سامي الأخرس
دائماً هناك العديد من القضايا والأمور المهمة التي تحتاج لدراسة عميقة ومتأنية قبل الاندفاع العاطفي والفكري الهامشي والسطحي أثناء الخوض بها وتحليلها ، حيث أن الهامشية والسطحية هي سمة للعديد من الكتاب العرب الذين يتناولون الأحداث والقضايا بقوة دفع عاطفية قبل الاستناد إلى دراسة هذه القضايا دراسة مستفيضة وعميقة ، وفي كثير من الأحيان تكون الكتابة مجرد ملئ خانة وتسجيل حضور فقط وهو أحد العيوب الرئيسية التي تضعنا في مقام التيه عن النظر إلى الأمور بعين ناقدة فاحصة متعمقة مستندة إلى العلمية .
الهامشية والسطحية في التمحيص هي النقيض الفعلي للعلمية المنهجية التي تعتبر أحد أهم أدوات الكاتب والباحث والمحلل إلا أن كتابنا ومفكرينا العرب جلهم ما يدور في حلقة فارغة المحتوي أثناء تحليل وتفسير وعلاج بعض القضايا والغرق في جزيئيات ثانوية هامشية تجرد الموضوع من أسسه السليمة سياسياً وفكرياً وهو ما تم لمسه بقضيتين أساسيتين أولهما قضية تبادل جثامين الشهداء بين حزب الله وإسرائيل ، وثانيهما قضية الصراع الفلسطيني – الفلسطيني .
أما القضية الجديدة القديمة فهي قضية حزب العدالة والتنمية التركي الذي رفضت قبل أيام المحكمة الدستورية التركية حظره وهنا يجب الاستفاضة قليلاً في هذا الأمر وهذه القضية .
قبل البدء بتناول هذا القرار وخلفياته القانونية والقضائية والدستورية يجب أن نعرج على الأيديولوجيا التي انطلق منها حزب العدالة والتنمية . والتي استطاع رجب طيب اردوغان ورفيقه عبد الله غول من تحقيق نجاحات وانجازات لم يستطع العجوز المخضرم نجم الدين اربكان من تحقيقها رغم تجربته الطويلة والغنية في العملية السياسية التركية .
حزب العدالة والتنمية ذو الواجهة الإسلامية والذي ينتمي معظم قادته لمدرسة اربكان ومعظمهم تتلمذ على يديه وفي مدرسته السياسية . أي أن أصول الحزب إسلامية من منبت الطرق الصوفية التي صقلت اربكان الذي استطاع أن يعيد صياغة الهوية الإسلامية التركية من خلال الأحزاب التي أنشأها والتي فرضها على الساحة التركية وفي الحياة السياسية التركية والصعود بها إلى قمة الهرم السياسي والاجتماعي ، ورغم كل النجاحات التي حققها اربكان إلا إنه لم يتمكن من تحقيق نجاحات مؤثرة كالتي حققها حزب العدالة والتنمية خلال فترة ظهوره القصيرة وهذا عائد لعدم قدرة اربكان ذو الفكر التقليدي والرؤية الضيقة من فهم المؤثرات المحلية لتركيا العلمانية وسطوة المؤسسة العسكرية التي نصبت نفسها حامياً لعلمانية أتاتورك ، وكذلك لعدم قدرة اربكان استغلال المؤثرات الإقليمية والدولية المحيطة بتركيا خاصة وأن تركيا لها دور أساسي منذ الحرب الباردة بين الاتحاد السوفيتي والولايات المتحدة الأمريكية ، وهو ما أربك النجاحات السياسية التي حققها اربكان وجعلها عرضة للفشل والهيمنة العسكرية والقضائية التركية .
ففي الوقت الذي أرتكز اربكان للتقليدية المغلقة في التعامل مع البيئة المحلية والدولية ، وتغاضيه عن الأهمية الإستراتيجية لتركيا سواء إقليميا أو دولياً كانت كل تجاربه تخضع لعوامل الفشل والانهيار قبل أن تنمو وتكبر .
من هذه الجزيئية أدرك اردوغان أن فكر اربكان معلمه قد شاخ ولا مناص من ضرورة البحث عن صياغة فكرية – سياسية – اجتماعية – اقتصادية تلاءم وتناسب الحالة التركية وتكون لديها القدرة على الخروج من المأزق الذي يعيشه المجتمع التركي من عملية تجاذب ما بين الحداثة من طرف والهوية الدينية من طرف أخر . فكانت علمية الانشقاق عن اربكان وصياغة برنامج سياسي واجتماعي واقتصادي يتميز بشفافية ومرونة لديها القدرة على المواجهة والاندماج في الجمهورية الاتاتوركية العلمانية . حيث تمكن اردوغان ورفاقه من الإمساك بمقودها وتأسيس حزب العدالة والتنمية بواجهة إسلامية وقالب علماني مزج من خلالهما المحلية التركية مع المحيط الإقليمي والدولي وهو ما استطاع من خلاله الوصول إلى رئاسة الحكومة ومن ثم أغلبية برلمانية مطلقة ترتب عليهما القفز على رئاسة الجمهورية . هذه السيطرة التي آلت إليه واستغلها جيدا في تحقيق إنجازات لم يتوقع أكثر المتفائلون تحقيقها على المدى القريب في ضوء هيمنة المؤسسة العسكرية والقضائية على مصدر القرار . فتمكن اردوغان وحزبه من تهميش دور المؤسسة الأقوى ألا وهي مجلس الأمن القومي الذي أصبح دوره استشاري تحت أمرة رئيس الوزراء وإعادة صياغته بتركيبة مدنية لها الأغلبية فيه بعدما سيطر عليه الجنرالات ردها طويلاً من الزمن ، إضافة إلى تحقيق نقلة نوعية في مستوي التنمية الاقتصادية والتفاف رجال الأعمال في منطقة الأناضول حول اردوغان ودعمه ، من خلال كل ذلك استطاع اردوغان من خلق لغة حوار والتقاء شفافة بينه وبين العلمانية التركية ومؤسستها العسكرية بعيداً عن الشعارات العنترية السياسية التي كان سلفه يتبعها في خطاباته وبرامجه .
من هنا فإن حزب العدالة والتنمية لم يصطدم بالقوانين والدستور التركي وعلمانيته بل إنه نص في برنامجه وأقر بعلمانية تركيا وضرورة احترامها والتعامل معها كونها أحد مكونات تركيا الحديثة وقواعدها الراسخة وهو ما ساعده على احتواء العديد من قوي العلمانية ، واحتواء جبروت الجنرالات ، حتى ذهب البعض من مراكز القوة التركية في اعتبار حزب العدالة والتنمية أحد أجنة الديمقراطية التركية التي أصبحت توازي الديمقراطيات الغربية ، وأن هذه التجربة احتوت تيارات الإسلام السياسي .
هذا على صعيد الجبهة الداخلية التي استطاع اردوغان من فهمها وقراءتها بمنطق العقل والعلم والواقعية السياسية ، وعلى نفس المنوال وازن أيضاً في سياسته الخارجية والتي أعلن عنها في الخطوط العامة لبرنامجه السياسي بأن تركيا تسعي للانضمام للإتحاد الأوروبي وستسعي لذلك وهو عكس رؤية اربكان الذي ابتعد عن الحاضنة الأوروبية .
وعلى هذا الصعيد خطي حزب العدالة والتنمية خطوات كبيرة في دمج تركيا بالإتحاد الأوروبي حتى أصبحت هذه الخطوات تعتبر بمثابة الحصانة والسند له ضد المؤسسة العسكرية ، ولجمها لو حاولت أن تنحيه عن الحكم وحظره ، فهو قد وضع المؤسسة العسكرية في مواجهة المجتمع التركي ومواجهة الغرب الأوروبي والولايات المتحدة ، ومن هنا حَجم دور هذه المؤسسة وقلص من العديد من امتيازاتها كما فعل بمجلس الأمن القومي ، وكذلك أصبحت الموازنة للمؤسسة العسكرية تحت رقابه وإشراف البرلمان وهو لم يكن قائماً من قبل ترتب عليه فض يد هذه المؤسسة من التدخل في الحياة السياسية التركية وفرض أملاءاتها على النظام الحاكم ، هذا في ظل الالتزام الكامل لحزب العدالة والتنمية بمبادئ أتاتورك والجمهورية التركية .
إذن فحزب العدالة والتنمية قد استطاع العمل على قاعدتين أساسيتين الأولي القاعدة الداخلية حيث تمكن من حشدها خلفه من خلال احترام العلمانية التركية والأسس الاتاتوركية الكمالية والتساوق معها لدرجة الاندماج بها وهي الركيزة الأساسية في دفاعه عن نفسه قانونياً ودستورياً ، والثانية البعد الأوروبي والدولي الذي انتهجه اردوغان مما دفع أوروبا والولايات المتحدة بمباركة النموذج التركي والبدء جدياً في تطبيق نموذج حزب العدالة والتنمية في المنطقة واعتباره نموذجاً فريداً وحديثاً لديه القدرة على احتواء كل حركات الإسلام السياسي .
أضف على كل ما سبق أن اردوغان حافظ على العلاقات الإقليمية ومراكز الصراع في المنطقة وهو أرسل عدة رسائل للمجتمع التركي والمؤسسة العسكرية التركية من جهة وللعالم والولايات المتحدة وأوروبا من جهة أخرى . فاردوغان يعتبر أول رئيس وزراء مسلم يمثل اتجاه إسلامي قد زار إسرائيل والتقي بآرئيل شارون بصحبه حرمه ، كما انه استقبل استقبال اكبر الزعماء في البيت الأبيض . إضافة إلى الدور البارز والمؤثر الذي تلعبه تركيا الآن في علاقاتها مع دول المنطقة وصراعاتها وخاصة الصراع العربي – الإسرائيلي فقد نجحت تركيا واردوغان من جمع سوريا وإسرائيل على مائدة حوار مباشرة في اسطنبول لأول مرة في تاريخ الدولتين ، كما استطاعت تقريب وجهات النظر بين باكستان وإسرائيل وجمعتهما وجهاً لوجه في اسطنبول أيضاً وهو ما يحسب لها ويجعلها مكان رضي عند أوروبا والولايات المتحدة .
باقتضاب شديد إن السياسات التي مارسها حزب العدالة والتنمية منحته حصانه قوية وفاعلة في مواجهة المؤسسة العسكرية والمؤسسة القضائية ، حتى أن وجود حزب العدالة والتنمية في الحكم أصبح ضرورة غربية وأمريكية إضافة لكونه تعبير عن ضرورة محلية في المجتمع التركي الذي عاني من الانقلابات العسكرية ، والركود الاقتصادي والبطالة والعديد من الأزمات التي عاشها منذ إعلان الجمهورية التركية سنة 1922 رسمياً وانتهاء الخلافة .
الضرورة الحتمية لوجود حزب العدالة والتنمية كأحد مخارج الغرب والولايات المتحدة من مأزق أسلمه المنطقة التي أصبحت تعتبر النموذج الفاعل الذي يجب تطبيقه على المنطقة سياسياً واقتصادياً واجتماعياً خاصة وان تركيا تعتبر أحد الحلفاء الإستراتيجيون لدي الولايات المتحدة منذ الحرب الباردة مع الاتحاد السوفيتي ، وإدراك أن نموذج حزب العدالة والتنمية هو السبيل الأكثر نجاحاً في احتواء التطرف والتقليدية لأحزاب الإسلام السياسي وللمد الإسلامي المتصاعد في المنطقة .
بناءً عليه فإن الرهان على إسقاط حزب العدالة والتنمية إنما هو رهان لم يعد قائم سواء من داخل تركيا أو من خارجها ، بل لقد تم لجم المؤسسة العسكرية عن حزب العدالة وكذلك المؤسسة القضائية التي لم تجد ما يدين هذا الحزب وسياساته ونهجه الفكري والثقافي والأيديولوجي ، بل إن هذه القوي الداخلية لو أرادت إسقاط حزب العدالة والتنمية لتحركت قبل أن يصل غول إلى الرئاسة التي تزيد من قوة الحزب وتقوي من عضده وتمنحه مزيداً من سلطة القرار . وبهذا فأي محاولات اقصائية ما هي سوي زوابع إعلامية لبعض قوى العلمانية والاقتصادية التي تعرضت مصالحها للتضارب مع وجود حزب العدالة والتنمية وتقلص نفوذ المؤسسة العسكرية في الحياة السياسية والاقتصادية من خلال تهميش نفوذ مجلس الأمن القومي ، ومراقبة موازنة الجيش .
كل هذه التطورات لم تكن لتحدث إن لم تتأكد المؤسسة العسكرية والقضائية أن حزب العدالة والتنمية لم يعد يشكل خطراً على علمانية الدولة التركية سواء من حيث البرنامج أو من حيث الممارسة الداخلية والخارجية ، بل وربما يشكل الحزب أداة ارتكازية تلتقي من خلالها مصالح المؤسسة العسكرية والدول الأوروبية والولايات المتحدة سواء في الحفاظ على تركيا كجمهورية علمانية الهوية ، وحليف قوى يتصدي للأطماع الإيرانية والروسية في المنطقة .
من خلال هذه الحقائق كانت عملية فشل الانقلاب القضائي للمحكمة الدستورية الذي لم يستند إلى حقائق حقيقية ولم يمتلك أدلة قانونية أو دستورية تمنحها الحق من حظر حزب العدالة والتنمية وللقوي العلمانية التي تطالب برأس اردوغان وحزبه .
فحزب العدالة والتنمية بمنهجه يقدم أحد النماذج الجديدة في التعامل مع جملة العوامل والظروف الداخلية لتركيا وينطلق من قراءات واقعية للبيئة والتركيبة التركية ، والقراءة الناقدة الواعية للمحيط الدولي وهو ما لم تستطع العديد من أحزاب الإسلام السياسي في المنطقة من قراءته أو امتلاك المرونة والشفافية في كونها أحزاب تعيش في مناخ دولي وإقليمي لا بد من ضرورة التعامل معه والتأقلم مع أجوائه ، وعدم عزلة نفسها وكأنها تعيش لوحدها في مساحة اختيارية طوعية وهذا ما يؤكده فشل جل الأحزاب السياسية الإسلامية في القدرة على النجاح سواء في الصومال أو السودان أو فلسطين أو لبنان وكذلك في الأردن والمغرب ، حيث أن هذه الأحزاب استطاعت الوصول إلى سدة الحكم والسلطة ولكنها فشلت في القدرة على التعامل مع هذه السلطة ، بل هربت إلى الأمام من خلال تبني العنف كوسيلة لحسم الصراع والتناقض داخليا وخارجيا ، وتجربة المحاكم الإسلامية في الصومال وطالبان في أفغانستان مثلت الوجه السيئ لثقافة العنف الداخلية التي انتهجتها الحركتان ضد شعوبهما وطريقة حسم الصراع الداخلي بالعنف ومن خلال الأدوات المشروعة وغير المشروعه وهو ما تمارسه كذلك حركة حماس في الوقت الحالي دون أدني اعتبارات للواقع المحلي والخارجي وحصر رهاناتها على القوى الداعمة مالياً ومادياً فقط .
في الوقت الذي استطاع حزب العدالة والتنمية التركي من النجاح في عملية التحول الديمقراطي والتي واجه من خلالها سطوة المؤسسة العسكرية والقضائية وأخضعها لمنطقه السياسي ، فشلت باقي القوى الإسلامية في المنطقة من عملية التناغم ما بين أهدافها وطموحاتها الحزبية وأوضاع واقعها المحلي والإقليمي والدولي .
من خضم هذه القراءة السياسية لحزب العدالة والتنمية وقادته كان فشل المحكمة الدستورية التركية في حظر الحزب الذي أصبح أحد أهم مراكز القوى سواء في تركيا أو في المحيط الدولي .
دائماً هناك العديد من القضايا والأمور المهمة التي تحتاج لدراسة عميقة ومتأنية قبل الاندفاع العاطفي والفكري الهامشي والسطحي أثناء الخوض بها وتحليلها ، حيث أن الهامشية والسطحية هي سمة للعديد من الكتاب العرب الذين يتناولون الأحداث والقضايا بقوة دفع عاطفية قبل الاستناد إلى دراسة هذه القضايا دراسة مستفيضة وعميقة ، وفي كثير من الأحيان تكون الكتابة مجرد ملئ خانة وتسجيل حضور فقط وهو أحد العيوب الرئيسية التي تضعنا في مقام التيه عن النظر إلى الأمور بعين ناقدة فاحصة متعمقة مستندة إلى العلمية .
الهامشية والسطحية في التمحيص هي النقيض الفعلي للعلمية المنهجية التي تعتبر أحد أهم أدوات الكاتب والباحث والمحلل إلا أن كتابنا ومفكرينا العرب جلهم ما يدور في حلقة فارغة المحتوي أثناء تحليل وتفسير وعلاج بعض القضايا والغرق في جزيئيات ثانوية هامشية تجرد الموضوع من أسسه السليمة سياسياً وفكرياً وهو ما تم لمسه بقضيتين أساسيتين أولهما قضية تبادل جثامين الشهداء بين حزب الله وإسرائيل ، وثانيهما قضية الصراع الفلسطيني – الفلسطيني .
أما القضية الجديدة القديمة فهي قضية حزب العدالة والتنمية التركي الذي رفضت قبل أيام المحكمة الدستورية التركية حظره وهنا يجب الاستفاضة قليلاً في هذا الأمر وهذه القضية .
قبل البدء بتناول هذا القرار وخلفياته القانونية والقضائية والدستورية يجب أن نعرج على الأيديولوجيا التي انطلق منها حزب العدالة والتنمية . والتي استطاع رجب طيب اردوغان ورفيقه عبد الله غول من تحقيق نجاحات وانجازات لم يستطع العجوز المخضرم نجم الدين اربكان من تحقيقها رغم تجربته الطويلة والغنية في العملية السياسية التركية .
حزب العدالة والتنمية ذو الواجهة الإسلامية والذي ينتمي معظم قادته لمدرسة اربكان ومعظمهم تتلمذ على يديه وفي مدرسته السياسية . أي أن أصول الحزب إسلامية من منبت الطرق الصوفية التي صقلت اربكان الذي استطاع أن يعيد صياغة الهوية الإسلامية التركية من خلال الأحزاب التي أنشأها والتي فرضها على الساحة التركية وفي الحياة السياسية التركية والصعود بها إلى قمة الهرم السياسي والاجتماعي ، ورغم كل النجاحات التي حققها اربكان إلا إنه لم يتمكن من تحقيق نجاحات مؤثرة كالتي حققها حزب العدالة والتنمية خلال فترة ظهوره القصيرة وهذا عائد لعدم قدرة اربكان ذو الفكر التقليدي والرؤية الضيقة من فهم المؤثرات المحلية لتركيا العلمانية وسطوة المؤسسة العسكرية التي نصبت نفسها حامياً لعلمانية أتاتورك ، وكذلك لعدم قدرة اربكان استغلال المؤثرات الإقليمية والدولية المحيطة بتركيا خاصة وأن تركيا لها دور أساسي منذ الحرب الباردة بين الاتحاد السوفيتي والولايات المتحدة الأمريكية ، وهو ما أربك النجاحات السياسية التي حققها اربكان وجعلها عرضة للفشل والهيمنة العسكرية والقضائية التركية .
ففي الوقت الذي أرتكز اربكان للتقليدية المغلقة في التعامل مع البيئة المحلية والدولية ، وتغاضيه عن الأهمية الإستراتيجية لتركيا سواء إقليميا أو دولياً كانت كل تجاربه تخضع لعوامل الفشل والانهيار قبل أن تنمو وتكبر .
من هذه الجزيئية أدرك اردوغان أن فكر اربكان معلمه قد شاخ ولا مناص من ضرورة البحث عن صياغة فكرية – سياسية – اجتماعية – اقتصادية تلاءم وتناسب الحالة التركية وتكون لديها القدرة على الخروج من المأزق الذي يعيشه المجتمع التركي من عملية تجاذب ما بين الحداثة من طرف والهوية الدينية من طرف أخر . فكانت علمية الانشقاق عن اربكان وصياغة برنامج سياسي واجتماعي واقتصادي يتميز بشفافية ومرونة لديها القدرة على المواجهة والاندماج في الجمهورية الاتاتوركية العلمانية . حيث تمكن اردوغان ورفاقه من الإمساك بمقودها وتأسيس حزب العدالة والتنمية بواجهة إسلامية وقالب علماني مزج من خلالهما المحلية التركية مع المحيط الإقليمي والدولي وهو ما استطاع من خلاله الوصول إلى رئاسة الحكومة ومن ثم أغلبية برلمانية مطلقة ترتب عليهما القفز على رئاسة الجمهورية . هذه السيطرة التي آلت إليه واستغلها جيدا في تحقيق إنجازات لم يتوقع أكثر المتفائلون تحقيقها على المدى القريب في ضوء هيمنة المؤسسة العسكرية والقضائية على مصدر القرار . فتمكن اردوغان وحزبه من تهميش دور المؤسسة الأقوى ألا وهي مجلس الأمن القومي الذي أصبح دوره استشاري تحت أمرة رئيس الوزراء وإعادة صياغته بتركيبة مدنية لها الأغلبية فيه بعدما سيطر عليه الجنرالات ردها طويلاً من الزمن ، إضافة إلى تحقيق نقلة نوعية في مستوي التنمية الاقتصادية والتفاف رجال الأعمال في منطقة الأناضول حول اردوغان ودعمه ، من خلال كل ذلك استطاع اردوغان من خلق لغة حوار والتقاء شفافة بينه وبين العلمانية التركية ومؤسستها العسكرية بعيداً عن الشعارات العنترية السياسية التي كان سلفه يتبعها في خطاباته وبرامجه .
من هنا فإن حزب العدالة والتنمية لم يصطدم بالقوانين والدستور التركي وعلمانيته بل إنه نص في برنامجه وأقر بعلمانية تركيا وضرورة احترامها والتعامل معها كونها أحد مكونات تركيا الحديثة وقواعدها الراسخة وهو ما ساعده على احتواء العديد من قوي العلمانية ، واحتواء جبروت الجنرالات ، حتى ذهب البعض من مراكز القوة التركية في اعتبار حزب العدالة والتنمية أحد أجنة الديمقراطية التركية التي أصبحت توازي الديمقراطيات الغربية ، وأن هذه التجربة احتوت تيارات الإسلام السياسي .
هذا على صعيد الجبهة الداخلية التي استطاع اردوغان من فهمها وقراءتها بمنطق العقل والعلم والواقعية السياسية ، وعلى نفس المنوال وازن أيضاً في سياسته الخارجية والتي أعلن عنها في الخطوط العامة لبرنامجه السياسي بأن تركيا تسعي للانضمام للإتحاد الأوروبي وستسعي لذلك وهو عكس رؤية اربكان الذي ابتعد عن الحاضنة الأوروبية .
وعلى هذا الصعيد خطي حزب العدالة والتنمية خطوات كبيرة في دمج تركيا بالإتحاد الأوروبي حتى أصبحت هذه الخطوات تعتبر بمثابة الحصانة والسند له ضد المؤسسة العسكرية ، ولجمها لو حاولت أن تنحيه عن الحكم وحظره ، فهو قد وضع المؤسسة العسكرية في مواجهة المجتمع التركي ومواجهة الغرب الأوروبي والولايات المتحدة ، ومن هنا حَجم دور هذه المؤسسة وقلص من العديد من امتيازاتها كما فعل بمجلس الأمن القومي ، وكذلك أصبحت الموازنة للمؤسسة العسكرية تحت رقابه وإشراف البرلمان وهو لم يكن قائماً من قبل ترتب عليه فض يد هذه المؤسسة من التدخل في الحياة السياسية التركية وفرض أملاءاتها على النظام الحاكم ، هذا في ظل الالتزام الكامل لحزب العدالة والتنمية بمبادئ أتاتورك والجمهورية التركية .
إذن فحزب العدالة والتنمية قد استطاع العمل على قاعدتين أساسيتين الأولي القاعدة الداخلية حيث تمكن من حشدها خلفه من خلال احترام العلمانية التركية والأسس الاتاتوركية الكمالية والتساوق معها لدرجة الاندماج بها وهي الركيزة الأساسية في دفاعه عن نفسه قانونياً ودستورياً ، والثانية البعد الأوروبي والدولي الذي انتهجه اردوغان مما دفع أوروبا والولايات المتحدة بمباركة النموذج التركي والبدء جدياً في تطبيق نموذج حزب العدالة والتنمية في المنطقة واعتباره نموذجاً فريداً وحديثاً لديه القدرة على احتواء كل حركات الإسلام السياسي .
أضف على كل ما سبق أن اردوغان حافظ على العلاقات الإقليمية ومراكز الصراع في المنطقة وهو أرسل عدة رسائل للمجتمع التركي والمؤسسة العسكرية التركية من جهة وللعالم والولايات المتحدة وأوروبا من جهة أخرى . فاردوغان يعتبر أول رئيس وزراء مسلم يمثل اتجاه إسلامي قد زار إسرائيل والتقي بآرئيل شارون بصحبه حرمه ، كما انه استقبل استقبال اكبر الزعماء في البيت الأبيض . إضافة إلى الدور البارز والمؤثر الذي تلعبه تركيا الآن في علاقاتها مع دول المنطقة وصراعاتها وخاصة الصراع العربي – الإسرائيلي فقد نجحت تركيا واردوغان من جمع سوريا وإسرائيل على مائدة حوار مباشرة في اسطنبول لأول مرة في تاريخ الدولتين ، كما استطاعت تقريب وجهات النظر بين باكستان وإسرائيل وجمعتهما وجهاً لوجه في اسطنبول أيضاً وهو ما يحسب لها ويجعلها مكان رضي عند أوروبا والولايات المتحدة .
باقتضاب شديد إن السياسات التي مارسها حزب العدالة والتنمية منحته حصانه قوية وفاعلة في مواجهة المؤسسة العسكرية والمؤسسة القضائية ، حتى أن وجود حزب العدالة والتنمية في الحكم أصبح ضرورة غربية وأمريكية إضافة لكونه تعبير عن ضرورة محلية في المجتمع التركي الذي عاني من الانقلابات العسكرية ، والركود الاقتصادي والبطالة والعديد من الأزمات التي عاشها منذ إعلان الجمهورية التركية سنة 1922 رسمياً وانتهاء الخلافة .
الضرورة الحتمية لوجود حزب العدالة والتنمية كأحد مخارج الغرب والولايات المتحدة من مأزق أسلمه المنطقة التي أصبحت تعتبر النموذج الفاعل الذي يجب تطبيقه على المنطقة سياسياً واقتصادياً واجتماعياً خاصة وان تركيا تعتبر أحد الحلفاء الإستراتيجيون لدي الولايات المتحدة منذ الحرب الباردة مع الاتحاد السوفيتي ، وإدراك أن نموذج حزب العدالة والتنمية هو السبيل الأكثر نجاحاً في احتواء التطرف والتقليدية لأحزاب الإسلام السياسي وللمد الإسلامي المتصاعد في المنطقة .
بناءً عليه فإن الرهان على إسقاط حزب العدالة والتنمية إنما هو رهان لم يعد قائم سواء من داخل تركيا أو من خارجها ، بل لقد تم لجم المؤسسة العسكرية عن حزب العدالة وكذلك المؤسسة القضائية التي لم تجد ما يدين هذا الحزب وسياساته ونهجه الفكري والثقافي والأيديولوجي ، بل إن هذه القوي الداخلية لو أرادت إسقاط حزب العدالة والتنمية لتحركت قبل أن يصل غول إلى الرئاسة التي تزيد من قوة الحزب وتقوي من عضده وتمنحه مزيداً من سلطة القرار . وبهذا فأي محاولات اقصائية ما هي سوي زوابع إعلامية لبعض قوى العلمانية والاقتصادية التي تعرضت مصالحها للتضارب مع وجود حزب العدالة والتنمية وتقلص نفوذ المؤسسة العسكرية في الحياة السياسية والاقتصادية من خلال تهميش نفوذ مجلس الأمن القومي ، ومراقبة موازنة الجيش .
كل هذه التطورات لم تكن لتحدث إن لم تتأكد المؤسسة العسكرية والقضائية أن حزب العدالة والتنمية لم يعد يشكل خطراً على علمانية الدولة التركية سواء من حيث البرنامج أو من حيث الممارسة الداخلية والخارجية ، بل وربما يشكل الحزب أداة ارتكازية تلتقي من خلالها مصالح المؤسسة العسكرية والدول الأوروبية والولايات المتحدة سواء في الحفاظ على تركيا كجمهورية علمانية الهوية ، وحليف قوى يتصدي للأطماع الإيرانية والروسية في المنطقة .
من خلال هذه الحقائق كانت عملية فشل الانقلاب القضائي للمحكمة الدستورية الذي لم يستند إلى حقائق حقيقية ولم يمتلك أدلة قانونية أو دستورية تمنحها الحق من حظر حزب العدالة والتنمية وللقوي العلمانية التي تطالب برأس اردوغان وحزبه .
فحزب العدالة والتنمية بمنهجه يقدم أحد النماذج الجديدة في التعامل مع جملة العوامل والظروف الداخلية لتركيا وينطلق من قراءات واقعية للبيئة والتركيبة التركية ، والقراءة الناقدة الواعية للمحيط الدولي وهو ما لم تستطع العديد من أحزاب الإسلام السياسي في المنطقة من قراءته أو امتلاك المرونة والشفافية في كونها أحزاب تعيش في مناخ دولي وإقليمي لا بد من ضرورة التعامل معه والتأقلم مع أجوائه ، وعدم عزلة نفسها وكأنها تعيش لوحدها في مساحة اختيارية طوعية وهذا ما يؤكده فشل جل الأحزاب السياسية الإسلامية في القدرة على النجاح سواء في الصومال أو السودان أو فلسطين أو لبنان وكذلك في الأردن والمغرب ، حيث أن هذه الأحزاب استطاعت الوصول إلى سدة الحكم والسلطة ولكنها فشلت في القدرة على التعامل مع هذه السلطة ، بل هربت إلى الأمام من خلال تبني العنف كوسيلة لحسم الصراع والتناقض داخليا وخارجيا ، وتجربة المحاكم الإسلامية في الصومال وطالبان في أفغانستان مثلت الوجه السيئ لثقافة العنف الداخلية التي انتهجتها الحركتان ضد شعوبهما وطريقة حسم الصراع الداخلي بالعنف ومن خلال الأدوات المشروعة وغير المشروعه وهو ما تمارسه كذلك حركة حماس في الوقت الحالي دون أدني اعتبارات للواقع المحلي والخارجي وحصر رهاناتها على القوى الداعمة مالياً ومادياً فقط .
في الوقت الذي استطاع حزب العدالة والتنمية التركي من النجاح في عملية التحول الديمقراطي والتي واجه من خلالها سطوة المؤسسة العسكرية والقضائية وأخضعها لمنطقه السياسي ، فشلت باقي القوى الإسلامية في المنطقة من عملية التناغم ما بين أهدافها وطموحاتها الحزبية وأوضاع واقعها المحلي والإقليمي والدولي .
من خضم هذه القراءة السياسية لحزب العدالة والتنمية وقادته كان فشل المحكمة الدستورية التركية في حظر الحزب الذي أصبح أحد أهم مراكز القوى سواء في تركيا أو في المحيط الدولي .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق