الخميس، مايو 07، 2009

لطائف في الشعر والتربية والعلم من القيروان

زهير الخويلدي
"ومن حقهم عليه أن يعدل بينهم في التعليم ولا يفضل بعضهم على بعض وان تفاضلوا في الجعل" أبو الحسن القابسي القيرواني[1]

ان اختيار مدينة القيروان عاصمة للثقافة الإسلامية ليس من قبيل الصدفة أو الاعتباطية وليس البتة نوع من الدعاية السياحية والتسويق الإعلامي بل إن مكانتها التاريخية في الحضارة العربية الإسلامية راسخة ولا يشكك فيها أحد، لاسيما وأنها مدينة عريقة توطدت منها اللغة العربية والدين الإسلامي في ربوع المغرب العربي وجنوب أوروبا وانطلقت منها الرحلات التجارية نحو جنوب الصحراء الإفريقية وبلدان الساحل. ومن المعلوم أن مدينة القيروان فقد بناها القائد عقبة بن نافع عام 50هـ/670م، واتخذها الأغالبة بعده عاصمة لهم وقد تواصل إشعاعها إلى يوم الناس هذا.

يوجد في رباط الأغالبة كما يحلوا لبعض المؤرخين تسميتها العديد من المعالم العمرانية والآثار النفيسة مثل المسجد الذي بناه عقبة ابن نافع و وهو من أروع شواهد العمارة الإسلامية في المغرب العربي، ومقام الصحابي أبي زمعة البلوي ومقام سيدي عبيد الغرياني ومقام سيدي عمر عبادة وبئر بروطة وفسقيات الأغالبة وجامع الأبواب الثلاثة .

وقد وصفها الجغرافي الإدريسي في كتابه :"نزهة المشتاق في اختراق الآفاق:"القيروان أم الأمصار وعاصمة الأقطار، وقد سبقت بذلك قرطبة الأندلسية حيث كان مسجد عقبة مجلسا للعلم، إلى جانب إنشاء مدارس أطلق عليها دور الحكمة".

لقد تكون العديدً من العلماء والفقهاء والمحدثين في القيروان وكان من أبرز علمائها سحنون وابن أبي زيد وابن رشيق وابن شرف وأسد بن الفرات وابن الجزار والمعزّ بن باديس كلهم تركوا بصماتهم الحضارة العربية الإسلامية وأغنوها بكثير من المؤلفات والرسائل في علم الكلام والطب والتربية و الفقه والأدب واللغة والعلوم الطبيعية والشعر.

من أهم إسهامات علماء القيروان يمكن أن نذكر كتاب ابن الجزار في التربية الذي يتناول فيه اشكالية التربية بين الطبع والتطبع اذ يرى أن:"العادة طبيعة ثانية فلموقع العادة هذا الموقع وجب أن يؤدب الأطفال ويعودوا بالأشياء الجميلة وتربيتهم فاضلة ليكونوا ان قبلت طبائعهم منفعة التأديب والتعاهد أخيارا فضلاء."[2]
من المعلوم أن القيروان عرفت حركة كلامية واسعة وانتشر فيها الاعتزال وبعد ذلك الأشعرية وغلب في البداية فقه الأحناف مع أسد ابن الفرات ولتنتصر المالكية مع سحنون

"روي عن رجل جليل من أصحاب الحسن أنه قال: ما كنا نعد علينا أيام واصل ملكا. وفرق رسله في الآفاق يدعون إلى دين الله فأنفذ إلى المغرب عبد الله ابن الحارث فأجابه الخلق."[3]

واضح من خلال هذا القول لأبي القاسم البلخي أن الاعتزال انتقل إلى المغرب العربي عامة والقيروان خاصة منذ تشكله على يد واصل ابن عطاء عن طريق تلميذه عبد الله ابن الحارث الذي واصل طريقه إلى المغرب وأقام في الدار البيضاء وانتشر كذلك في طنجة.

ان شيوخ الاعتزال في القيروان هما محمد بن الأسود الصديني وابن عبدون الحنفي وقد توليا القضاء. وقد أخذ عنهما أسد ابن الفرات وأبو محرز الذي اشتهر بتحليله لشرب النبيذ.

غير أن المالكية عادت بقوة واشتهر أبو العرب محمد بن أحمد بن تميم القيروان وكان يتقول الشعر ويهتم بالجمع والتدوين ومن قصائده نذكر ما يلي:

"إذا ولى الصديق لغير عذر فزاد الله خلته انقطاعا

إلى يوم التنادي بلا رجوع فإن رام الرجوع فلا استطاعا

إذا ولى أخوك فول عنه وزده وراء ما ولاك باعا

وناد وراءه يا رب تمم ولا تجعل لفرقته اجتماعا

وكذلك قوله:

ضعفت حيلتي وقل اصطباري والى الله أشتكي كل ما بي

وهن العظم بعد أن كان صلبا وفقدت الشباب أي شباب"[4]

يورد أبو العرب لكي يعظم منزلة القيروان ويجعلها أم المدائن وقبلة ثانية للمسلمين حديثا للرسول محمد صلعم يؤكد فيه قداسة هذا الموطن وربما يكون الحديث مرسلا أو موضوعا، اذ يرى بعد العنعنة :"ليأتين ناس من أمتي من افريقية يوم القيامة وجوههم أشد نورا من القمر ليلة البدر"[5].

غير أن المحققين يشيران الى بعض من تلك الحركة الفكرية التي شهدتها القيروان بقولهما:"وقفوا( أهل الجدل) عند أبي سعيد بن الحداد صاحب المجالس المعرفة ومحمد بن الفتح الرقادي الذي... كان يذهب مذهب الجدل والمناظرة والذب عن السنة وأهل المدينة وقد اعتبره عياض من مشاهير المتكلمين والنظار بالقيروان. كما وقفوا عند تلك المناظرات التي كانت تقوم بين العلماء في الفقه والكلام. كالمناظرة التي دارت بين ابن طالب ومحمد ابن محبوب في الفقه أو التي دارت بين ابن محبوب وأحد العراقيين بمحضر ابن طالب( في الاستثناء بالله الذي يزيل الكفارة ولا يزيل الطلاق) أو كتلك التي قامت بين ابن محبوب وأحد المعتزلة في القدر بحضور أبي عبد الله الرقادي ونتج عنها أن ابن محبوب وضع كتبا مناقضة لقول المعتزلة."[6] لكن يعترف المحققان بأن القيروان لم تعرف ميلاد فيلسوف بالمعنى الحقيقي للكلمة في حجم ابن سينا وابن الهيثم والبيروني لأن الناس فيها لم يكونوا يفرقوا بين الفلسفة والمروق، "لذلك تراهم يتهافتون على العلوم النقلية ويحاولون التأليف فيها واجترارها ويرفضون كل نظر عقلي أو نزعة فلسفية وليس غريبا أن نجدهم يعتبرون المعتزلة كفارا والشيعة والخوارج مارقين ثم ليس غريبا أن نجد عندهم صوت الشعر خافتا وصوره باهتة لأنهم يعتبرون الخيال والإمعان فيه ضربا من التحلل"[7].

غير أن هذا الموقف التاريخي غير دقيق وهو مجرد حكم مسبق لأن ظهور ابن رشيق وشهرة كتابه العمدة سيقلب الموازين ويعطي صورة ناصعة عن ازدهار الحياة الأدبية والفكرية في القيروان.

إذ جاء في العمدة لابن رشيق:"

في الناس من لا يرتجى نفعه إلا إذا مس بإضرار

كالعود لا يطمع في طيبه إلا إذا احرق بالنار"[8]

وقد عرف ابن رشيق بالقناعة وصداقة الناس ومحبتهم وذكر في ذلك:"

يعطى الفتى فينال في دعة ما لم ينل بالكد والتعب

فاطلب لنفسك فضل راحتها إذ ليست الأشياء بالطلب

إن كان لا رزق بلا سبب فرجاء ربك أعظم السبب"[9]

وقد ذكر لنا المؤرخون مناظرة شعرية بين ابن رشيق وابن شرف حول الأندلس حيث قال الأول:"

مما يزهدني في أرض أندلس أسماء مقتدر فيها ومعتضد

ألقاب سلطنة في غير مملكة كالهر يحكي انتفاخا صولة الأسد

وقد أجابه ابن شرف عندما اجتمعا بصقلية:

ان ترمك الغربة في معشر قد جبل الطبع على بغضهم

فدارهم ما دمت في دارهم وأرضهم ما دمت في أرضهم"[10]

فهل يعني ذلك أن ابن رشيق تنبأ بتفكك الأندلس وضياع زمان الوجود العربي في صقلية قبل أوانه؟

المراجع:

أبو العرب، طبقات علماء افرقية وتونس، تحقيق علي الشابي ونعيم حسن اليافي، الدار التونسية للنشر، 1985، ص20

ابن رشيق، العمدة، في محاسن الشعر وآدابه ونقده، تحقيق عبد الحميد هنداوي، المكتبة العصرية، بيروت، الطبعة الأولى 2001

أبو الحسن القابسي القيرواني، الرسالة المفصلة لأحوال المتعلمين وأحكام المعلمين والمتعلمين،

ابن الجزار القيرواني، سياسة الصبيان وتدبيرهم، تحقيق محمد حبيب الهيلة، الدار التونسية للنشر ،مطبعة المنار، تونس1968

فضل الاعتزال وطبقات المعتزلة، تحقيق فؤاد السيد، الدار التونسية للنشر، الطبعة الثانية، 1986

-------------------

[1] أبو الحسن القابسي القيرواني، الرسالة المفصلة لأحوال المتعلمين وأحكام المعلمين والمتعلمين،

[2] ابن الجزار القيرواني، سياسة الصبيان وتدبيرهم، تحقيق محمد حبيب الهيلة، الدار التونسية للنشر ،مطبعة المنار، تونس1968

[3] فضل الاعتزال وطبقات المعتزلة، تحقيق فؤاد السيد، الدار التونسية للنشر، الطبعة الثانية، 1986، ص 66-67

[4] أبو العرب، طبقات علماء افريقية وتونس، تحقيق علي الشابي ونعيم حسن اليافي، الدار التونسية للنشر، 1985، ص27

[5] أبو العرب، طبقات علماء افريقية وتونس، تحقيق علي الشابي ونعيم حسن اليافي، الدار التونسية للنشر، 1985، ص44

[6] أبو العرب، طبقات علماء افرقية وتونس، تحقيق علي الشابي ونعيم حسن اليافي، الدار التونسية للنشر، 1985، ص21

[7] أبو العرب، طبقات علماء افرقية وتونس، تحقيق علي الشابي ونعيم حسن اليافي، الدار التونسية للنشر، 1985، ص20

[8] ابن رشيق، العمدة، في محاسن الشعر وآدابه ونقده، تحقيق عبد الحميد هنداوي، المكتبة العصرية، بيروت، الطبعة الأولى 2001

[9] ابن رشيق، العمدة، في محاسن الشعر وآدابه ونقده، تحقيق عبد الحميد هنداوي، المكتبة العصرية، بيروت، الطبعة الأولى 2001

[10] ابن رشيق، العمدة، في محاسن الشعر وآدابه ونقده، تحقيق عبد الحميد هنداوي، المكتبة العصرية، بيروت، الطبعة الأولى 2001

ليست هناك تعليقات: