الأحد، أغسطس 10، 2008

عام الخسارات الفلسطينية والعربية: العظماء يرحلون بصمت


راسم عبيدات
.....في حصاد عام غير مكتمل خسر العالم العربي عامة والشعب الفلسطيني خاصة،ثلاثة من عمالقة السياسة والفكر والثقافة،ثلاثة لهم بصماتهم الواضحة في هذه المجالات،وهم بحق رواد وحملة مشاريع سياسية وفكرية وثقافية،وبفقداتهم سنلمس ونرىحجم الفراغ الكبير الذي تركه غيابهم على مستقبل هذه المشاريع،وكل واحد من هؤلاء العمالقة،هو بحد ذاته مدرسة جامعة في الفكر والسياسة والثقافة والنضال.
وأول من ترجل من هؤلاء العمالقة في بدايات العام الحالي،هو الرفيق القائد والمؤسس الحكيم جورج حبش(حركة القومين العرب ولاحقاً الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين)،هذا العملاق الذي بقي مسكوناً بهاجس العودة لفلسطين وحب فلسطين،حتى وهو على فراش الموت،كان يحلم بتحقيق حلمه بالوحدة وازالة الحواجز المصطنعة التي أقامها الاستعمار قسراً بين أقطاره،وبقي ملتحماً بهموم وقضايا شعبه،وكان بمثابة الضمير والبوصلة لهم،وكان صلباً وعنيداً في مواقفه والدفاع عن قضايا شعبه وحقوقه،ربط عودته لفلسطين بعودة أبناء شعبه لقراهم ومدنهم اللواتي شردوا وطردوا منها، ورفض بكل عنفوان دخول فلسطين تحت راية العلم والبوابة الاسرائيلية،ولم يهضم العودة لفلسطين من بوابة أوسلو،والذي رأي فيه مشروع لتصفية القضية الفلسطينية،واستثمار متسرع لانتفاضة الحجر الفلسطيني،سيدفع شعبنا الفلسطيني ثمناً باهظا ًله،وها نحن نتلمس نتائجه حالياً،والحكيم الذي بقي طوال عمره قومياً ووحدياً،اختلف كثيراً من أجل فلسطين وحقوقها وثوابتها مع رفاق دربه ورفاق حزبه،ولكن الحكيم كان دائماً يضع مصلحة فلسطين والهم الوطني العام والمصالح العليا للشعب الفلسطيني،فوق أية اعتبارات ومكاسب حزبية وفئوية ضيقة،ولم يقوده هذا الخلاف أو الاجتهاد،الى تجاوز الثوابت والمحرمات في الشأن الفلسطيني،والتي انتهكها البعض حالياً بشكل سافروفظ في سبيل وهم سلطة ليس لها من مقومات السيادة شيء،وفي سبيل أهداف ومصالح وامتيازات شخصية وفئوية،ففي ذروة الخلاف مع القيادة الرسمية والمتنفذة لمنظمة التحرير الفلسطينية،ورغم كل الضغوط التي مارستها العديد من الأطراف العربية والاقليمية على الجبهة الشعبية،والتي كان جزء منها متصل بالجغرافيا السياسية،أصر الحكيم على أن تكون منظمة التحرير الفلسطينية العنوان والهوية والبيت الجامع للشعب الفلسطيني،وفي الاقتتال الفلسطيني الداخلي عام 1983 ،أدان بشكل قوي أي استخدام للسلاح في الخلافات والحسم الداخلي الفلسطيني، واعتبر الدم الفلسطيني خط أحمر،
فكانت هذه مباديء وثوابت الحكيم،وكان يرى أن فلسطين أكبر من كل الأحزاب والتنظيمات،وتحريرها هو مسؤولية عربية جماعية،وهذه كانت قناعته وأفكاره ومشروعه السياسي ،وكان مؤمناً حتى التصوف بأن الصراع مع العدو الاسرائيلي،هو صراع وجود وليس صراع حدود،وأن أية حلول مؤقته،تتجاوز حق العودة،جوهر البرنامج الوطني الفلسطيني،لن يكتب لها النجاح ولن تصمد أبداً.
والخسارة الثانية والتي كانت في منتصف هذا العام،هي تغيب الموت لأحد أبرز قادة الفكر القومي العربي،المفكر العربي المصري عبد الوهاب المسيري،والذي كان أحد أبرز قادة الفكر المعارض لسياسات وتوجهات النظام المصري، ليس على المستوى السياسي والاقتصادي،بل والفكري والثقافي،وناضل ضد سياسات وتوجهات النظام السياسية،وبالتحديد في قضايا غياب الحريات والديمقراطية والتعددية والفساد وغيرها،من خلال دوره البارز في حركة كفاية المصرية،وكان مدافعاً عنيداً ضد التطبيع والعلاقة مع العدو الاسرائيلي،وكان يرى في هذا الكيان نبتة غربية في خاصرة الوطن العربي،هدفها احتجاز تطوره والسيطرة على مقدراته وثرواته،ومنع أية أشكال وحدوية بين أقطاره،وضرب قوى ممانعته ومقاومته ومعارضته،واعادة رسم جغرافيته بما يخدم المصالح الاسرائيلية والأمريكية والأوروبية في المنطقة،وكان هذا هذا المفكر انسان موسوعي في الشأن اليهودي واليهودية والصهيونية،وكأن أحد أبرز وجوه الصراع العربي الاسرائيلي في هذا الجانب،ولعل دراسته في هذا الجانب والمجال من أعمق وأغنى الدراسات التي تكشف حقيقة وأهداف ومرامي ومقاصد الحركة الصهيونية وأطماعها في المنطقة،والتي تغذيها أساطير ومثولوجيا وايدلوجية دينية وتوراتية مغرقة في العنصرية والتطرف،
وجهده ونضاله الدائم والدؤوب هذا أثمر عن مجموعة من الدراسات الهامة جدا،منها موسوعة"اليهود واليهودية والصهيونية،التي صدرت في ثماني مجلدات،بالأضافة الى موسوعة المفاهيم والمصطلحات الصهيونية التي استغرقت منه نحو ربع قرن،ونشرت تحت عنوان موسوعة"اليهود واليهودية والصهيونية:نموذج تفسيري حديد"،وكذلك"البروتوكولات واليهودية والصهيونية " وغيرها الكثير الكثير.
ومواقف وأراء وأفكار المسيري جعلته هدفاً وعرضة لملاحقات النظام وأجهزته،حيث اعتقل أكثر من مرة نتيجه مواقفه واحتجاجاته على اجراءات وسياسات النظام، في الحد والاعتداء على الحريات العامة وتوريث الحكم وغياب الديمقراطية،وفشل السياسات الاقتصادية وتنامي الفقر والبطالة والجهل والأمية في المجتمع وغيرها.
أما الخسارة الثالثة الكبرى،والتي كانت في شهر آب اللاهب،فكانت خسارة على أهم جبهة في الصراع مع العدو الاسرائيلي،انها الجبهة الثقافية،والتي كان الشاعر الكبير الراحل محمود درويش أحد أركانها وأعمدتها ،فدرويش كان شاعر الوطن والثورة،شاعر الأرض والحياة،رمز الثقافة الفلسطينية،وأحد رموز الهوية الوطنية لشعبنا،بل أحد أبرز رموز الثقافة الانسانية المعاصرة ،وهو أحد اهم الشعراء الفلسطينيين المعاصرين الذين ارتبط اسمهم بشعر الثورة والوطن،وهو من الشعراء الذين ساهموا بتطوير الشعر العربي الحديث وادخال الرمزية فيه،وفي شعر درويش يمتزج الحب بالوطن بالحبيبة الأنثى ،والشاعر الكبير أمضى سنوات عمره مدافعاً عن الثقافة الوطنية التقدمية لشعبنا،في مواجهة محاولات التبديد والطمس للهوية والثقافة الفلسطينية،ورغم انحيازه الواضح وكفاحه الطويل من أجل تجسيد هوية شعبه وحقه في الحرية والاستقلال،الا أن انسانيته العميقة التي ملكت الأرض وأبعادها،ظلت دوماً هي الرابط بين درويش ابن فلسطين البار ودرويش شاعر الانسانية المعاصر.
ودرويش الذي أدخل مصطلح،عدنا الى المتاح لنا من الوطن،والذي قال رأيه في اتفاق أوسلو،بأن أعلن استقالته من اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية احتجاجاً على هذا الاتفاق،وحتى لا يغضب الرئيس الراحل أبو عمار،في أثناء حديث له عن اتفاق أوسلو جمعه معه،قال أنا لاجيء وأعيش في فلسطين التاريخية،وهناك الكثير من الأقوام والشعوب توالت على فلسطين وزالت،وهذا مصير الاحتلال وأنا بهذا القول، لا أخرق اتفاق أوسلو ياسيادة الرئيس،والراحل الكبيركان يقول لنا أن نناجي الشهداء،عندما يذهبون الى النوم، بالقول تصبحون على وطن،وكان لديه عشق وحنين للوطن ،وهو الذي قال أحن الى خبز أمي وقهوة أمي،وهو الذي أدان الاقتتال الداخلي وحروب الأخوة الأعداء،وهو الذي صاغ لنا وثيقة اعلان الاستقلال في الدورة التوحيدية في الجزائر 1988،وهو من أوائل الشعراء الذين بشر بهم الأديب الراحل غسان كنفاني كأحد شعراء المقاومة،وهو الذي قال في رحيله الأمين العام للجبهة الديمقراطية نايف حواتمه" يا أخي المقتلع من فلسطين،المترحل من فلسطين....العائد الى فلسطين.... ها أنت ترفعها نحو اللامتناهي،من مبتدأ التاريخ...من آثار الأجداد...من حروف الضاد...عودة اللاجئين المقتلعين للديار".
ان تراث وأفكار هؤلاء القادة والعمالقة،يجب أن تكون جزء من مناهج الدراسة لطلابنا الفلسطينيين والعرب في المدارس والجامعات،ونحن واثقون أن الأمة التي أنجبت هؤلاء العمالقة،رغم الفراغ الكبير الذي سيتركه رحيلهم،الا أننا واثقون أن هذه الأمة رغم قساوة وصعوبة المرحلة،وما تشهده الأمة من حالة ارتداد وانهيار وتراجع، فلا بد لها من أن تنهض ،فما زالت جذوة الأمل موجودة فيها،ولديها من الأرادات القوية،والقيادات القابضة على مبادئها كالجمر،والتي تحقق المزيد من الانتصارات في العراق ولبنان وفلسطين.
ولكل عمالقة أمتنا وشعبنا الفلسطيني نقول" لم يترجل البرتقال الفلسطيني... لم يترجل الزيتون الفلسطيني...لم يترجل ورق العنب بعد،وأنتم عشاق الوطن وفلسطين الحبيبة.

ليست هناك تعليقات: