الخميس، ديسمبر 18، 2008

فإما نكون .. وإما نكون

سامح عوده

لم أخطئ البتة عندما حذفت ألـ " لا " النافية من العنوان، لأخالف المقولة الشهيرة التي رددناها دائماً " فإما نكون أو لا نكون " لانني رأيتها العبارة الانسب التي تليق بنا كفلسطينيين، فنحن الفلسطينيين خلقنا لنكون أشجاراً في أرضنا، نحرسها، نحميها بماء العيون، تلك العبارة جذبتني حد الشغف، مازال صداها يشعل فتيل ذاكرتي، حتى التهبت المشاعرُ، بدأت أرددها وبلا توقف، كأنها أغنيةٌ تصدح في وجه فجر نقي، صوتها الطاغي بعنفوانه يكسرُ كل سلاسل الصمت، ليذهب السكون خارجاً، ويبقى للشفاه النشيد.

هذه العبارةُ قيلت في استقبال رئيس الوزراء الفلسطيني الدكتور سلام فياض أثناء زيارته محافظة قلقيلية قبل أيام، وتحديداً في بلدة جيوس شرق قلقيلية، ليشاهد ما فعله الاحتلال من دمار، لم يأتِ خالي اليدين، جاء حاملاً في جعبته عددا من المشاريع الحيوية للمنطقة، فالناس ملت عبارات المواساة، والبكاء على الأطلال، والمواطن المسكين المغلوب على أمره يحتاجُ إلى يدين اثنتين الأولى تقاوم وتساند، والأخرى تقدمُ كل ما في استطاعتها من مقومات الصمود، بعيداً عن الشعاراتية الفارغة..!!

جيوس البلدة الفلسطينية التي ترنو عينيها إلى الساحل، فلا تكبو عند الغسق، فحمرة السماء يجعلها في حالة توحد مع ذاك الساحل الغربي المغتصب الحزين، بالتأكيد إنها تنتظرُ الوعد الرباني بأن الأرض باقية إلى يوم الدين، لم تستطع جدران العزل ولا سرطانات الاستيطان أن تسلبها وجهها الكنعاني الجميل، جيوس التي سميت بهذا الاسم لأنها قهرت الجيوش والعسكر وبقيت قلعةً حصينة كما هي، زال كل المتربصون بها وبقيت هي وجها كنعانيا جميلا ذا هوية فلسطينية أصيلة.

وللأمانة فالعبارة رددها الأستاذ غسان "أبا زياد" فإما نكون .. وإما نكون وزاد من بعده الدكتور سلام وسوف نكون، أبو زياد الذي درسني في بداية حياتي الدراسية، مرت أعوام ودارت سنون كأنها اللحظة، فبقي الطالب يحفظ عن ظهر قلب ما يقوله الأستاذ، وهذه سنتنا نحن الفلسطينيين، حفظنا الدرس جيداً، فما عاد يعنينا عسكرهم ولا جندهم ولا بطشهم، حفظنا وعن ظهر قلب كيف نكون أوفياء للأرض، ولشيء مغروس ٌ فينا اسم " وطن " لأنها رسالةُ الحق ورّثها السلف إلى الخلف ، مؤمنون بالوعد بأن هذا الخطأ التاريخي وجود احتلال على أرضنا يجب أن يمسح من أجندة التاريخ، وأن الله لا يخلفُ وعده، فقط هو الاختبار الحقيقي لنا كمؤمنين.

في هذه البلدة التي ما يلبث أن ينتهي المصلون من أداء صلاة الجمعة حتى يذهب الصغار، والكبار، والشيوخ، والنساءُ إلى بوبات جدار الفصل العنصري الذي يطوق البلدة ككماشة، يعلنون رفضهم له .. مطالبين بإزالته، مشادات كلامية، ومطاردات في أزقة القرية وحاراتها، لتبدأ المعركة الحقيقية فيشتعل سماء البلدة رصاصاً، وغازاً مدمعاً، ربما أدمن المواطنون هناك تلك الحالة فقد نضب الدمعُ وجفت المقل على ما ضاع من أرض..!!

في بداية الثمانينيات من القرن الماضي أقيمت على أرضهم مستوطنة " تسوفيم " التي نهبت أكثر من ألف دونم، ومع بداية العام 2002 م " تم عزل 8600 دونم ومعها ستة آبار ارتوازية " أرض تسمى المروج مزروعة بما لذ وطاب، بيارات وكروم، وزرع ظل شاهداً أن يدي الفلسطيني هي من أبدعت فكان الزرع يشير إلى درب صاحبه.

يحاول الإسرائيليون وعلى شكل نكتة هزيلة، فارغة المضمون، جوفاء..!! تخدير مشاعر الناس بتعديل مسار الجدار ليعيد للبلدة " 800 دونم لكنهم في الوقت نفسه سيدمرون 470 دونم أخرى بعد تعديل مسار الجدار من جديد، لأن عرضه سيكون سبعين متراً " يتلوى كأفعى تلج إلى صحراء خاوية، لذلك فقد أوغلت جرفات الاحتلال باقتلاع أشجار الزيتون الرومي ، هذا عدى عن خلق واقع جديد هي البوبات التي يمارسُ الاحتلال عليها طقوساً من الإذلال ، فالاحتلال يحاول وبكل الطرق أن يمنع المزارعين من فلاحة أرضهم عبر خلق حاجز طبيعي بين الأرض والناس، هم لا يدركون أن هذا التواصل روحاني أزلي، فحتى وان افلحوا مرةً واحدة في ذلك ، فآلاف القلوب مزروعة هناك لن يستطيع كل طغيان الأرض أن يقتلعها من هناك.. هناك حيث الماء والزرع وما تبقى من الروح ..!!

كنت وقبل أيام قد كتبتُ مقالاً عن البلدة نفسها، سألني بعض الكتاب والأصدقاء، لماذا كتبت عن جيوس الآن؟! لم أستغرب السؤال وقلت : بأنني قد زرت البلدة وشاركتُ في جزء من فعالياتها، الأهم من ذلك أن في البلدة حالة نضالية متقدمة يجب أن يقدم كل الدعم والمساندة لها مادياً ومعنوياً، رسمياً وشعبياً، وإذا ما قدم العون بسخاء للبلدة فإن فعالياتها الوطنية ومواطنيها سوف يبدعون في خلق " بلعين " أخرى، - وبلعين بلدة فلسطينية تقع غرب رام الله هي الآن محط أنظار العالم ووسائل الإعلام العالمية لما يقدمه المواطن فيها من استبسال - في البلدة كثير من مقومات الصمود، وكثير من النضوج في الرؤى وسعة الأفق بين الرسمي والشعبي من جهة، والمواطن الذي يشاركُ في صناعة القرار من جهة أخرى، فإقرار وتوجيه ففعاليات البلدة تتخذ وبالتشاور بعد اجتماع عام يتفق فيه على الشكل والمضمون، وهذا الأمر الذي أكسبها الديمومة والاستمرار بهذا الزخم .

في النهاية المواطن والمسؤولون في البلدة لا يفكرون بما يهبط العزيمة وينهكها، إنههم لا يتخيلون مستقبلهم بدون أرض ومع وجود جدار فصل عنصري، عيونهم إلى السماء شاخصةً لرب السماء أن يثبتهم على أرضهم، حناجرهم تصدح بقصائد يرتلونها ترتيلا، فصارت أهازيجهم في أتراحهم وأفراحهم " هنا سوف نبقى.. نحقنُ هذا التراب دماء، لينبتَ لوزاً، ورجالاً، وعشقا، .. هنا باقون نجوع ونعرى، نحب ونشقى، اتخذنا القرار الأخير، هنا سوف نبقى ، فإما نكون .. أو نكون .. وسوف نكون " .. لأنه ما من حل لهم إلا أن يكونوا، وهم على ذلك ثابتون حتى يبزغَ فجر يحملُ بين طياته الحرية والاستقلال ..!!

ليست هناك تعليقات: