السبت، أغسطس 30، 2008

انهم يرقصون ليلة عيد الموسيقى

‬سعيد الحمد

– كاتب واعلامي بحريني

إنهم‮ ‬يرقصون ليلة عيد الموسيقى هذا العنوان مستوحى من فيلم شهير عرض في‮ ‬السبعينات‮ »‬انهم‮ ‬يرقصون ليلة رأس السنة‮« ‬صفقنا له كثيراً‮ ‬آنذاك وهو‮ ‬يعرض في‮ ‬درامية رائعة بعض صور‮ »‬توحش الرأسمالية‮« ‬في‮ ‬البعد الاجتماعي‮ ‬وهي‮ ‬الرأسمالية نفسها التي‮ ‬نقرأ اليوم فيما نقرأ انها تفتح قصورها وشوارعها ليلة احتفال عيد الموسيقى للجمهور،‮ ‬ليعبر عن بهجة اخرى في‮ ‬عالم آخر‮ ‬يفهم ويعلم ان للموسيقى وجهاً‮ ‬وجدانياً‮ ‬آخر‮ ‬يشع داخل الروح ويتألق بالوجدان الانساني‮ ‬إلى ذرى الشفافية والابداع‮.

قصر الاليزيه في‮ ‬فرنسا قرأنا انه وبقرار من الرئيس‮ »‬المختلف‮« ‬نيكولا ساركوزي‮ ‬فتح ابوابه امام الجمهور للمرة الاولى بمناسبة‮ ‬يوم الموسيقى او عيد الموسيقى،‮ ‬وصدر بذلك بيان ان اوركسترا الحرس الجمهوري‮ ‬ومن ثم جوقة الجيش تفتتحان الحفل في‮ ‬ساحة الشرف في‮ ‬الايليزيه مع عزف موسيقى ومؤلفات شوبان وتشايكوفسكي‮ ‬وموزارت واختتمت الحفل فرقة برازيلية بمعزوفات وقطع موسيقية اخرى منتقاة من المؤلفات العالمية‮.‬

ليست لحظة عادية وليس خبراً‮ ‬عادياً‮ ‬ولكنه وعي‮ ‬حضاري‮ ‬تجاوز لحظته‮ »‬الرسمية‮« ‬ليعيد للفن للموسيقى اعتبارها وليكشف لنا هنا كم هي‮ »‬الموسيقى‮« ‬تعيد صياغة الانسان ذوقاً‮ ‬واحساساً‮ ‬وجمالاً‮ ‬ورقياً‮ ‬عندما تلامس مسام روحه فتنقيها من شوائب لحظة حياتية عاصفة لترتفع بها إلى فضاءات التذوق والتألق والانتقال إلى عوالم الابداع والبهجة التي‮ ‬تصحرت وجفت ارواحنا بدونها بعد ان خاصمنا الابداع وطاردنا الموسيقى ولاحقناها في‮ ‬كل زاوية ومكان لنخنق صوتها فنخنق روح الابداع فينا،‮ ‬تلك التي‮ ‬يبثها داخلنا لحن موسيقي‮ ‬شفاف‮ ‬يلامس شغاف القلب والروح‮.‬

ولو لم تكن الموسيقى كذلك لما‮ ‬غردت البلابل في‮ ‬سيمفونية صباحها ومسائها،‮ ‬ولما تمايلت الاغصان في‮ ‬معزوفة ابدية هي‮ ‬روح الموسيقى في‮ ‬الطبيعة وفي‮ ‬الطيور،‮ ‬فما بالنا بالانسان الذي‮ ‬يحتاج شيئاً‮ ‬من البهجة،‮ ‬وشيئاً‮ ‬من الفرح،‮ ‬وشيئاً‮ ‬من المرح،‮ ‬صادرناه وطاردناه ولاحقناه،‮ ‬حتى تصحرت من حولنا كل الاشياء،‮ ‬وجفت حناجر بلابلنا عن مجرد تغريدة صباحية او مسائية‮..

‬اسألكم متى سمعتهم آخر تغريدة بلبل،‮ ‬حتى بلابلنا وعصافيرنا كفَّت عن التغريد،‮ ‬وغادرتنا لتحل الغربان مكانها في‮ ‬اطلالة ذات بعد‮ ‬يكشف عن تصحرنا نحن الذين حاربنا تغريد البلبل وفجعنا بالغربان،‮ ‬تقف عند كل صباح على نوافذنا وفوق اغصان اشجارنا‮.. ‬لا تسألوا اين البلابل والعصافير بل اسألوا اين الموسيقى واين اللحن واين الشجن‮..‬؟؟‮!!

‬ قصر الاليزيه واحد من قصور اوروبية عديدة وساحة،‮ ‬الاليزيه واحدة من ساحات اوروبية عديدة فتحت ابوابها وهيأت مكانها ليلة عيد الموسيقى للموسيقى،‮ ‬تعيد فيهم تخليق الوجدان وتنشر حولهم البهجة في‮ ‬رقصة ايقاع واحد‮.. ‬تذكرت كل ذلك وانا استعيد كيف نجحنا في‮ ‬السنوات الاخيرة وفي‮ ‬زمن قياسي‮ ‬قصير في‮ ‬اجتثات آخر اشكال البهجة والفرح بمصادرات وملاحقات ممنهجة لا تترك ثغرة‮ »‬يخترقها‮« ‬صوت‮ ‬يغني‮ ‬او حفلة موسيقى تقام‮.‬

هل تتذكرون حفلة‮ ‬غنائية او موسيقية اقيمت في‮ ‬منطقتنا في‮ ‬الفترة الاخيرة دون ان تعترضها التنديدات والتهديدات،‮ ‬ودون ان تتحرك جماعات منع الفرح وقمع البهجة لوقفها حتى لا‮ ‬يفرح الناس ولا‮ ‬يبتهجوا؟؟

انتهت روسيا القيصرية بما لها من سطوة وانهارت روسيا الشيوعية بما لها من قوة،‮ ‬وتساقطت تماثيل القياصرة الروس وزعماء البلاشفة.

وحده تمثال الموسيقار تشايكوفسكي‮ ‬ظل شاهداً‮ ‬وظل علامة على ان كل شيء إلى زوال ما عداه‮ ‬الفن الذي ‬يبقى اضاءة في‮ ‬التاريخ ودليلاً‮ ‬في‮ ‬جغرافية المكان‮.‬ وليست المفارقة في‮ ‬جغرافية المكان ففي‮ ‬العصر المعولم سقطت المسافات ولكنها المفارقة والفارق في‮ ‬جغرافية الوعي‮ ‬وتحولاته ان‮ ‬يمضي‮ ‬إلى الامام دائماً‮ ‬مستشرفاً‮ ‬انوار العقل وانوار الروح وبين ان‮ ‬يمضي‮ ‬الوعي‮ ‬إلى الوراء مستدلاً‮ ‬بعلامات انغلاق الوعي‮ ‬وانغلاق الروح‮. ‬لذا هم هناك في‮ ‬جغرافية وعيهم‮ ‬يخلقون البهجة ويصنعونها ونحن هنا في‮ ‬جغرافية وعينا نذبح البهجة‮.. ‬وهذا هو الفارق الذي‮ ‬لم ندركه،‮ ‬احتضنوا الموسيقى فابتهجوا وطاردناها فاكتأبنا‮..!!‬

ليست هناك تعليقات: