ربما كانوا على صواب وربما كانوا يهدفون بان يصنعوا منا جيلا ما صنع منه جيل من قبل... ولا من بعد؟ ربما كنا نشعر بالظلم ولكن (الله يرحم من بكانا وبكى علينا وليس من ضحكنا وضحك علينا) كما كان يرددها علينا ذلك المدير نفسه في طابور الصباح.
الطابور الذي كنا نغادر عبره من صفنا الى بوابة المدرسة (واحد ورا واحد دون نظرة الى الوراء وبدون نفس) اين هو اليوم؟ الانضباط اولا وثانيا واخرا... الخوف وليس الرعب مطلوب ان تفرض شخصية المدرس حتى توحيد اللباس الموحد (مش ضروري كاكي) يعطي رونقا جميلا يعتز به الطلاب كما كنا فعلا نعتز به ولو بلونه الكاكي الذي لم يكن محببا الينا لانه يذكرنا بالجندي البريطاني الذي وهب وطننا الى الاعداء بل ان من لم يكن يلبسه يعاقب ورغم ظلم العقاب الا انه كان ياتي بنتيجة ويجعل الطالب واهله منضبطين بالمحافظة على اللباس ولو اضطروا لغسله مساءا وكويه صباحا....
هل من ذكريات اخرى الحقكم بها واتحفكم بسماعها ؟! نعم ، احدى المدارس التي تعلمنا تحت اسقف جمعتنا ، طلاب و طالبات ، و بين حيطان قديمة هي جدران صفوفها ، كان المدرسون يجعلون من عامل المنافسة يغزو قلوبنا حتى ان احد المدرسين لمادة الرياضيات حفزنا بجائزة معنوية لمن ينهي الامتحان كاملا صحيحا بعشر دقائق، وحين كان ذلك تفاجأ المدرسين الذي كان يناوب بالملعب اننا (اول ثلاثة طلاب) خارج الصف، لكنه فوجئ بأننا انهينا مسابقة الرياضيات بعشر دقائق وبعد ان تأكد من مدرس مادتنا سمح لنا بمغادرة المدرسة الى المنزل. الى هنا لم تنته القصة، فمن ناحية حين وصلت الى الممنزل "تناولتني والدتي "ليش راجع من المدرسة بكير، في اضراب او عطله"مستدركة " بس ما في قصف على شي مخيم ولا مناسبة وطنية او غير وطنية ؟ وفوجئتت والدتي الحنون بإني انهيت الامتحان وسردت لها قصتنا نحن الثلاثة الاوائل... وطبعا باليوم التالي اخبر زميلي الاخرين ان امهما ايضا استجوبتهم بنفس استجواب والدتي، فالآباء كانوا بالعمل وقتئذ، فرغم امية امهاتنا كن يهتممن بعلمنا ويعرفن كيف يتابعون امور دراستنا في غياب الوالد الذي كان يسعى ويكد من اجل لقمة عيشنا وقوت العائلة .
لا نستطيع ان نختصر المذكرات ولا الذكريات بصفحات معدودة ولكن الايام الماضية نستطيع تذكر الجميل فيها والامر السيء لا يمكن ايضا ان ننساه، ولهذا وفي الايام العصيبة التي كنا نمر بها في فترة ما بين 76 الى 82، حيث كانت ايام قصف وتهجير ودمار وحروب والغاء متكرر للشهادات الحكومية وربما لامتحانات نهاية السنة، وهذا رغم المه كان يريحنا من الدراسة ولا انكر ذلك....
هذه الذكريات من المرحلة الابتدائية والمتوسطة، اما المرحلتين الاخريين (الثانوية والمتوسطة كان لها لقاء اخر... ربما يكون هنا على هذه الصفحات الغراء... ربما يكون في كتاب... وربما لا يكون، لماذا؟ اقلبوا الصفحة وتذكروا ما كان يحصل معكم، واعرضوا تجاربكم على الاقل على ابنائكم او اخوتكم الاصغر فابنائهم وبناتهم علّ العبر تفيدهم وتفيدنا جميعا... ولا تنسوا ان تتذكروا الماضي البعيد فالاقرب فالاقرب، ربما يُزال الصدأ عن الذاكرة كي نحيي الامل الجميل... تذكروا فأحيوا لتحيوا ونحيا !!!
وترحموا على من توفي من اساتذتنا ومدراء مدارسنا واطال الله بعمر من بقي وامدّهم من عنده مدا جميلا .
*كاتب وباحث فلسطيني مقيم في لبنان
الخميس، أغسطس 28، 2008
مذكرات طالب
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق