الخميس، ديسمبر 18، 2008

الحوار العربي: أسلوب وهويّة معاً

صبحي غندور

قبل 14 عاماً، وتحديداً يوم 18 ديسمبر 1994، بدأت في واشنطن تجربة "مركز الحوار العربي". ورغم إعجاب بعض العرب آنذاك بمشروع تأسيس "مركز الحوار"، فإنهم كانوا حذرين من إمكان تطبيقه عملياً ومن إمكان أن يتحوّل الحوار أو النقاش حول مواضيع جادة إلى خلافاتٍ شخصية بين المشاركين فيه كما هي العادة بمعظم حلقات الحوار العربية.

كان البعض عام 1994 يتساءل: كيف تطمح مبادرة من مجلة "الحوار" الإصلاح بأسلوب التعامل بين العرب في منطقة واشنطن إذا كان أبناء الجالية العربية منقسمين على أنفسهم سياسياً ووطنياً، وأحياناً على أساس أصول مناطقية أو طائفية؟ وكيف تريد "الحوار" حواراً هادئاً بين العرب إذا كان الانقسام في المنطقة العربية قد تحوَّل، خاصة بعد حرب الخليج الثانية في العام 1991، من صراع حكوماتٍ إلى صراعاتٍ أهلية؟!.

هكذا كانت الأجواء المحيطة بإطلاق فكرة تأسيس "مركز الحوار العربي" أواخر عام 1994، بل كان عام 1994 إضافةً لذلك، في صلب مرحلة الاتفاقات مع إسرائيل وبدء الحديث عن "الشرق أوسطية" كبديل للهويّة العربية، والتطبيع مع إسرائيل كبديلٍ عن العلاقات الطبيعية بين العرب أنفسهم.

باختصار، كان الحوار بين العرب وغير العرب نشِطاً وجارياً في كل مجال، بينما الحوار بين العرب أنفسهم مقطوع ومُعطَّل في معظم الأحيان.

لكن هذا الظلام القاتم في العلاقات العربية/العربية أكّد أهمية إشعال الشموع مهما كان حجمها.. وأينما كان مكانها.

والحمد لله، نجحت تجربة "الحوار" في الاختبار، بل أصبحت الآن قيد التقليد في أماكن أخرى عديدة داخل أميركا وخارجها.

أمور كثيرة أدركها المتفاعلون مع تجربة "مركز الحوار" في مسيرة السنوات ال 14 الماضية، وفي ندواتٍ بلغ عددها الآن 726 ندوة، بدايةً في الحوارات العميقة حول مسألة الهويّة ومفاهيم المصطلحات، وحول الثقافة العربية والحضارة الإسلامية، ثمّ حول أوضاع الجاليتين العربية والإسلامية في أميركا وقضايا سياسية واقتصادية كثيرة شملت العلاقات العربية/الأميركية وشؤوناً عربية عامّة إضافة إلى مواضيع تعاملت مع خصوصيات بلدان عربية.

في مسيرة 14 سنة، أقام المشتركون في المركز، حالةً نموذجية لما يحلمون به للمنطقة العربية، من مراعاة للخصوصيات لكن في إطار تكاملي عربي، وبمناخٍ ديمقراطي يصون حرّية الفكر والرأي والقول. فلقد جسَّدت تجربة المركز حالة مختبريَّة لِما هو منشود للعرب جميعاً أينما كانوا.

وإضافة للندوات الدورية الأسبوعية في منطقة واشنطن، يصدر "مركز الحوار" مطبوعة دورية باللغتين العربية والإنجليزية تصل إلى أفراد وجماعات مهمّة داخل أميركا وخارجها. أيضاً، للمركز موقع على الإنترنت فيه توثيق لتجربة "الحوار" ولبعض ندوات المركز والكثير من المواضيع التي تساهم في طرحٍ صحيح للقضايا العربية ولمسألتي العروبة والإسلام.

"مركز الحوار العربي" هو تجربة عربية فريدة غير مسبوقة في أميركا وهو محاولة هادفة وجادّة اعترضتها وتعترضها صعوبات مالية، لكنها تستمرّ وتنمو في مضمونها، وتنتشر آثارها وفوائدها ومعانيها في بقاعٍ كثيرةٍ داخل أميركا وخارجها.

أيضاً، تأسيس مركز الحوار العربي لم يكن منافسة لما هو موجود وقائم في واشنطن من مؤسسات وجمعيات عربية أخرى ذات طابع حركي وسياسي. على العكس، فإنّ وجود "مركز الحوار" كمنتدى فكري/ثقافي أفاد ويفيد هذه المؤسسات كلّها، وشكّل لها رافداً لدعم بشري ومادي ومعنوي، كما وفّر لها منبراً تصل من خلاله إلى بعض الفعاليات العربية.

إنّ تجربة "مركز الحوار العربي" بدأت عام 1994 عكس التيّار الذي كان سائداً آنذاك، تيّار الاستسلام لواقع الشرذمة العربية وتيّار التخلّي عن الهويّة العربية وتيّار التيئيس من الأمَّة ومن شعوبها ومن شبابها..

وبشكلٍ معاكس لكلِّ هذا التيّار كانت "سباحة مركز الحوار" وموضوعاته وأنشطته، والتي كان من ضمنها لقاءات خاصة بالشباب العربي في منطقة واشنطن والتأكيد على الأمل بمساهمتهم في بناء مستقبلٍ عربيٍ أفضل.

بل هكذا هو تاريخ 14 سنة من تجربة "الحوار"، تاريخ سباحةٍ عكس التيّارات السائدة في المنطقة العربية أو في أميركا:

الدعوة للحوار العربي في زمن الصراعات العربية.

الدعوة للعروبة في زمن التخلّي عنها من قبل حكوماتٍ ومعارضات.

الدعوة للهويّة الثقافية العربية في زمن الحديث عن العولمة والشرق أوسطية.

الدعوة لحوار الحضارات وتكاملها في زمن السعي لصدام الشرق والغرب وصراع الحضارات.

الدعوة لنبذ أسلوب العنف والتطرّف في زمن ساده لسنوات حكم التطرّف هنا والتطرّف المضاد هناك.

إنّ حال العرب أينما كانوا (في داخل المنطقة العربية أو في دول المهجر) هو حالٌ واحد: معاناة من غياب العلاقات السليمة بين أبناء الوطن الواحد، وأيضاً بين أبناء الأمّة الواحدة القائمة على عدّة أوطان ممّا أدّى أحياناً إلى الصراع بين هذه الأوطان. والأساس في ذلك كله هو ضعف مفهوم "الهويّة العربية" وعدم الركون إلى أسلوب الحوار لمعالجة الأزمات.

وصحيحٌ أنّ على العرب في الخارج مسؤولية "إصلاح الصورة" المشوّهة عنهم وعن أوطانهم في المجتمعات الغربية التي يعيشون الآن فيها، لكنّ ذلك لا يلغي ضرورة "إصلاح الأصل أولاً"، والعمل على بناء الذات العربية بشكلٍ سليم، فإنّ "فاقد الشيء لا يعطيه"، وأبناء الأمّة العربية في أيّ مكان لديهم الكثير ليعطوه لأنفسهم ولأمَّتهم وللإنسانية جمعاء – كما هي أصول الثقافة العربية ومضمونها الحضاري – لكن العطاء يحتاج إلى أساليب سليمة وآلياتٍ صحيحة ووضوح في الانتماء والهوية. فتعميق الهويّة الثقافية العربية ومضمونها الحضاري النابع من القيم الدينية، أساس لبناء أي دور عربي مستقبلي أفضل في أيِّ مكان.

لقد دعا "مركز الحوار" منذ تأسيسه إلى التكامل بين العرب بدلاً من التفرّق، وإلى صون التراث الحضاري والاعتزاز بالانتماء العروبي بدلاً من الفراغ والضياع الثقافي والروحي.. وانعكست هذه الدعوة على مرِّ السنوات الماضية تأثيراً إيجابياً واضحاً في أكثر من مجال ومع أكثر من شخص ومؤسسة.

وقد أوجد "مركز الحوار" مناخاً حوارياً عربياً في واشنطن يخاطب فعل العقل لا انفعالات العواطف، ويحثّ العرب في كلِّ مكان على نبذ العنف فيما بينهم وعلى اعتماد أسلوب الحوار لحسم خلافاتهم، وإلى تفهّم الرأي العربي الآخر إذا تعذّر التفاهم معه!.

فالحوار العربي أينما كان، وليس فقط من خلال تجربة المركز، هو أمر مهمّ لمسألتين متلازمتين معاً: هويّة للواقع ودور للمستقبل.

فالحوار العربي/العربي، هو حوار بين أبناء ثقافة واحدة لكنّهم ينتمون إلى دولٍ وكيانات متعدّدة. لذلك يصبح الحوار بين العرب مدخلاً لتأكيد الانتماء لأمّةٍ واحدة وإنْ كانت قائمة على دولٍ متعددة. كذلك، بالنسبة للعرب، فإنّ أسلوب الحوار هو قاعدة أساسية مطلوبة لإحياء وبناء مفاهيم ثقافية عربية تضمن وجود الرأي الآخر وحقّه بالتعبير وبالمشاركة في الحياة العامة.

لقد أكّدت تجربة "مركز الحوار العربي" اهتمامها بالشأن الفكري وبضرورة القناعة بأنّ وجود تعدّدية فكرية في أيِّ مجتمع تتطلّب أيضاً تعدّدية سياسية في حياته العامة. فوحدة الانتماء الحضاري، ووحدة الانتماء الثقافي، لا يجب أن تعنيا إطلاقاً وحدة الانتماء الفكري أو الانتماء السياسي ..

في إحدى ندوات المركز، أذكر أني استشهدت بالآية القرآنية الكريمة، التي ربّما قد لا ينتبه البعض لمعناها، ونصّها:

" الذين يستمعونَ القولَ فيتَّبعونَ أحْسَنَه .. أولئكَ الذينَ هداهُمُ الله".

أي أنَّ المهم هو القول نفسه، وليس القائل فقط .. وعلى الإنسان أن يستمع أولاً قبل أن يحكم سلباً أو إيجاباً .. ثم على الإنسان أن يستخدم عقله للتمييز بين الأقوال أو الأفكار قبل أن يتّبعها فلا تُفرض عليه بل يختار أحسنها.. هؤلاء هم الذين هداهم الله .. والإنسان المهتدي هو الذي يجمع بين وضوح الرؤية وحُسن الأسلوب.

ليست هناك تعليقات: