الأحد، ديسمبر 21، 2008

الجهاد البحري بدلا من الجهاد البري

د. عبدالله المدني

اختلطت الأوراق مجددا في منطقة جنوب آسيا المعروفة أصلا بمشاكلها المستعصية وتحالفاتها الغريبة وصراعاتها المريرة وطبيعتها الجيوبوليتيكية الصعبة.
ولعله من نافلة القول الإشارة هنا إلى أن الأحداث الإجرامية التي استهدفت زهرة المدائن الهندية وقلعتها الاقتصادية ( مومباي ) في السادس والعشرين من نوفمبر الفائت هي التي أعادت خلط هذه الأوراق، مسببة قلقا محليا و إقليميا ودوليا.


على الصعيد المحلي الهندي

فعلى الصعيد المحلي الهندي صارت المؤشرات تفيد بأن حزب المؤتمر الحاكم قد يخسر الانتخابات البرلمانية القادمة المقرر إجراؤها في عام 2009 لصالح المعارضة ممثلة في تحالف " بهاراتيا جاناتا" القومي الهندوسي الذي أجاد استغلال أحداث مومباي للقول بأنها لم تكن لتحدث لولا تراخي قبضة الحزب الحاكم وتساهله مع الجماعات الإسلامية في داخل كشمير وخارجها. هذا إذا لم يبادر حزب المؤتمر تحت تأثير الضغوطات الداخلية إلى شن حرب محدودة ضد باكستان. وهذه مسألة لئن كان الحديث يدور حولها منذ زمن، فإنها اليوم تحولت إلى موضوع له دوافعه ومبرراته عند قطاع عريض من الهنود، بما فيهم الهنود المسلمين الذين وجدوا أنفسهم فجأة في موقف حرج بفضل نفر ضال من أبناء عقيدتهم. الأمر الآخر الذي تفجر على الصعيد المحلي الهندي هو السجال حول مدى كفاءة الأجهزة الأمنية الداخلية وبالتالي مدى الاحتياطيات المتخذة لحماية بلد شاسع ذو سواحل مترامية الأطراف واقتصاد صاعد يسعى إلى المنافسة العالمية كالهند.


على الصعيد الداخلي الباكستاني

على الصعيد المحلي الباكستاني، كانت لعملية مومباي أيضا تداعياتها التي تجلت في عودة الصراع ما بين المؤسسة المدنية المنتخبة ديمقراطيا بقيادة آصف علي زرداري، ومؤسسة الجيش ورديفها " جهاز الاستخبارات الداخلي " (آي اس آي)، بعدما كان متوقعا أو مأمولا أن يرضخ الثاني للأول. ودليلنا نستمده من المماحكات التي جرت بين الطرفين حول قرار إرسال قائدي الجيش و المخابرات الباكستانية إلى مومباي للمشاركة شخصيا في تحقيقات العملية الإرهابية، والتي انتهت بتراجع إسلام آباد عن ذلك القرار.





بكين تعود إلى مواقفها التقليدية من باكستان

أما على الصعيد الخارجي وهو الأهم، فقد عادت بكين من خلال تصريحات قادتها إلى تبني مواقف صريحة بالوقوف خلف إسلام آباد في أي نزاع عسكري قد ينشب ما بين الأخيرة ونيودلهي. وهذا بطبيعة الحال يختلف عما تردد في السنوات القليلة الماضية من أن الصين في مواقفها إزاء الهند وباكستان صارت اقرب إلى الحياد منها إلى مناصرة الأخيرة، بعدما تبين لها أن تأييدها لباكستان عسكريا ودبلوماسيا واقتصاديا منذ ستينات القرن العشرين ارتد عليها في صورة حركات اسلاموية متشددة على صلة بجماعات انفصالية صينية من تلك التي تسعى إلى سلخ ولاية تركستان الشرقية ذات الأغلبية المسلمة انطلاقا من اللسان الجغرافي الضيق الممتد من أفغانستان إلى داخل الأراضي الصينية. وقد رأى بعض المراقبين في التصرف الصيني عودة للغزل المكشوف للباكستانيين من اجل المضي قدما في ما اتفق عليه سابقا لجهة منح البحرية الصينية تسهيلات وقواعد عسكرية في ميناء غوادر الاستراتيجي ببلوشستان المطل على بحر العرب.


واشنطون تجد نفسها في مأزق

أمريكيا، وجدت إدارة الرئيس جورج دبليو بوش وهي في أواخر أيامها .. وجدت نفسها في مأزق جديد. فهي من جهة في حاجة إلى علاقات جيدة وقوية مع إسلام آباد لقطع دابر الإرهابيين من تنظيم القاعدة وحركة طالبان والمتعاطفين معهما من الجماعات القبلية الباكستانية المتشددة، وربما أيضا لكي توكل لإسلام آباد دورا محددا و مرسوما في منطقة الخليج – على شاكلة دور إيران الشاهنشاهية – اذا ما تفجر الصراع مع إيران واتخذ صورة المواجهة العسكرية. ومن جهة أخرى، فان واشنطون بحاجة ماسة للمحافظة على تحالفها القائم مع دولة صاعدة كالهند لتحجيم الدور الصيني المتعاظم في منطقة جنوب شرق آسيا والشرق الأقصى وبلدان آسيا الوسطى السوفياتية سابقا. ومن هنا فان الزيارة العاجلة التي قامت بها وزيرة الخارجية الأمريكية كونداليزا رايس في الأسبوع الماضي إلى كل من إسلام آباد و نيودلهي كانت ملفتة للأنظار، بل تصارع المراقبون على أبواب الاجتماعات أملا في الحصول على خبر أو تسريبات تشفي قدرا من غليلهم.


واشنطون لا تمانع من شن حرب هندية محدودة على باكستان

في هذا السياق، قيل أن رايس أعربت للهنود أن بلادها ليست لديها تحفظات حول قيام سلاح الجو الهندي بحملات تأديبية ضد المتطرفين الاسلامين في باكستان، لكن بشرطين أولهما التنسيق مع القوات الأمريكية والغربية المرابطة في أفغانستان ، بمعنىاخبارها مسبقا بتوقيت الحملات وأماكنها. وثانيهما أن تكون الحملات سريعة ومحدودة، بمعنى ألا تصل إلى مستوى الحرب الشاملة التي قد تدفع باكستان إلى سحب كامل قواتها – أو جزء منها – من المناطق الحدودية والقبلية المتاخمة لأفغانستان. ومما تسرب أيضا، أن الأمريكيين لم يعربوا عن أي تحفظات حول قيام سلاح الجو الهندي بتوسعة ضرباته الجوية لتشمل بنغلاديش طالما أنها تستهدف جماعات متورطة أو مغذية للإرهاب. والمعروف أن في باكستان وبنغلاديش جماعات وشبكات وتحالفات متشددة لا زالت تتعاون وتنسق أعمالها تحت يافطة استهداف الغرب والعلمانية والصليبيين واليهود، رغم انفصال بنغلاديش عن باكستان في عام 1971 . وقد تبين ذلك بالدليل القاطع من الحملة التي قامت بها حكومة دكا في أعقاب سلسلة التفجيرات المتتالية التي تعرضت لها أهداف مدنية عديدة قبل نحو عامين. إذ قاد بعض الاعتقالات إلى أسماء لها ارتباطات بأحزاب وحركات متطرفة في باكستان، إن لم تكن تأتمر بأوامرها.


موسكو تأمل في عودة تحالف ما قبل سقوط الاتحاد السوفيتي

أما روسيا الاتحادية، فمثلها مثل الولايات المتحدة الأمريكية، سارعت عبر إرسال رئيسها ديمتري ميدفيديف إلى نيودلهي، وهي تأمل في استغلال التطورات والتداعيات التي أحدثتها عملية مومباي لإحياء التحالف التقليدي ما بين موسكو ونيودلهي والذي سقط بانتهاء الحرب البادرة وإدارة الهنود لوجوههم نحو المعسكر الغربي والاقتصاد الحر. ومما قيل على هذا الصعيد أن الزعيم الروسي وعد مضيفيه بالتأييد الدبلوماسي الحازم وصفقات الأسلحة الحديثة وصفقات النفط والغاز ذات الأسعار المعتدلة مقابل العودة إلى التعاون والتنسيق الذي كان قائما في السبعينات والثمانينات من القرن المنصرم ضد منابع التطرف والغلو والتخلف والإرهاب في أفغانستان وغيرها من دول المنطقة.


اعترافات الناجي الوحيد تكتسب أهمية خاصة

بقي أن نقول أنه خلافا لما عمل وخطط له الإرهابيون، فقد وقع أحدهم وهو الشاب أجمل أمير كساب (21 عاما) في الأسر ليدلي لمستجوبيه الهنود بتفاصيل دقيقة عن عملية السادس والعشرين من نوفمبر 2008 . وسواء أكانت اعترافات هذا الناجي الوحيد من العملية الإرهابية انتزعت منه تحت التعذيب أو الترهيب، فان ما قاله للمحققين يكتسب أهمية خاصة لأنه لم يحدث قبل هذا التاريخ أن استطاعت الأجهزة الأمنية الهندية اعتقال إرهابي وهو في حالة تلبس لا تحتاج إلى دليل، ثم لأن ما قاله يشير إلى مكانين لم يعرفا من قبل كمواقع يستخدمهما جهاز الاستخبارات الباكستاني لتدريب عملائه وهما: موقع إقبال في كراتشي حيث ترابط وحدة كوماندوز بحرية، وموقع سد مانغالا بالقرب من العاصمة إسلام آباد. في هذين المكانين – وطبقا لاعترافات كساب – تم تدريبه هو ورفاقه على مدى ستة اشهر متواصلة على أعمال الإغارة وزرع المتفجرات واحتجاز الرهائن والتخابر عبر الأقمار الصناعية.


الجهاد ضد الهند من بحر العرب

وهذا، معطوفا على ما صرح به مؤسس جماعة الدعوة حافظ محمد سعيد في مدين " سكور " (363 إلى الشمال من كراتشي) بعيد سماعه لخبر عملية مومباي الإجرامية كتعليق منه حول ردة فعل جماعته في حالة قيام الهند بعمل عسكري انتقامي، والذي جاء فيه انه سوف يصدر أوامره إلى رجاله كي يكونوا خط الدفاع الأول عن باكستان في بحر العرب، يعنى أن عناصر هذه الجماعة المتشددة – وربما غيرها - صار بمقدورها اليوم أن تنقل معاركها من الكهوف المعزولة إلى البحار فتعيق الملاحة وحركة التجارة والنقل، وذلك بفضل ما توفر لديها من تدريبات على "الجهاد البحري".


الدليل الأقوى هو هاتف " يوسف مزمل "

ولعل أقوى الأدلة المادية التي وضعها الهنود أمام وزيرة الخارجية الأمريكية كونداليزا رايس ورئيس هيئة الأركان الأمريكية الأدميرال مايكل ميولن قبيل مغادرتهما نيودلهي وتوجههما إلى إسلام آباد هو هاتف يعمل عن طريق الأقمار الصناعية، وكان قد وجد في القوارب المطاطية التي استخدمها الإرهابيون للوصول إلى شواطيء مومباي، وبتفكيك الهاتف وفحصه تبين صدور عدة مكالمات منه إلى قادة بارزين من حركة لاكشار طيبة وجماعة الدعوة وفي مقدمتهم المدعو يوسف مزمل الذي قيل أنه احد ابرز قادة الجماعة الأخيرة. وأمام هذا الدليل، لم يجد الأمريكيون بدا من التعاطي بحزم أكثر مع حليفتهم الباكستانية، فبعثوا إليهم بأكثر من رسالة تشير إلى خطورة الدور الذي تمارسه بعض الأجهزة والعناصر ضمن جهاز الآي اس آي الرسمي، وضرورة مواجهة الأمر بحزم اكبر، الأمر الذي تبدو قيادة الرئيس زرداري عاجزة عنه أو مترددة فيه لسبب بسيط هو احتمال قيام الجيش بانقلاب جديد وتسلم مقاليد السلطة على غرار ما حدث في أزمات مشابهة سابقة.


د. عبدالله المدني

*باحث ومحاضر أكاديمي في الشئون الآسيوية من البحرين

تاريخ المادة : 21 ديسمبر 2008

البريد الالكتروني : elmadani@batelco.com.bh

ليست هناك تعليقات: