جلال / عقاب يحيى
حكايتي والعكّاز صارت طويلة، متشابكة، شديدة التعقيد، والغموض . كثيرة الاحتمالات، والقراءات، والتأويلات . تشبهني، وتشبه، في وجوه عديدة، الأوضاع العربية على العموم، والمعارضات منها على وجه الخصوص، والحالة السورية بطريقة متناغمة، توأمية .
عكازي الذي لم أستشره الاستخدام، ولم أسأله طاقته على التحمّل، ولا رغباته، وميوله، ناهيك عن تلاوينه، وتماوجاته، وحساباته.. بدا، ولوقت ليس بالقصير، واليسير، أنه ساكت، صابر، مستكين، كأنه خُلق لأجلي أنا صاحب الوزن الثقيل، الذي لا يرحم محتواه، وكأنني قدره الذي لا فكاك منه، فحملني، وتحمّل فترة تدرّبي عليه، وأخطائي الكثيرة في طريقة الاستخدام، والتنافر مع المطلوب، وفي استبدادي المتأصل، وذاتيتي الغارقة في مصلحتي الشخصية (وفقط) التي لم ترحمه أثناء سيري فوق الحفر، والحصى الناتئة، والحجارة الحادّة كالسكاكين، والجوّر التي تمتلئ بها الطرق والوجوه والوقائع، وكثير كثير من التعلات، والثعلبات، والمنخفضات، والتآليل الفوضوية، والقذارات التي تجمع يومياً نفايات تتعاظم .. فيضطر ـ المسكين ـ إلى خوض هذا الغمار دون أن ينبثّ ببنت شفة (كأنه شعبنا الساكت ـ الصابر ـ القانط ـ الغيبوبي). ومن جهتي لم أنتبه مرّة إليه، رغم ما أدعيه من ألفة قامت بيني وبينه، ومن شفقة على المحرومين وأبناء السبيل، والمستلبين، والمضطهدين، وشعاراتي الكثيرة عن الحرية والتحرر، والقرار المستقل لكل المخلوقات، وحرية التعبير، وأقله : التنفيس ببعض ما يشير إلى ما في الجوف من آهات ومطالب، ومظالم، وأمنيات ..لم ألاحظ مثلاً أن نعله(تلك القطعة البلاستيكية التي توضع في نهايته) قد أخذت بالتشقق والتآكل والاهتراء، وأن عاديات الزمن أخذت تظهر عليه في أكثر من مكان وشكل(بقعاً وأشكالاً شتى من البعجرة والقحوط)، وأنه يشيخ قبل الأوان، أو يريد الاعتذار من هذه المهمة المُكْلِفة التي تورّط، أو وُرّط فيها، وما من سبيل (لأنه لا يملك قراره، ولا يقدر أن يفلحص أمام جبروتي وعنادي) .
المشكلة أن وزني ثقيل، وأثقل مني ما أحمله من أفكار مليئة ـ متكدسة من قرون الانحطاط، وأوهام النهوض عن الوضع العربي، والحاضر والمستقبل، وأهمها، وأكثرها وزناً ووقاحة : هزائمنا وخيباتنا وما يتبقى من صور زعمائنا وهم يتفقدون الرعية والرعايا، ويطمأنون على صحة المواطن ومدى بشاشته وحبوره وفرحه الذي يمكن أن يؤدي إلى الموت(موت من الضحك)، ونشرات الأخبار اليومية فينا، وكمّ الدجل الكبير الذي نبتلعه ونتآلف معه عن العبقرية والفرادة، والانتصارات المنتصرة في الحفر المرتجفة، والسراديب المؤتلفة'سرداب كلمة فارسية بالأصل)، بما في ذلك ما يمكن اعتباره خيانة، ونكوصاً، وألاعيباً مكشوفة.. ومع كل هذا الوزن الخارق لم أدرس بعمق وتفحّص نوعية العكاز، ولا قدرته على التحمل فألقيت بكل تلك الأحمال عليه دون شفقة، أو تحسّب . أكثر من ذلك.. تحمّل (الضحية) أطوار حالاتي النفسية شديدة الاضطراب، والانفعال والنرفزة، وردود فعلي الناقمة على أفعال حاكم زيمبابوي المتجبّر، وفرحي الغامر بمصيرنا وأوضاعنا ومستقبلنا المشرق، والأحوال الصحية لحكامنا(أطال الله في عمرهم، وأكسبهم أفضل الصبغات وشدّ الحاجبين لمزيد من الرهبة والهيبة والتخويف)، وهياجي كلما سمعت نشرة أخبار مليئة بالواقع العربي المزركش، أو تفاعلي مع الشقلبات والمردغات والمسخرات التي تتوالى تحت يافطة الاعتذار تارة، والواقعية الباكية تارة أخرى، والواقعية المنبطحة، النابحة، المتسولة، المتوسلة تارة ثالثة، والواقعية الواقعة فيما يسمى ديمقراطية في (العراق الجديد) رابعة، وانتشار انتصار البهورة الممانعة في أسواق السمسرة الجائعة.. خامسا، و..سادساً .. وركبت رأسي أمام صمته، وسكونه، وطواعيته ..
فجأة، ودون سابق إشارة قررت الاعتذار منه على الملأ(بلغة بليغة ، واضحة، مباشرة لا تقبل التأويل والتأليل والتحليل) . أكثر من ذلك : أقسمت أن أقوم أمامه بنقد ذاتي صارم وشجاع وجذري أعلن فيه (له) أخطائي، وأنانيتي، وقسوتي، وعدم فهمي(وعيي) لطبيعته، وموازين القوى بيني وبينه، وأنها وإن كانت مختلّة بالأصل لصالحي، فذلك منطق الأشياء التي ارتضاها من قبل أن يكون عكازاً للآخرين يُمتطى، ويُستعمل بالكيفية التي يقررها المالك، وأنه لا يملك سوى الانصياع والتنفيذ، وأنني كنت منفعلاً، مُساقاُ لا إرادياً تحت وقع صدمة المرض من جهة، وتعاقب المسلسلات العربية، وما أراه في فلسطين، والعراق، واليمن والسودان، وحتى الصومال (لم أتجرأ أن أتوسع بتناول بقية الأوضاع العربية خوفاً عليه من الانتحار قهراً، وخشية أن أفقد زمامي فأعود إلى انفعالي، وأبطش بقسمي، وبهذه الالتفاتة الإنسانية ـ الثورية مني، فأخرّب كل ما نويته، وما أقدمت عليه من تشريح لشخصي، وتاريخي، ونضالاتي، وعنعناتي، ويأسي، وبؤسي، وبأسي.. والكثير الكثير الذي نطقته : تقويماً، ونقداً، وإعادة نظر، وكأني أغرف من محيط، أو من كهف باتساع الوطن العربي(الكبير) ..
أقنعني سكوته بأنه موافق على ما قلته، وأن مرحلة جديدة ستكون بيني وبينه، نطوي فيها الأمس، وما أصابه مني، ونواصل وفق وعينا الجديد، خاصة وأن اعتذاراً، وتقويماً، ونقداً ذاتياً بذلك المستوى يفحم من هو أهم منه، وأكثر يباساً وركوب رأس، فهللت وتهللت.. وعاودت رفقته، وأنا أنوي أن أبذل جهداً معتبراً في التخفيف عنه، وتجنيبه ـ ما أمكن ـ المناطق الوعرة، والتضاريس الحادّة، والحفر المنظورة، والمناطق المنخورة... وفشلت في أول اختبار ومشوار ..
فشلت لأن الأوضاع فوق طاقة مقدوري، وحساباتي، ونوايايّ ..فوعدي بأن أكون رقيقاً، رفيقاً به يحتاج إلى تخفيف وزني عشرات الكيلوغرامات، وتفريغ رأسي، وذكرياتي من ما ضيّ، ومني إن أردت الصراحة، ومن تلك الأفكار والشعارات التي تنخّ لها الجبال، وعدم سماع نشرات الأخبار، وتحليل المحللين، وتوقعات الاستراتيجيين، وقراءة الطالع والكفّ بحثاً عن آمال الهفّ، ووعود التف، وبرق الحتف . وطالما أنه ليس بمقدوري(أو قناعتي الواقعية) القيام بذلك الفعل الصعب في التنحيف والتخسيس، لأنه يحتاج ظروفه النفسية، ومليون عامل وبرنامج، وإرادة أقوى من إرادة الحكام العرب في التعامل مع قضايا الأمة والمواطنين ... فشلت، بل لاحظت، وكأنه نوع من ردّ فعل(مثل جميع ردود أفعالنا) أن وزني يزداد، وكأني أجاكره، أو كأني أفتح مغارة التحدي داخلي التي لا تقبل الفرض من أحد(إلا من حكامنا الأفاضل) ..وأن انفعالاتي تزداد تشابكاً وإخراجاً لصديد اختلاطي يصعب على أكبر عرّاف أن يعرف تخوم حدودها بين مراحل الزمن العربي المتوارث أباً عن جد، وكابراً عن كابر ..
وحاولت(مخلصاً) التخلّص من الأفكار والقناعات والشعارات والآمال، وحتى الأحلام، ونسيان ما تقوله نشرات الأخبار، وما تكتبه الصحف الزرقاء والحمراء والسوداء، وما تحمله غيوم الربيع والصيف والخريف من ألوان واحتمالات ينقلها عشرات المختصين والمحللين والعارفين بأحوال الطقس وتقلبات الأنواء.. لكني ما نجحت سوى قليلاً، ذلك أن (العملية) بدت ألعن من قلع الضرس، وشلع الظفر، وكأنني أُرغم نفسي على دخول واحد من السجون العربية(القديمة وما بعد الحداثة)، إذ تحتاج إلى تغيير المخ كله، ومحو الذاكرة، وإلى سلخ الجلد الذي تمْسح واعتاد التعوّد فما عادت تؤثّر به أكبر الكوارث، وأشنع الصور والمناظر الدامية المرمية في أرجاء وطننا الكبير.. فهربت إلى التبرير، وإلى إقناع نفسي بقدرتي على إقناعه(العكاز) بأن يرحم حالي، ويقدّر ظروفي، وأن التغيير المطلوب يتجاوز الانتحار إلى الموت القصد(الموت الواعي)، وأنه(العكاز) لا بدّ أن يكون رحيماً فيرأف لحالي، ويعفيني من ذلك الوعد النزق الذي وعدته إياه في لحظة انفعال وتهور وحماس أقرب للجنون، أو إلى الغيبوبة (كالسكران) ..وأقنعت نفسي أنه لا شكّ اقتنع بمبرراتي وموجباتي ..فارتحت، وانفرجت أمامي الدنيا لا تسع نيران حماسي الجديد، خاصة وأنني أقسمت بشرفي ومعتقداتي أن أجنّبه متاعب الطريق ونتوءاته، وأن أكون رحيماً بالتعامل معه . أي أن لا ألقي بكل ثقلي وأحمالي عليه بتلك الطريقة السابقة (الوحشية ـ اللامسؤولة)، وأن لا أعرّضه إلى تلك التضاريس الشارعية التي آذته فعلاً .
وطالما أنني أقنعت نفسي بأنه اقتنع بمبرراتي فيما يخصّ الأهم(وزني وما أحمل)، فإن بقية الأمور ممكنة، إذ يمكن، ببساطة، تغيير الطريق الذي اعتدّت السير فيه يومياً إلى طرق أخرى، طالما أن المسألة طرق بطرق وزفت بزفت . عزمت وتوكلت بولوج طريق آخر.. وإذ بي أمام نفس الوضعية السابقة، بل أسوأ . وإذ بالطرق تتشابه، والدروب واحدة(تقريبا).. نفس الحفر، نفس الجوّر. الكثير الكثير من الحجارة الناتئة، وبقايا صخور تبرز كالسكاكين والحراب الجائعة، الكثير من الطين والغبار والقاذورات المتجمّعة التي تخفي تحتها حقائق مجهولة لمثلي ومثله، والأكثر منها تلك الحفر الطويلة، المتعرّجة، السوريالية التكوين والتداخل التي أكلت الزفت والأرصفة وخلطت حابل الماضي العتيق بنابل مستقبل(زاهر) تعد فيه الحكومات المتعاقبة بتحسين الطرق كي لا يهترئ نعل المواطن المغلوب فتضطر إلى استيراد المزيد من النعال، وإلى رفع الأسعار التي تجلد ظهر الفقراء ـ البسطاء ـ مواطني التعتير النجباء ..
مع ذلك، قررت تنفيذ وعدي القاطع بتجنيب(عكازي) كل المخاطر الممكنة، فرحت أدبّ كالعميان، وأطيل النظر في كل سنتيمتر من الأرض وكأني جيولوجي(أو خبير استراتيبجي ينقّب عن البترول، أو عن آفاق العرب ومستقبلهم)، ونجحت فعلاً في قطع مسافة لا بأس بها، تبلغ بضعة أمتار، وهذا إنجاز تاريخي في مثل هذه الوقائع التي أوجعت عيوني، وجعلتني أدوخ، وعندما دخت ركبت رأسي تلك الأفكار(اللعينة) عن الأوضاع العربية، وأحوال فلسطين والعراق(والسودان واليمن والصومال ـ أيضاً)، فتتالت الصور رغماً عني، وعن محاولاتي إبعادها، وإذ بي أجول في شوارع الوطن الكبير : الخاضع والبائع والجائع والممانع والقانع والقابع والضابع والمضبوع، وإذ بالتوتر يفقدني اتزاني و(حكمتي) ووعودي، فهاجت النفس وماجت البدوية، وإذ بي في لحظة واحدة أضرب عكازي بقوة في أرض اختلاطية، فأعود إلى(كبريائي)، وشموخي، وألعن العكاز، ومن صنعه وأوجده، وكل من تعكّز وعكّز وحلم بالتعكيز أو راهن عليه، والساعة التي وعدته بها، ونزلت أفشّ به بعض غلي وغضبي، ولم أتجرأ، أو لم أنوِ قصداً ذكر وشتم البلدية المسؤولة عن حالة الشوارع، لأن ذلك سيقودني إلى السلسلة الأعلى، ولأني مواطن صالح، قانع، راض بالمكتوب والموهوب، وجدت أن مصيبتي كلها تتلخّص بالعكاز، وأنه لا أحد غيره من قادني إلى هذه الورطات المتعاقبة، وأنني لو حزت عكازاً قوياً مجربّاً، ومؤهلاً لحمل الأحمال الثقيلة(من عياري وعيار أفكاري وهمومي) لما حصل الذي حصل ..
عكازي يبدو أنه يئس من طبيعتي، ومن رجاءاته الصامتة، ومراهناته على إنسانيتي الظرفية، وربما أدرك قراري بالبحث عن بديل له، وخلعه، ورميه، فقرر الانتقال من مرحلة الصمت إلى العنين والأنين، وإلى تخويفي بتلك الانحناءات التي راح يفعلها وأنا بين مصدّق ومبهور، إذ كيف لقطعة جامدة من خشب الخيزران، أو الزان، أو اللا أدري أن تعنّ وتئنّ وتصدر أصواتاً منذرة وكأنه ديك مذبوح ؟؟!!، ولأني خائف بالولادة، وخائف من الخوف والاحتمالات.. ركبني عفريت أن يفعلها انتقاماً من صلافتي فينتحر بطريقته، فرحت أرسم أشكال انتحاره، وقد تخيّلته نتفاً، أو قطعاً يمكن أن تصير مثل النبال، أو (النبق) الذي كنا نلعب به صغاراً، ويمكن لقطعة منفعلة منه أن تثأر بعنفوان المضْطَهَد من عيني، او في أية منطقة حساسة ومؤلمة .. وإذ بي أتحول خلال ثوانٍ إلى أرنب تركبه عفاريت جميع أجهزة الأمن العربية(الراقية ـ الحديثة ـ الوقورة)، ومعها أجهزة الجستابو والسي ـ آي ـ إي، والموساد، وغيرها وغيرها، وهي تحاول اصطيادي، وإعادتي إلى وعيي وتأدبي كمواكن صالح، مسالم لا يهشّ ولا ينش، ولا يتشّ بشيء سوى اللهج بشكر أصحاب نعمتنا، والدعاء لهم بطول البقاء والعمر المديد.
كنت قد اتخذت قراري، رغم لطمة وعار ذلك الاعتذار الذي ركبني كالإثم الآثم، وتلك المناحة التي أقمتها في نقد تاريخي وذاتي وأفكاري والتي لم تفدني بشيء، ولم تبدّل جوهري المكابر، وإذ بي أدخل لا إرادياً مرحلة جديدة من نقد الذات، موضوعها هذه المرّة : نقدي السابق لذاتي، واعتذاري العلني أمام ملأ عكازي، فكدت أزوغ وأدوخ وأنا ألج مرحلة نقد النقد، ولم ينقذ وضعي سوى أكوام التبريرات التي احتشدت أمامي بكل الألوان الزاهية، الراقصة وهي تسهل لي ما أقدمت عليه في لحظة اندفاع مجنون كنت أقرب فيها للغيبوبة..
قراري الذي لا رجوع عنه : رمي العكاز القديم . أي تبديله بآخر أقوى وأفضل، وخلال لحظات أشرقت شمسي بفيض من الأمل والتفاؤل، فنسيت أنين عكازي وأوجاعه، وصراخه وتهديداته، وأعلنت بصوت قوي : ليكن ما يكون.. سأخلعك خلعاً لا رجعة فيها، وصممت أن أقرن الوعد بالتنفيذ(وهي من الحالات القليلة التي أفعلها)، وذهبت من فوري لسوق العكاكيز.. وكم كانت دهشتي كبيرة وأنا أبحر في محيط لا نهاية له.. كأن الأسواق كلها صارت لا تبيع سوى العكاكيز، والدهشة الأكبر في تلك الأعداد الغفيرة من البشر التي تؤمّ المكان للتسوّق والفرجة والعرض والاستعراض.. فتهت أمام تلاطم الرغبات، وتعدد الأصناف والأشكال والألوان، ولم أعرف إلا ساعتها أن هناك منافسة حادّة دولية وإقليمية على عرض آخر أنواع العكاكيز، وأن الصراع على أشدّه بين المحتكرين.. إلى درجة أن خبراء محنكين وتاريخيين في علم العكّاز وأصله، وخشبه، ومعدنه، وخليطته، وصباغته، وانسيابه، وعقفته، ونهايته .. بدوا تائهين أمام ذلك الضخّ الإعلامي الكثيف، وحرب الدعاية التي تستخدم أسلحة لا علم لهم بمعرفة كنهها، ولا حدود الحقيقة فيها، وسمعت أكثر من أنيق متأنق يكرر توهانه وهو يردد : اختلط الحابل بالنابل، خاصة وأن المعروضات مشوّقة وفيها العديد من المغريات والمرفقات، وجوائز ترضية، وجوائز القرعة، وجوائز لمن يشتري أكثر وأغلى . وعرفت أن الباطرين، المميزين من شعبنا بالأناقة والمَظهرة لا يشترون العكّاز لحاجتهم إليه بقدر ما هي الموضة، وتكديس المقتنيات، والمفاخرة بالإمتلاك . كما عرفت أن العكاز المناسب يجب أن يكون متناسباً مع اللباس، وربطة العنق باللون وحتى الهيئة.. وأن عالماً فسيحاً، معقّداً يقوم على العكاز، وفعله الضمني، أو الاستعراضي، البَهوري .
ورغم أن الصينيين ملأوا الأسواق بكل الأنواع والأشكال المزركشة، والخفيفة، ونصف الثقيلة، ودعّموها بأسعار مغرية تسيل لعاب الطمع بالامتلاك.. إلا أن الإقبال على مصنوعاتهم كانت ضعيفة، وحصرية على الفئات الشعبية المُعدمة التي لاحظت أن معظمها ممن أكل الدهر عليهم وشرب، وكأنهم بقايا حُطام الزمن العربي الذي كان في سالف العصور والأوان، وندر أن مرّ مريّش عليها، خاصة من هؤلاء : حديثي النعمة الكثر الطافحين ببثور النهم، وكروش العظمة، وبحّة الصوت الآمرة، والمشية الطاووسية الفاخرة، بينما كانت منتجات الغرب على العموم، وأمريكا على وجه الخصوص هي التي تسيل اللعاب، وتفتح دفتر الشيكات، والجيوب.. وكأن سعاراً مسعوراً يلطم العقول والمظاهر فتستفحل الرجولة (والنسائية أيضاً) الراقدة في جحر الأنا الاستعراضية لتتفشى البهورة، ويسخن أنا الأنا التنافسي.. فيكثر الشراء والإقبال.. إلى درجة أن الحسرة سالت لعاباً بارزاً من عديد الراغبين بالاقتناء والتعامل مع تلك العكاكيز البارقة، ولأنه لا مكان لهم في عالم جنون الأسعار الذي حدث.. رأيتهم منكفئين في الزوايا، والظلال، وكأنهم خجلى من أن يراهم أحد فيشمت، أو يكتب تقريراً بحالهم، بينما آثر بعضهم التنقيب في "بالة" العكاكيز عله يجد تائهاً مقبولاً من صناعة غربية يمكن أن يصبغه ويلمعه ويتباهى به، بينما عديدهم انسحب مرغماً.. فتاه في الزحام، وقد رأيت دموع البعض اليابسة كالبثور على الخدود وفي المقل ..
لا أدري لماذا انشقّ الوفاء والحنين انبثاقاً مسيطراً على عقلي لعكازي الذي اضطهدته ورميته بقرار أرعن.. ففاضت نفسي بالذكريات الجميلة عنه، وعن أيامه الطويلة معي.. وإذ بي وبقرار حماسي أقرر أغادرة السوق فوراً بلا فرجة أو شراء.. والعودة لعكازي مهما كان الوضع، ومستوى الأنين، فغمرتني أفكار الإصلاح والترقيع، وإذ بي أمام معطيات إيجابية تكدّست متجمّعة تسدّ أفقي العقلي وهي ترسم لي عوالم عكازية أبدية، فأكاد أطير شدواً بأفكاري العبقرية، وأنا أردد بيني وبين نفسي(هذه المرة) : ما من حاجة أبداً للنقد المعلن، وإعادة النظر والاعتذار، وبالوقت نفسه للتجديد والتغيير، وإن بقاء الوضع على حاله أستر وأضمن من المغامرة والبهدلة وكشف عورات الذات، أو جلدها بلا داع ومبررات .
أيقنت أن الحالة أفضل مما اعتقدت، وتوهمت، وأنني قدر عكازي، مثلما أنا قدره، وأن أنينه ردّة فعل انفعالية يمكن علاجها ببعض الرقّة، والكلمات التي تطيّب خاطره، وأنني وإياه مثل(وحدة الأضداد)، وقد أعجبني الاكتشاف فمضيت مسرعاً لالتقاطه وتقبيله بحرارة افتقدتها سنوات الاغتراب القهري، وكأنني ألخص في عواطفي نحوه عمراً يتناثر في محاجر العيون، وظلال التلال، وقررت علاج بثوره وتآليله وهنّات الزمان فيه، وصباغته بلون جديد تعيد له شبابه، وتُشعره، أو تشعرني بالأحرى، أنه قوي وقادر على العطاء والحمل والتحمل.. حتى الأوزان الثقيلة جداً، ومن عيار الهمّ العربي، وأخبار المسؤولين وحركتهم وحراكهم ...
الأربعاء، أبريل 14، 2010
أنين العكاز
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق