الاثنين، أغسطس 11، 2008

مثلث برمودا اسرائيلي يبتلع القدس

نقولا ناصر

(المثلث الاستيطاني اليهودي الجاري استكماله اليوم بين القدس وبين مشارف البحر الميت الى الشرق منها سيكون "مثلث برمودا اسرائيلي" يهدد بابتلاع القدس ومعها الدويلة الفلسطينية الموعودة و"عملية السلام" والسلام نفسه)

بينما يهرق عرب فلسطين دماءهم في اقتتال يرقى الى الانتحار السياسي اصطراعا على سلطة وهمية ما زال الاحتلال سيدها وآسرها ، تجد القدس العربية الاسلامية نفسها اليوم ضحية زمن غادر يكاد التاريخ القريب لتهويد شطرها الغربي يكرر نفسه في شطرها الشرقي حيث يتركها فيه لمصير مماثل احفاد بناتها اليبوسيين والكنعانيين واجيالهم العربية اللاحقة ومن تاخت معهم في الاسلام من الامم والشعوب الاخرى ليحملوا المقدسيين الصامدين فيها الامانة التاريخية التي تخلوا عنها ، وهم بالكاد وبشق الانفس يحافظون على وجودهم فيها ، بينما يؤسس الاحتلال الاسرائيلي لاقامة "مثلث برمودا" استيطاني جديد يحسم لصالحه الصراع الديموغرافي على المدينة بعد ان حسم الصراع الجغرافي على الارض فيها ويبتلع القدس والدويلة الفلسطينية الموعودة وعملية السلام والسلام نفسه .

وكان التقرير الاحصائي السنوي لعام 2007 الذي اصدره الجهاز المركزي للاحصاء الفلسطيني في الثالث من الشهر الجاري هو احدث دليل على ان الاحتلال يكاد يحسم الصراع الجغرافي والديموغرافي على القدس لصالحه لكن الحقيقة الاهم التي يثبتها التقرير لكنه لا ينص عليها هي ان التاريخ القريب لتهويد الشطر الغربي من القدس دون قتال قبل اقامة دولة المشروع الصهيوني في فلسطين بقوة السلاح عام 1948 يكرر نفسه اليوم بعد قيامها في عملية جارية على قدم وساق لتهويد شطرها الشرقي بقوة السلاح كذلك لكن دون قتال ايضا .

ويوضح التقرير بما لا يدع مجالا لاي شك ان القدس كانت وما زالت الهدف المركزي الذي يتوجه اليه هجوم الاستيطان الاستئصالي الاحلالي اليهودي منذ احتلال الشطر الشرقي للمدينة عام 1967 ، ففي عرض التوزيع الجغرافي للمستعمرات الاستيطانية حسب المحافظات في الضفة الغربية احتلت القدس المرتبة الاولى بستة وعشرين مستعمرة ضمت دولة الاحتلال الاسرائيلي ستة عشر منها اليها ومع ان نسبة المستعمرات في محافظة القدس الى اجمالي عدد المستعمرات والقواعد العسكرية في الضفة الغربية (التي تزيد على 500 مستعمرة وقاعدة) تبدو ضئيلة فان عدد المستوطنين الذين يعيشون في مستعمرات القدس يمثلون ثلاثة وخمسين في المائة (256037 في محافظة القدس و 194695 في منطقة بلدية القدس) من اجمالي عددهم في الضفة البالغ (483453) مستوطنا حتى نهاية العام المنصرم ، حسب التقرير ، وعلى الارجح ان عددهم سوف يتجاوز النصف مليون مستوطن خلال عام 2008 الجاري اذا اعتمدنا معدل نموهم البالغ (3.74%) خلال العامين المنصرمين وفقا للتقرير الفلسطيني .

ومما جاء في التقرير ليؤكد ان القدس كانت وما زالت هي الهدف المركزي للهجوم الاستيطاني اليهودي ان ثمانية وثمانين في المائة من مجموع مستوطني الضفة يعيشون في خمسة واربعين "مستعمرة حضرية (غير ريفية) ... منها 22 مستعمرة في محافظة القدس" ، وهذه هي المستوطنات التي يصر المفاوض الاسرائيلي على ضمها في أي تسوية سياسية نهائية مع الجانب الفلسطيني والتي ضمن موافقة الراعي الاميركي لما يسمى "عملية السلام" على ضمها بحجة ان تفكيكها وسحبها للعودة الى حدود الرابع من حزيران / يونيو 1967 يعتبر امرا "غير واقعي" طبقا لرسالة الضمانات التي بعثها الرئيس جورج دبليو. بوش الى رئيس وزراء دولة الاحتلال الاسرائيلي السابق الغائب عن الوعي بانتظار اعلان وفاته ارييل شارون في 14 نيسان / ابريل 2004 . وطبقا لتقرير الاحصاء الفلسطيني تحتل المستعمرات ما نسبته (38.3%) من مساحة الضفة الغربية يحظر على عرب فلسطين دخولها ، منها حسب الارقام الاسرائيلية (12%) في القدس ضمت دولة الاحتلال معظمها من جانب واحد مباشرة بعد الاحتلال عام 1967 .

ان طوق المستعمرات الاستيطانية "الحضرية" الذي يبنيه الاحتلال حول القدس الكبرى يستهدف اقامة سد منيع خارجي من الحجر والمعدن والاسمنت حول القدس المهودة لحمايتها من جهة بحاجز مادي وبشري تستند اليه اي قوة عسكرية يوكل اليها الدفاع عن المدينة ولاستخدام هذا الحاجز نفسه لعزل بيت المقدس وفصله عن محيطه العربي الاسلامي في الضفة الغربية ، والعزل والفصل كلاهما شرط مسبق لا بد منه لاسرلة المدينة وتهويدها ، ويكاد هذا الطوق يكتمل وما "التوسع الاستيطاني" المتسارع ، خصوصا بعد اطلاق مفاوضات السلام الفلسطينية الاسرائيلية في انابوليس بولاية ميريلاند الاميركية في تشرين الثاني / نوفمبر العام الماضي ، الا الدليل على ان الاحتلال يسعى الى سد اي ثغرات متبقية في هذا الطوق لاستكماله تمهيدا لفرضه كحقيقة جديدة على الارض يملي على المفاوض الفلسطيني القبول بها كما املى عليه القبول بالمستعمرات المماثلة داخل هذا الطوق وهو قبول قاد الجانب الفلسطيني الى القبول بمبدا "تبادل الاراضي" لمبادلة هذه المستعمرات الماهولة بالمستوطنين باراض خلاء لا تساويها في النوعية والقيمة والمثل في صحراء النقب بمحاذاة قطاع غزة وقرب الخليل بحجة توسيع "الممر الامن" المقترح بين القطاع وبين الضفة .

ان الضجيج اللفظي الذي اثارته احتجاجات المفاوض الفلسطيني على "التوسع الاستيطاني" في القدس وحولها بعد انابوليس ، وهو ضجيج لم يترك حتى الان أي صدى عربيا او اسلاميا او دوليا ، لم يوقف هدير جرافات كاتربيلر الاسرائيلية اميركية الصنع عن مواصلة سد الثغرات في هذا الطوق الخارجي في جنوب القدس وشمالها وشرقها ، وكان الاعلان عن قرار حكومة دولة الاحتلال في الاسبوع الماضي بتوسيع مستعمرتي "كيدار ايه" و "كيدار بي" وضمهما الى مستعمرة "معاليه ادوميم" بمصادرة (11) الف دونم من اراضي السواحرة وابو ديس بهدف "اقامة مثلث جنوب شرقي القدس" ببناء ستة الاف وحدة استيطانية "حضرية" جديدة لاستيعاب ثلاثين الف مستوطن يضافون الى اكثر من خمسة وثلاثين الفا اخرين في معاليه ادوميم لانشاء مدينة تمتد من "جبع (شمال شرق القدس) شمالا الى مشارف البحر الميت شرقا" ، كما قال حاتم عبد القادر مستشار رئيس الوزراء الفلسطيني سلام فياض في الثالث من الشهر الجاري ، هو الحلقة الاستيطانية الاخيرة التي سوف تحكم اغلاق القدس بالمستعمرات من جهاتها الاربع .

وهذه المثلث هو الاخطر في سلسلة التوسع الاستيطاني في طوق المستعمرات المحيطة بالقدس وسيكون "مثلث برمودا اسرائيلي" يهدد بابتلاع القدس ومعها الدويلة الفلسطينية الموعودة و"عملية السلام" والسلام نفسه لانه اولا سوف يحكم اغلاق الطوق الاستيطاني الخارجي حول المدينة من الجهات الاربع وثانيا لانه سوف يتم وصل هذا المثلث جغرافيا بالمستعمرات داخل حدود بلدية القدس عن طريق استيطان ارض فلسطينية مقدسية خلاء (تعرف باسم إي 1) تقل مساحتها عن خمسة اميال مربعة وتقع بين التلة الفرنسية في القدس الشرقية غربا ومستعمرتي معاليه ادوميم شرقا وكيدار جنوبا وبلدة ابو ديس الفلسطينية في الجنوب الشرقي ويمنع الاحتلال المقدسيين من البناء فيها لكنه اقام فيها مقر قيادة شرطته للضفة الغربية بكاملها تمهيدا لاستيطانها .

وهذا "المثلث الاستيطاني" الجديد هو الاخطر ثالثا لانه يهود الطريق التاريخي الاستراتيجي الموصل بين بيت المقدس وبين محيطه العربي الاسلامي في المشرق العربي عبر الاردن شرقي النهر باقامة حاجز "حضري" وبشري وعسكري يهودي يمنع أي تواصل ديموغرافي اردني مباشر مع القدس ويجري حاليا الاستعداد لتعويض سكان الضفة عن هذه الطريق بتحديث طريق عسكرية قديمة خطرة بين محافظة رام الله وبين اريحا عبر بلدة الطيبة تعرف باسم طريق "المعرجات" بتمويل واشراف ياباني ضمن جهود الدول المانحة لسلطة الحكم الذاتي الفلسطينية لمساعدتها في تاهيل بناها التحتية للدولة الفلسطينية الموعودة !

وهو الاخطر رابعا لانه سوف يلي استكماله استيطان المنطقة المعروفة ب "إي 1" وربما تكون الايجابية الوحيدة لانابوليس هي انها "اجلت" عملية الاستيطان هذه نتيجة لاحتجاجات المفاوض الفلسطيني لكن الخطط الاسرائيلية جاهزة لاستيطانها بانتظار قرار سياسي ، وصدور القرار السياسي المرتقب في اية لحظة معناه اغلاق الثغرة الوحيدة المفتوحة للوصل الجغرافي بين بيت المقدس وبين الضفة الغربية من ناحية وكذلك اغلاق الثغرة الوحيدة المفتوحة للوصل بين الضفة الغربية ومدن بيت ساحور وبيت لحم وبيت جالا ومنها الى الخليل جنوبي الضفة عبر ابو ديس والعيزرية من ناحية اخرى .

وهو الاخطر خامسا والاهم لانه سيقيم مدينة سيبلغ عدد مستوطنيها في المدى المنظور القريب جدا اكثر من سبعين الف نسمة لتكون الاكبر خلال بضع سنوات بين القدس وبين نهر الاردن لتزيد مساحتها بالاراضي الفلسطينية المصادرة على اضعاف مساحة مدينة اريحا التاريخية المحاصرة حاليا بالمستعمرات الاستيطانية الاصغر التي تسيطر عليها عسكريا من التلال الغربية والشمالية المطلة عليها من جهة وبالبحر الميت المهدد بالجفاف وربما بقناة البحرين الاحمر والميت التي تجري الدراسات والمشاورات الاردنية – الاسرائيلية – الفلسطينية حولها منذ بضع سنوات من الناحية الاخرى .

وسيكون استكمال هذا المثلث – المدينة هو المسمار الذي يدق في نعش الدويلة الفلسطينية الموعودة او الموهومة لا فرق لانه سيفصل "حضريا" وعسكريا بين جنوب الضفة الغربية وبين شمالها التي ما زال المفاوضون يكابرون بان انتزاعهم لموافقة الولايات المتحدة الاميركية والاعضاء الثلاثة الامميون والاوروبيون والروس في اللجنة الرباعية الدولية للسلام في الشرق الاوسط على شرط تواصلها الجغرافي كان انجازا ورقيا آخر لا وجود ماديا له على الارض مثل السلطة "الوطنية" التي تعترف بها هذه اللجنة ومثل الدولة الفلسطينية التي يعترف بها الاشقاء العرب والاخوة المسلمون !

وكان الاحتلال قد استكمل تقريبا طوقه الاستعماري حول القدس من جهاتها الثلاث الاخرى الغربية والشمالية والجنوبية . ان استعراضا سريعا لما جاء في تقرير الاحصاء الفلسطيني حول التوزيع الجغرافي للمستعمرات حسب المحافظات يظهر ان محافظة رام الله والبيرة ، التي تمثل المدخل الى بيت المقدس من الشمال والشمال الغربي ، تلي محافظة القدس في الكثافة الاستيطانية حيث نقل الاحتلال (81851) مستوطن يهودي للعيش في (24) مستعمرة "حضرية" اقامها فيها ويتصل هؤلاء شمالا بثلاثين الف مستوطن في محافظة سلفيت بين رام الله وبين نابلس ، وتلي القدس في المرتبة الثالثة في الكثافة الاستيطانية بعد رام الله محافظة بيت لحم الى الجنوب من بيت المقدس حيث يعيش (53406) مستوطن "حضري" في ستة عشر مستوطنة يضمها مجمع مستعمرات "غوش عتصيون" يتصلون جنوبا مع (12328) مستوطنا في (14) مستعمرة اقامها الاحتلال في جبل الخليل ، واذا ما استكمل "مثلث برمودا الاسرائيلي" الى الشرق من بيت المقدس فانه سينافس رام الله على المرتبة الثانية في الكثافة الاستيطانية .

ولن يفوت أي خبير عسكري عادي ملاحظة ان المخطط الاستراتيجي الاسرائيلي قد اقام مستعمراته الرئيسية حول القدس لتغلق الطرق التي استخدمتها الجيوش تاريخيا للوصول اليها من الشمال والشرق والجنوب بعد ان سد هذا المخطط الثغرات التي كشفها الحصار العربي للشطر اليهودي من القدس خلال حرب 1948 باقامة مستعمرة مودعين ليضمن الطريق الغربي الموصل تاريخيا الى بيت المقدس ، اذ لن ينسى من ما زالوا معنيين بقراءة تاريخ بيت المقدس ان صلاح الدين الايوبي دخل القدس عام 1187م بعد انتصاره في معركة حطين الى الشمال منها وان الجنرال البريطاني ادموند هنري هاينمان اللنبي دخلها عام 1917 بعد انتصاره على القوات العثمانية في غزة جنوبا مثلما وصلت القوات المصرية الى بيت لحم على مشارف القدس الجنوبية قادمة من غزة ايضا عبر الخليل جنوبا عام 1948 بينما وصلت قوات الجيش العربي الاردني الى المدينة المقدسة في تلك السنة عبر "مثلث برمودا" الذي تكاد دولة الاحتلال الاسرائيلي اليوم تستكمله الى الشرق من بيت المقدس .

وبينما يسلم العرب والمسلمون اليوم مصير بيت المقدس لرب يحميه تبدو المسيحية الغربية ، بعد ان روضتها العلمانية ، قد تخلت بدورها عما كانت تدعيه من حقوق في القدس ، مهد المسيحية ، وورثت احلامها "الصليبية" للحركة الصهيونية العالمية لتقوم حكومة الحنرال اللنبي الذي دخل المدينة محتلا في الحادي عشر من الشهر الثاني عشر عام 1917 بتسليمها هي واكنافها الى الصهاينة تنفيذا ل"وعد بلفور" ليقيموا فيها دولتهم اليهودية التي يستخدمها الاستعمار الامبريالي الغربي الحديث للقيام بالدور الذي قامت به الامارات "المسيحية" التي انشاها الغزاة الفرنجة في فلسطين بمباركة الفاتيكان قبل الف عام ، بينما لم يبق من الورثة الوطنيين للتراث المسيحي في المدينة من ابنائها العرب الا قلة قليلة تزيد هجرتهم المستمرة في تناقصها ، مما يجرد "العهدة العمرية" المشهورة من أي امكانية عملية للتطبيق المعاصر بعد ان اسقط التهويد القائم على قدم وساق للمدينة منذ مائة سنة تقريبا ما اشترطته العهدة العمرية من عدم اسكان اليهود فيها ليصبح اليهود هم سادتها اليوم ولهم "عهدتهم" التي يعلنونها ليل نهار بان المدينة سوف تظل العاصمة الابدية "للشعب اليهودي" كافة وليس فقط لدولة الاحتلال الاسرائيلي وان الوجود العربي والاسلامي والمسيحي فيها لن يزيد على كونه مجرد وجود اقلية رمزية ، وعلى هذا الاساس فقط يمكن التفاوض على السلام والا فليذهب السلام الى الجحيم !

*كاتب عربي من فلسطين
nicolanasser@yahoo.com*

ليست هناك تعليقات: