الخميس، ديسمبر 25، 2008

الخوف المسيحي العربي المشروع

صبحي غندور

هاجس الخوف على المستقبل عند المسيحيين العرب ليس وليد الحاضر فقط، وما يتميّز به هذا الحاضر من تصاعد في حدّة الطروحات العصبية الدينية بأكثر من بلد عربي، بل تعود جذوره إلى سنوات بعيدة في الزمن، وقريبة في الاستحضار الذهني، كلّما لاحت مشاريع الخطر القائمة في الواقع حقاً أو المنسوجة بالخيال وهماً.

فالمسيحي العربي يتذكّر ما قاله الأجداد عن سنوات الذلّ أيام حكم الأتراك العثمانيين..

والمسيحي العربي يتأثّر بما يردّده التحريض الأجنبي من مقولات ودعوات للانفصال بين الأجزاء المكّونة لجسم الأمّة العربية..

والمسيحي العربي يسمع ويشاهد ويلمس وجود تيّارات دينية متطرّفة تطرح عليه إمّا تحدّي الذوبان أو التهجير..

فمن حقّ المسيحيين العرب الخوف على الحاضر وعلى المصير ..

وهذا شعور مشروع لدى كل أقلّية دينية أو عرقية، في أيِّ مكان وزمان، طالما وُجدت مبرّراته.

لكن هل صحيح أنّ اضطهاد حقوق المسيحيين العرب سببه وجودهم في بلاد ذات غالبية إسلامية؟ وهل كان تاريخ المنطقة فعلاً هكذا أبّان انتشار الدعوة الإسلامية؟!.

هذا السؤال يرتبط بموضوع حيوي هام يمسّ وحدة المجتمع العربي، ويطال المداخلات الأجنبية التي سعت ماضيا وحاضراً إلى السيطرة على المنطقة العربية، وإلى تجزئتها ومصادرة ثرواتها وتغيير هُويّة بلدانها من خلال شعارات "الحماية الأجنبية للطوائف والأقلّيات".

يقول المطران جورج خضر إنّ الصليبيين جاءوا إلى بلاد الشام و80% من سكانها يدينون بالمسيحية، ولما خرجوا منها، كان المسيحيون أقلّية سكانية!

إنّ الوجود المسيحي على الأرض العربية تزامن مع الوجود الإسلامي لأكثر من ألف وأربعمائة سنة. وذلك وحده كافٍ ليكون شهادة للاثنين معاً ضدّ كل دعاة الانفصال أو التذويب.

إنّ صيغة التعايش الإسلامي/المسيحي في المنطقة العربية ليست "حقاً" للمسيحيين فقط، وليست "واجبا" على المسلمين العرب فقط، بل هي مسؤولية مشتركة فرضتها الإرادة الإلهية التي اختارت الأرض العربية لتكون مهد كلّ الرسالات السماوية؛ فالحفاظ على هذه الصيغة، امتحان لكلّ العرب في كيفية الفهم الصحيح للدين وللهوية الثقافية المشتركة، وفي مدى الانتماء الوطني والحرص على المصالح الوطنية والعربية.



إن ما هو قائم الآن من ممارسات سيئة بحقِّ بعض المسيحيين العرب في عدد من البلدان العربية ليس حصيلةَ التدخل الأجنبي والعملاء وأجهزة المخابرات فقط، بل هو أيضاً نتاج الفهم الخاطئ لدى غالبية العرب للدين وللعروبة والوطنية.

والأمر لا يقتصر على سوء العلاقة بين المسلمين والمسيحيين العرب فقط، بل هو قائم بين المسلمين أنفسهم أيضاً بما هم عليه في عموم العالم الإسلامي من تعدّد في المذاهب والأعراق والأثنيات. فلو اقتصرت الظاهرة الانقسامية المرضية الموجودة الآن على مسألة العلاقة بين المسلمين والمسيحيين حصراً لَصحَّ الاعتقاد عندها بأنها مشكلة "الوجود المسيحي العربي"، لكن مرض الانقسام ينتشر الآن في كل خلايا جسم الأمّة العربية، وهو يعبّر عن نفسه بأشكال مختلفة بين الخيوط الملونة التي تؤلّف نسيج الأوطان العربية.

غير أنّ هذا أيضاً لا يبرّر ما حدث ويحدث من ممارسات سيئة ضدّ بعض المسيحيين العرب وكنائسهم في بلدان كانت تُعدّ نموذجاً للتعايش الحضاري والديني المشترك، كمصر والعراق مثلاً.

وما لم تفرزه الممارسات السيئة من مخاوف في بلدان عربية أخرى، نراه يحدث بفعل مفاهيم وأفكار تتحدث الآن عن المسيحيين العرب وكأنهم غرباء عن هذه الأمة وأوطانها أو أنّ حالهم كحال الأقليات التي وفدت لبلدان العرب من جوارهم الجغرافي مثل الأرمن والأكراد، علماً بأنّ الوجود المسيحي العربي سابق لوجود الدعوة الإسلامية، وهم (أي المسيحيون العرب) أصل سكان هذه البلدان تاريخياً، كما هو حال مصر والعراق وبلاد الشام.

هي إذن بلا شك أسباب متعدّدة لما نراه اليوم من خوف مسيحي عربي مشترك على الحاضر والمستقبل. بعض هذه الأسباب موضوعي وخارجي مفتعل، وبعضها الآخر ذاتي داخلي كانعكاس لحال التخلف الفكري والسياسي السائد في هذه المرحلة. فهي ليست مشكلة "حقوق المواطنة" للمسيحييين العرب فقط، بل هي مشكلة كل العرب بمختلف تعدّدهم الديني والأثني.



وهاهي المنطقة العربية الآن تعيش أخطر التحدّيات على بلدانها وأرضها وثرواتها ووحدة مجتمعاتها، دون أي سياج فكري سليم يحصّن الأوطان أو يساهم في دفع الأوضاع نحو غدٍ أفضل.

حتى الأطر السياسية لحركات المقاومة القائمة الآن في المنطقة العربية فهي، مهما بلغت قيمة أعمالها وشمولية إنجازاتها، أطر محكومة بمواصفات فئوية.

وهذه الأطر السياسية الحاملة لمشعل المقاومة ضدّ الاحتلال تقوم في ظلّ بيئات موبوءة بأوضاع طائفية ومذهبية تحاصر الإنجازات وتشوه أحياناً من صورة العمل المقاوم نفسه.

هكذا هو اليوم حال الأمّة العربية وما فيها من انشداد كبير إلى صراعات داخلية قائمة، وإلى مشاريع فتن أهلية قاتمة في ظلّ احتلال أجنبي وإسرائيلي لأراضٍ عربية.

وضحايا هذه الصراعات العربية ليست مجموعات بشرية فقط، بل جملة أيضاً من القيم والمفاهيم والأفكار والشعارات.

فالدين والطائفة والمذهب، كلّها تسميات باتت من الأسلحة الفتّاكة المستخدمة في هذه الصراعات.

كذلك "العروبة" و"الوطنية"، فهما الآن أيضاً موضع تفكيك وتفريغ من أيّ معنًى جامع أو توحيدي، مع أنّه يتمّ في الوقت نفسه استخدامهما لصراعات مع جوار إسلامي أو عربي آخر.

و"الحرية" و"الديمقراطية" نجدهما الآن مطلبين يتناقضان، فالنماذج الأميركية الديمقراطية المعروضة، أو المفروضة، تقوم على قبولٍ بالاحتلال والوصاية الأجنبية على الأوطان من أجل الحصول على آليات ديمقراطية في الحكم!

أمّا المقاومة ضدَّ الاحتلال فقد أصبحت بنظر البعض وكأنها دعوة لإسقاط "الديمقراطية" أو لفرض "حكم إسلامي" مدعوم من الخارج!.



إنّ البلدان العربية هي الآن على مفترق طرق بين واقع الانقسام أفقياً على مستوى الحكومات، وعمودياً على مستوى الشعوب، وبين أمل البناء السليم للأوطان وللعلاقات الإيجابية بين دول وشعوب الأمَّة الواحدة.

لكن الخيار في اتجاه الطريق لا يتوقف فقط على وجود الرغبة بل على مدى القدرة، ولن يحصل القرار الصحيح بمجرّد الإعلان عنه، بل بالعمل الجاد والفاعل لتحقيقه. وهذا الأمر هو مسؤولية عربية مشتركة تشمل الحكومات والشعوب وكلّ مواقع الفكر والإعلام ومؤسسات المجتمع المدني.

إنّ غياب الفهم الصّحيح للدّين وللعلاقة مع الآخر، أيّاً يكن هذا الآخر، هو المناخ المناسب لأي صراع طائفي أو مذهبي من شأنه أن يُحوّل ما هو إيجابي قائم على الاختلاف والتّعدّد إلى عنف دموي يُناقض جوهر الرّسالات السّماويّة، لكن يحقق غايات الطامحين للسيطرة على الأرض العربية.

إن الدين يدعو إلى التوحّد ونبذ الفرقة، والعروبة تعني التكامل ورفض الانقسام، والوطنية تجسيد لمعنى المواطنة والوحدة الوطنية. فأين نحن جميع العرب من ذلك كلّه؟

ليست هناك تعليقات: