الأحد، أغسطس 03، 2008

القدس والاردن ومعاهدة السلام

نقولا ناصر
(اذا كانت القضية الفلسطينية تعتبر قضية وطنية في الاردن فان قضية القدس تحظى بالاولية في سلم مفردات هذه القضية ، في الاقل لان مواطني بيت المقدس ما زالوا يناضلون من اجل اقامة دولة فلسطينية عاصمتها القدس بجواز سفر اردني)

ايجابيات الدعم الاردني للمفاوض الفلسطيني غنية عن البيان ويكاد المتابع لكثافة اللقاءات والاتصالات والمشاورات الثنائية على ارفع المستويات ، التي تنهل من معين مسيرة تاريخية مشتركة ما زالت متواصلة بالرغم من ظواهر تفرعها الى مسيرتين تبدوان منفصلتين ، يكاد يعتقد بان القيادتين هما قيادة تفاوضية واحدة فالتنسيق الوثيق ، الذي يسهله كون عمان قاعدة ذهاب واياب للمسؤولين الفلسطينيين وبوابة فلسطين المفتوحة دائما الى العالم الخارجي ومنه كمنفذ يكاد يكون وحيدا لقيادة في اسر الاحتلال ، يبدد اية شكوك اردنية في عقد أي اتفاق فلسطيني – اسرائيلي بمعزل عن استمرار هذا التنسيق ، تكرارا للانفراد الفلسطيني بابرام اتفاق اوسلو سرا ، لان تاثر الاردن مباشرة باي اتفاق كهذا سواء سلبا ام ايجابا او كليهما غني عن البيان ايضا . غير ان سلبيات هذا الدعم ، خصوصا حول القدس ، جديرة بوقفة مراجعة اردنية .

ابن القدس محمد نسيبة ، الذي كرمه الملك عبد الله الثاني بدعوته للمشاركة في احتفالات المملكة بذكرى الاسراء والمعراج في الثلاثين من تموز / يوليو الماضي لانه احتضن في حديقة منزله ضريح شهيد عربي اردني سقط عام 1967 وهو يقاتل دفاعا عن المدينة الاسيرة ، وصف الشهيد بانه "يمثل الكرامة والتضحية والانتماء العربي" لبيت المقدس ، لكن هذه الكرامة تكاد تداس اليوم ليطويها التاريخ ، والتضحيات الجسام الاردنية وغير الاردنية دفاعا عنها تكاد تذهب هدرا ، بينما ذاك "الانتماء" يتاكل كل لحظة الان ويكاد يتحول الى تاريخ يبكيه مثل النساء من لم يحافظوا عليه مثل الرجال او الى رموز دينية مهددة ، وليس حريق المسجد الاقصى ببعيد ولا هم بعيدون ايضا غلاة المستوطنين اليهود القابعين على بعد امتار من مسرى النبي العربي محمد ممن اعدوا الخطط والمجسمات والتمويل بانتظار فرصة سانحة للانقضاض على قبة الصخرة المشرفة وثالث الحرمين وبناء الهيكل اليهودي الثالث مكانهما كلمسة اخيرة على اعلان القدس من جانب واحد "عاصمة موحدة ابدية" لدولة الاحتلال الاسرائيلي ، وهذا اعلان لحسن الحظ ما زال يفتقد أي اعتراف دولي به ، لكن دلائل عديدة تشير الى ان حسن الحظ هذا قد لا يطول كثيرا .

في الاردن لجنة ملكية لشؤون القدس ، ولمنظمة المؤتمر الاسلامي في المغرب لجنة للقدس ، وفي جامعة الدول العربية عضو فلسطيني تقول مواثيقه الوطنية ان القدس عاصمة دولة يناضل من اجل اقامتها ، وفي ايران حاليا وكان في العراق قبل الاحتلال الاميركي "جيشان" للقدس تحول اولهما بحكم الامر الواقع الى رديف للاحتلال ضد الاخر الذي تحول الى معين لمقاومة الاحتلال . ولا تكاد القوات المسلحة للدول العربية والاسلامية تخلو من قطعات ووحدات عسكرية تحمل اسم المدينة المقدسة لكن عقائدها العسكرية وفوهات اسلحتها موجهة بعيدا عنها . وفي كل عاصمة عربية واسلامية شارع رئيسي باسم القدس غير ان مواكب سيارات يرفرف عليها علم ابيض يقطعه عرضيا خطان ازرقان متوازيان تتوسطهما نجمة سداسية زرقاء بدات ترتاد كثيرا من هذه الشوارع وسط الكثير من الدهشة والفضول والقليل القليل من الغضب الذي يلجمه الكثير من المعاهدات والاتفاقات المعلنة وغير المعلنة مع دولة الاحتلال وما انبثق عنها من قوانين واجراءات "وطنية" ل"احترامها" حولت هذا الغضب المكبوت الى مرجل ضغط محكم الاغلاق . وبينما يكاد يجد مكتب المقاطعة العربية لاسرائيل في دمشق نفسه بلا عمل بدات تتسلل الى المحال التجارية على جوانب تلك الشوارع سلع اسرائيلية بعضها لا يجد حرجا في حمل الاسم العبري للقدس محميا بالمعاهدات الموقعة للسلام او الاعتراف المتبادل او حمل الاسم العربي للقدس محميا بعضوية هذه الدولة العربية او تلك الدولة الاسلامية في منظمة التجارة العالمية التي تحظر أي مقاطعة للتجارة مع اسرائيل العضو فيها ، ولا تكاد تمر سنة دون انعقاد مؤتمر رسمي او شعبي ، عربي او اسلامي او فلسطيني ، هنا او هناك من اجل القدس .

ولا يوجد مثيل للصعوبة التي يجدها الباحث في الاحاطة بالدفق الورقي الذي لا ينقطع من القرارات والوثائق والكتب والدراسات والابحاث والبيانات والمقالات عن القدس سوى الصعوبة التي يجدها الباحثون في الاحاطة بتفاصيل الحقائق المادية التي يخلقها الاحتلال في القدس وحولها وفي اكنافها لتهويدها بشكل متسارع تلهث وراءه المؤسسات الفلسطينية والعربية والاسلامية الخاصة بالقدس لتوثيق تلك الحقائق وهي بالكاد تجد وقتا لبحث كيفية التصدي لها ناهيك عن مقاومتها ، هذا ان بقي احد يفكر في المقاومة اكثر مما يفكر في التفاوض لانقاذ بيت المقدس و"انتمائه العربي" !

ان الوضع الراهن للقدس ، التي تكاد تفلت من ايدي العرب كما ينساب الماء بين الاصابع ، هو نتيجة كانت متوقعة للتفاوض المنبثق عن الاجماع العربي على السلام القائم على اساس الاعتراف بالامر الواقع الناتج عن الهزيمة العربية الاولى في سنة 1948 ، وهو الاعتراف الذي رفضه العرب حتى فرضته عليهم الهزيمة الثانية في سنة 1967 ، وهم يسوغونه بالخلل في موازين القوى العسكرية والسياسية الناجم عن الهزيمتين لصالح دولة الاحتلال ، وهذا الخلل بدوره يتفاقم بسبب غياب أي عمل عربي مشترك او في الاقل غياب الحد الادنى من التضامن العربي السياسي ، وطبعا لا احد يتحدث هنا عن الوحدة او الاتحاد العربي او عن الدفاع العربي المشترك الذي دفن يوم وقعت مصر المعاهدة العربية الاولى للسلام مع دولة الاحتلال الاسرائيلي عام 1979 ، وبني ضريحه يوم توقيع اعلان المبادئ الفلسطيني الاسرائيلي عام 1993 ، ووضع شاهده يوم وقع الاردن معاهدة السلام العربية الثانية عام 1994 ، وفتح بجانبه سجل لتبادل الاعتراف الدبلوماسي يوم رفعت موريتانيا مستوى علاقاتها الدبلوماسية مع دولة الاحتلال الاسرائيلي الى مستوى السفراء عام 1999 ، وقرئت عليه الفاتحة يوم تبنت قمة بيروت لجامعة الدول العربية مبادرة السلام العربية كخيار استراتيجي يجمع العرب عليه .

ان التهويد المتسارع للقدس والتوسيع المتواصل للاستعمار الاستيطاني فيها وحولها والعملية التي لا تتوقف لافراغها من اهلها والعمل القائم على قدم وساق لطمس هويتها العربية ومحاصرة الاسلام والمسيحية فيها ، مما يحول احتفالية اعلانها عاصمة للثقافة العربية في السنة المقبلة الى مناسبة منفية تجري احداثها خارجها ، كان كل ذلك وغيره منذ عام 1993 سببا كافيا لاستجابة قيادة التفاوض الفلسطينية للمطالب المبكرة والمتكررة للمؤتمرات الشعبية الفلسطينية والعربية والاسلامية - المسيحية ل "ربط العملية السلمية بتحرير القدس وعودتها الى الشعب الفلسطيني ورفض ارجاء التفاوض حولها" وسببا كافيا لوقف المفاوضات واعادة النظر في مرجعياتها الراهنة واستبدالها بمرجعية منبثقة عن توافق وطني فلسطيني كانت القيادة المفاوضة حريصة على تجاهله وتجميد او تهميش كل المؤسسات التمثيلية للشعب الفلسطيني ، وفي مقدمتها مؤسسات منظمة التحرير وفتح ، التي يمكنها ان تبلور توافقا كهذا ، لكي لا تكون القدس خطا احمر لحراكها التفاوضي والسياسي يجري تقويم ادائها ومساءلتها على اساسه .

غير ان المفاوض الفلسطيني لا يتوقف عن تكرار تسويغ موقفه باستناده الى مرجعية مبادرة السلام العربية التي اجمع العرب عليها ، وهو اجماع يتيم يفتقده اصحابه حول كل قضية عربية اخرى حتى لو كانت من وزن مماثل او ربما اثقل مثل قضية الاحتلال الاميركي للعراق ، لان احتلال فلسطين ما زال يوحد العرب ولو سلما لكن احتلال العراق فرقهم ويهددهم ان استقر بتابيد التجزئة بينهم . وقد تحول هذا الاجماع العربي اليتيم الذي يصفعه بقسوة استمرار تجاهل دولة الاحتلال الاسرائيلي له منذ ست سنوات الى مظلة لمواصلة تهويد القدس دون أي رادع عربي سلمي او غير سلمي بحيث لن يفلت هذا الاجماع في منظور أي مراجعة تاريخية مستقبلية من تحمل مسؤولية الشراكة عن المصير الذي يتهدد بيت المقدس في الوقت الحاضر ، لان استمرار هذا الاجماع واستمرار دعمه للمفاوض الفلسطيني وللمفاوضات العقيمة التي يحريها منذ سبعة عشر عاما دون أن يكون له أي اثر مادي على الارض في انقاذ ما تبقى من مظاهر عروبة القدس هو بمثابة ضوء اخضر عربي لمواصلة تهويدها لا تفسير له سوى العجز العربي عن فعل أي امر اخر او التذرع بالاجماع الاستراتيجي على السلام "الاستراتيجي" للتنصل العربي ، دولا منفردة وجامعة للدول ، من المسؤولية عما سيؤول اليه مصير القدس بتحميل هذه المسؤولية للحلقة الفلسطينية الاضعف في سلسة المسؤولية العربية عنها بذريعة اصرار القيادة الفلسطينية على التمسك ب"القرار الوطني المستقل" !

ومما لا شك فيه ان هذا الضوء الاخضر العربي فيه شعاع اردني ساطع . واذا كانت القضية الفلسطينية تعتبر قضية وطنية في الاردن فان قضية القدس تحظى بالاولية في سلم مفردات هذه القضية ، في الاقل لان مواطني بيت المقدس ما زالوا يناضلون من اجل اقامة دولة فلسطينية عاصمتها القدس بجواز سفر اردني . لقد المحت قيادة التفاوض الفلسطيني مؤخرا بلسان اكثر من مسؤول فيها بانها في حال فشل جولة المحادثات الثلاثية الفلسطينية – الاسرائيلية – الاميركية في واشنطن الاسبوع الماضي ، والتي دعت اليها وزيرة الخارجية المضيفة كوندوليزا رايس كلا من رئيس فريقي المفاوضات احمد قريع وتسيبي ليفني ، فانها قد تعيد النظر في المفاوضات والتفاوض . ان هذا "التلميح" الفلسطيني جدير ب"تصريح" اردني يردفه يقول كفى للتفاوض العبثي وكفى لاستغلال المفاوضات مظلة لمواصلة تهويد القدس وانه حان الوقت لسحب الغطاء الاردني عن دعم مفاوضين لمفاوضات سلبياتها ترجح ايجابياتها كثيرا . واذا كان الغاء المعاهدة الاردنية الاسرائيلية مطلب حق شعبيا لا يسع الاردن الرسمي تحمل تبعاته ، فان تعليق هذه المعاهدة او في الاقل التلويح بتعليق العمل بها حتى تستجيب دولة الاحتلال لاستحقاقات السلام الفلسطينية ومبادرة السلام العربية سيكون افضل دعم للمفاوض الفلسطيني واشارة اردنية جادة تحث الاجماع العربي على اجراء مراجعة شاملة لمبادرته السلمية .

لقد حان الوقت لكي تتحرك الدبلوماسية الاردنية تحركا جادا في هذا الاتجاه ، بهذا الشكل او بغيره ، فالقدس بحاجة الى تحركها في هذا الوقت بالذات لان عروبتها امام مفصل تاريخي ، اذ في القدس سوف يتقرر استمرار او عدم استمرار "عملية السلام" ، لا بل السلام نفسه ، وهي دبلوماسية كفؤة اثبتت جدارتها في انتزاع قرار محكمة العدل الدولية بلاهاي قبل اربع سنوات بشان عدم قانونية جدار الضم والتوسع (المعروف باسم الجدار العنصري) الذي تبنيه قوات الاحتلال في الضفة الغربية وخصوصا في القدس ، التي تكاد تفلت من ايدي العرب كما ينساب الماء بين الاصابع .

والمواطن الاردني ليس بحاجة لكاتب مقال كي يعرفه بالتفاصيل اليومية لعملية تهويد القدس الجارية على قدم وساق ، فهو يعيشها ، لكن لا باس من عجالة لمراجعة احدث عنوانين لها من باب التوثيق ، اولهما دلالات ما اعلنه رئيس وزراء دولة الاحتلال ايهود اولمرت في اللجنة البرلمانية للشؤون الخارجية والدفاع في الكنيست يوم الاثنين الماضي بان أي اتفاق يمكن التوصل اليه مع الجانب الفلسطيني قبل نهاية العام الجاري لن يشمل القدس . ان مسارعة القيادة الفلسطينية الى الرد على اولمرت برفض أي تاجيل للتفاوض حول القدس وتاكيد رفض أي اتفاق دونها ليس مسوغا لعدم صدور رد فعل اردني قوي يرفض بدوره أي اتفاق لا يشمل القدس ، لان التفسير الوحيد لتصريح اولمرت هو ان اسرائيل تواصل المماطلة من اجل تاجيل بحث قضية القدس وغيرها من قضايا الوضع النهائي من اجل شراء المزيد من الوقت العربي الضائع واستثماره في تسريع استكمال عملية تهويد المدينة تحت مظلة الاجماع العربي على الخيار الاستراتيجي السلمي ، اذ تحت هذه المظلة اغتصب الاحتلال معظم اراضي القدس الكبرى ، بلغت حصة "الجدار" منها اكثر من (40) الف دونم ، بحيث لم يبق لاهلها سوى (12%) منها ، ليقيم فوق ما اغتصبه اكثر من (17) مستعمرة استيطانية يهودية يقطنها قرابة (200) الف مستوطن ناهيك عن عشرات البؤر داخل اسوار المدينة القديمة (جمعية الدراسات العربية المقدسية ، شباط / فبراير 2008) .

اما العنوان الثاني فيمكن تلخيصه بكلمة "الجرافة" . ان عملية الجرافة بالقدس في الثاني من تموز / يوليو الماضي ثم عملية مماثلة لها بعد عشرين يوما ، وكلتاهما "فردية" ، تعبر عن حالة رفض شعبية للوضع الراهن في المدينة وعن حالة ياس سلبية فقدت الامل في السلام وعمليته اكثر مما تعبر عن فعل ايجابي منظم لجهد نضالي فلسطيني ، لكن الاحتلال استغل العمليتين ذريعة جديدة لمواصلة التملص من استحقاقات السلام ، ومادة للتحريض ضد عرب المدينة "الفلسطينيين – الاردنيين" في سياق حملته المتسارعة لافراغها منهم ، ليحسم الصراع الديموغرافي فيها بعد ان حسم الصراع على الارض ، وغطاء على اسطول قواته من جرافات كاتربلر الاميركية التي هدمت (18000) بيت فلسطيني في المدينة منذ احتلال شطرها الشرقي عام 1967 (اللجنة الاسرائيلية لمكافحة هدم المنازل الفلسطينية ، حزيران / يونيو 2007) منها اكثر من 790 مبنى منذ بداية عام 2000 ، والتي مهدت الارض لبناء الجدار ، وتوسيع مستعمراته الاستيطانية بعد الجدار وبنائها قبله ، بينما يستعد اسطول الجرافات هذا الان لتحويل الجزء المتبقي من اراضي القدس التي لم يغتصبها بعد الى مكب لنفايات المستعمرات ، اذ طبقا للجروزالم بوست في الثلاثين من الشهر الماضي تم يوم الاربعاء الماضي اطلاق "مشروع بيئي" مدته ثلاث سنوات بكلفة (21) مليون شيقل للتخلص من مخلفات بناء المستعمرات وهدم المنازل الفلسطينية في القدس ، التي يبلغ وزنها بين (127) وبين (198) الف طن سنويا حسب وزارة حماية البيئة الاسرائيلية ، عن طريق تسوية ارض في شمال القدس وجنوبها كمكب لهذا النفايات والمخلفات ثم بناء منشاتين لمعالجتها .

ثم يحدثونك عن جرافات فلسطينية !

*كاتب عربي من فلسطين
nicolanasser@yahoo.com*

ليست هناك تعليقات: