الثلاثاء، يناير 08، 2008

لعبة المتاهات بين الأمن والكتل الاستيطانية والمستوطنات العشوائية


تيسير خالد
عضو اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية
عضو المكتب السياسي للجبهة الديمقراطية


أسابيع قليلة فقط مضت على المؤتمر ، الذي دعا الرئيس الاميركي جورج بوش لحضوره أكثر من أربعين دولة ومؤسسة دولية . دول عربية كثيرة شاركت في المؤتمر بناء على الدعوة الاميركية ، وكذلك فعلت دول من الاتحاد الاوروبي ومن العالم الإسلامي ، يحدوها الرهان على إطلاق عملية سياسية لتسوية الصراع الفلسطيني - الاسرائيلي .
هذه الأسابيع القليلة ، التي تفصلنا عن مؤتمر انابوليس ، شهدت سلسلة من المناورات السياسية وعمليات التصعيد في العمليات العسكرية الاسرائيلية وخاصة في قطاع غزه وفي مدينة نابلس ، هذه العمليات ، التي لا وظيفة لها غير توفير الغطاء السياسي لتهرب حكومة إسرائيل من التزامات ، راهنت الدول والمؤسسات التي شاركت في المؤتمر على تنفيذها باعتبارها مدخلاً لتهيئة الاجواء لمفاوضات تفضي الى تسوية سياسية مع نهاية العام الجاري ، أو تؤسس لها إذا استعصى التوصل الى اتفاق مع نهاية العام ، الذي تنتهي معه ولاية الرئيس الاميركي جورج بوش .
واضح ان الهدف من هذا التصعيد العسكري هو حشر السلطة الفلسطينية ، رئاسة وحكومة في زاوية تبدو فيها على درجة من الضعف والعجز ، تجيز لحكومة اسرائيل كبح عجلة قطار التسوية ، وحتى المفاوضات ، انطلاقاً من الاعتبارات الامنية ، التي اعتادت هذه الحكومة وغيرها من حكومات إسرائيل على التعامل معها كأداة من أدوات التمويه على توجهاتها السياسية الحقيقية .
الى جانب التصعيد العسكري شهدت هذه الأسابيع سلسلة من المناورات السياسية من اجل استدراج الاهتمام الفلسطيني والاقليمي والدولي الى اولويات تشكل بحد ذاتها لعبة خطيرة تتصل بالاستيطان والنشاطات الاستيطانية في الضفة الغربية بهدف دفع الجميع للدخول في لعبة متاهات في الموقف من الكتل الاستيطانية وما يسمى بالمستوطنات العشوائية.
وحتى لا تستدرج الجانب الفلسطيني تحديداً الى سياسة تفقده السيطرة على إدارة ناجحة للصراع مع حكومة إسرائيل ، فان عليه ان يرتب أوضاعه لإدارة الصراع على مستويين : فمن جهة يجب تعزيز سياسة الصمود في وجه الاعتداءات الإسرائيلية وفضح أهدافها الحقيقية ودعوة المجتمع الدولي لممارسة الضغط على حكومة اسرائيل للتوقف عن مواصلة اغلاق ملف العلاقات مع الجانب الفلسطيني على دائرة أمنية دموية ، ومن جهة أخرى تحذير المجتمع الدولي من الدخول في لعبة المتاهات بين الكتل الاستيطانية وما يسمى بالمستوطنات العشوائية ، حتى لا يجد الجانب الفلسطيني نفسه مستغرقاً في أجندة تفاوضية تتحكم اسرائيل في عناوينها وتفاصيلها .
ذلك يعني ان الاستيطان لا يمكن اختصاره بكتل استيطانية كبيرة خلقت واقعاً جديداً على الارض يجب أخذه بعين الاعتبار في أية تسوية للصراع ، كما جاء في رسالة الرئيس الاميركي جورج بوش الى رئيس وزراء اسرائيل السابق ارئيل شارون في نيسان من العام 2004 ، وبمستوطنات عشوائية وبؤر استيطانية على إسرائيل ان تقوم بتفكيكها في إطار ما تسميه بالتنازلات المؤلمة . فالاستيطان ، كتلا استيطانية كبيرة او مستوطنات عشوائية ، سواء بسواء ، هو بحد ذاته خرق صريح لقواعد القانون الدولي ، كما نصت عليها معاهدة لاهاي لعام 1907 ومعاهدة جنيف الرابعة لعام 1949 ، وهو في تناقض وتصادم كاملين مع قرارات كل من مجلس الأمن والجمعية العامة للأمم المتحدة ذات الصلة .
لنتوقف هنا قليلاً مع قواعد القانون الدولي وقرارات الشرعية الدولية لنؤسس لموقف فلسطيني موحد في المفاوضات مع الجانب الاسرائيلي . فقد نصت المادة 46 من معاهدة لاهاي لعام 1907 على ان الدولة المحتلة لا يجور لها ان تصادر الأملاك الخاصة بالمواطنين تحت الاحتلال ، مثلما نصت المادة 56 من المعاهدة نفسها على واجب الدولة المحتلة ان تتعامل مع أملاك البلديات ، أي الأملاك العامة ، مثلما تتعامل مع الممتلكات الخاصة .
ابعد من ذلك وأوضح ، فقد دعت اتفاقية جنيف الرابعة لعام 1949، وهي اتفاقية وقعت عليها دولة اسرائيل ، الدولة المحتلة الى الامتناع عن نقل مواطنيها الى الاراضي الواقعة تحت الاحتلال ، وحظرت في المادة 49 من الاتفاقية على دولة الاحتلال المساس بالملكية الشخصية او الجماعية او ملكية الافراد او ملكية الدولة التابعة لأية سلطة في البلد المحتل .
قواعد القانون الدولي هذه ، كانت حاضرة بوضوح في خمسة قرارات لمجلس الأمن الدولي وفي خمسة عشر قرارا للجمعية العامة للأمم المتحدة تناولت جميعها بالشجب والإدانة ، النشاطات الاستيطانية التي تقوم بها إسرائيل في الأراضي الفلسطينية منذ حزيران 1967 ، مثلما كانت حاضرة في الفتوى التي أصدرتها محكمة العدل الدولية حول جدار الفصل العنصري في تموز من العام 2004 . في قراره رقم 446 لعام 1979 أكد مجلس الأمن الدولي أن الاستيطان ونقل السكان الاسرائيليين الى الاراضي الفلسطينية المحتلة غير شرعي ، وفي قراره رقم 452 لعام 1979 دعا مجلس الأمن الدولي دولة اسرائيل الى وقف نشاطاتها الاستيطانية في القدس مثلما دعا الىعدم الاعتراف بضمها ، وفي قراره رقم 456 لعام 1980 دعا المجلس دولة اسرائيل الى تفكيك المستوطنات التي أقامتها في الاراضي الفلسطينية المحتلة منذ عام 1967 باعتبارها غير شرعية ولا تخلق واقعاً يترتب عليه أية حقوق أو التزامات . أما قرارات الجمعية العامة للأمم المتحدة ، والتي استرشدت جميعها بمبادئ ميثاق الأمم المتحدة وبعدم جواز الاستيلاء على اراضي الغير بالقوة العسكرية واسترشدت كذلك بقرارات مجلس الأمن بما فيها القرار 242 فقد أكدت جميعها على عدم شرعية المستوطنات ودعت دولة إسرائيل الى وقف نشاطاتها الاستيطانية والى تفكيك جميع المستوطنات التي أقامتها في لأراضي الفلسطينية المحتلة منذ حزيران 1967 بما فيها تلك التي أقامتها إسرائيل في القدس .

هل أبدت دولة إسرائيل الحد الأدنى من الاحترام لقواعد القانون الدولي وقرارات الشرعية الدولية في كل ما يتصل بسياستها الاستيطانية . ما يجري على الأرض على امتداد سنوات الاحتلال بما في ذلك منذ التوقيع على اتفاقيات أوسلو يغني عن الإجابة ، بصرف النظر عن الحزب ، الذي تتشكل الحكومة برئاسته . حتى حزب العمل على امتداد السنوات سواء كان شريكاً في الحكم أم كان في موقع المعارضة فقد التزم أن يقدم نفسه باعتباره حزباً لا يقل عن غيره من الأحزاب الصهيونية في تشجيع الاستيطان في الاراضي الفلسطينية وبشكل خاص في الضفة الغربية بما فيها القدس . زعيم الحزب ، الذي يتولى هذه الأيام حقيبة الدفاع في حكومة اولمرت ، كان ولا زال مشجعاً للنشاطات الاستيطانية وداعماً لبناء المستوطنات . في الخطوط العريضة للبرنامج الانتخابي لحزب إسرائيل واحده بزعامة ايهود باراك عام 1999 دافع باراك بحماس عن الاستيطان . وبعد فوزه في تلك الانتخابات بأغلبية واسعة أكد في الخطوط العريضة لبرنامجه الحكومة " أن الاستيطان بكافة أشكاله عمل ذو قيمة اجتماعية وقومية " مثلما أكد أن حكومته سوف " تعمل على تحسين قدرات المستوطنات ومساعدتها للتغلب على الصعاب والتحديات التي تواجهها " .
لم يخيب ايهود باراك آمال المستوطنين ، فقد سار على نهج بنيامين نتنياهو حين أقرت حكومته الموازنة المخصصة للاستيطان كما كانت في حكومة نتنياهو وبكلفة عالية بلغت 1.5 مليار شيكل ( 400 مليون دولار ) توزعت في العام 2000 على عدد من الموازنات المخصصة للوزارات ذات الصلة بالنشاطات الاستيطانية ، مثلما خصصت في موازنة العام 2001 موازنة بمبلغ 1.2 مليار شيكل ( نحو 290 مليون دولار ) لأغراض الاستيطان ، هذا الى جانب مخصصات أخرى غير منظورة رصدتها الحكومة للنشاطات الاستيطانية ، حتى وصلت الموازنات المخصصة لمواصلة النشاطات الاستيطانية على امتداد عامين من حكومة باراك مبالغ تراوحت بين 700-800 مليون دولار ، في وقت كان فيه باراك يتظاهر بالبحث عن حل تفاوضي للصراع مع الجانب الفلسطيني . مساحات واسعة من الأراضي الفلسطينية تمت مصادرتها لفائدة المستوطنات والطرق الالتفافية ، وعشرات العطاءات لبناء آلاف الوحدات السكنية تمت المصادقة عليها في عهد حكومة كان من المفترض وفقاً للاتفاقيات الموقعة ان تنجز مع الجانب الفلسطيني اتفاقاً حول الوضع الدائم في نهاية العام 1999 .
ايهود باراك لم يكتف بهذا كله ، بل تبنى برنامج حكومة نتنياهو في التعامل مع المستوطنات بأفضلية قومية ، حيث تمتعت بهذه الأفضلية نحو 123 مستوطنة ، أي نحو 85 بالمئة من إجمالي عدد المستوطنات في الضفة الغربية والبالغ عددها 145 مستوطنة ، في حين لم يتمتع بامتيازات الأفضلية القومية في عهد حكومة اسحق رابين سوى 39 مستوطنة . سياسة الأفضليات القومية هذه وفرت للمستوطنات مستويات من الدعم والتشجيع غير مسبوقة بدءا من الحصول على منح تبلغ نحو 30 بالمئة من قيمة المشاريع مروراً بتسهيلات قروض تصل نسبتها الى 40 بالمئة من قيمة الاستثمارات وانتهاء بالإعفاءات الضريبية والتعليم المجاني للأطفال الى جانب امتيازات أخرى كثيرة في مجالات التعليم والإسكان والصناعة والزراعة والسياحة ، الأمر الذي وفر فرص التطور والتواصل بين المستوطنات وفرص تشكل أفضل للكتل الاستيطانية .
سياسة حكومة ارئيل شارون كانت الأشد وطأة والأكثر قسوة على الأرض الفلسطينية والمواطن الفلسطيني , فقد ورث وضعاً مريحاً لسياسته الاستيطانية من ايهود باراك ، مكنه من مواصلة مشروعة الاستيطاني دون معارضة تذكر ، وتحديداً من حزب العمل ، حيث لعب زعيمه الجديد آنذاك بنيامين بن اليعازر دوراً تابعاً وملحقاً ودورا برهن على انه لأعجز في إثارة غضب المستوطنين . وقد تجلى ذلك بوضوح في المسرحية الهزلية التي جرت في البؤرة الاستيطانية بات عين . سياسة حكومة شارون في العلاقة مع الجانب الفلسطيني قامت على عدد من الأعمدة من بينها : نفي وجود شريك فلسطيني يمكن التوصل معه الى اتفاق او تسوية سياسية ، تقويض السلطة وإعادة احتلال المدن والقرى والمخيمات في ما أصبح يعرف " بحرب سلامة المستوطنات " ، وبناء جدار الفصل العنصري لمحاصرة الفلسطينيين في معازل ، هذا الى جانب تحسين المستوطنات وتطوير الكتل الاستيطانية وتبيض ما يسمى بالمستوطنات العشوائية او البؤر الاستيطانية . والتي دعا شارون من موقعه في المعارضة في عهد حكومة باراك زعران التلال الى بنائها لمد نفوذ المستوطنات مسافات أبعد إلى خارج حدود مخططاتها الهيكلية لمزيد من السيطرة على الأرض الفلسطينية .
في ظل " حرب سلامة المستوطنات " وانتشار الحواجز العسكرية في طول الضفة الغربية وعرضها نمت المستوطنات وانتشرت البؤر الاستيطانية بكثافة على أطرافها وتحولت الى قضية قائمة بذاتها في ملف العلاقات الفلسطينية – الاسرائيلية وتدخلات وتقارير وتوصيات عديد الجهات الاسرائيلية والدولية بدءا بتقرير لجنة ميتشيل لتقصي الحقائق في نيسان 2001 مروراً بخارطة طريق اللجنة الرباعية في آذار 2003 وانتهاء بتقرير المحامية الاسرائيلية طاليا ساسون ، والتي تدعو جميعها دون جدوى حكومة إسرائيل الى تفكيكها . في إدارتها للصراع مع الجانب الفلسطيني قدمت حكومة شارون نفسها باعتبارها حكومة استيطان بامتياز ، تارة من خلال الحرب ، حرب سلامة المستوطنات ، وتارة ثانية من خلال تخصيص موازنات حكومية ضخمة لأغراض الاستيطان وأعمال بناء الجدار ، تجاوزت في ميزانية العام 2003 حدود 1.9 مليار شيكل كنفقات مكشوفة توزعت على ما يسمى بدائرة أراضي إسرائيل ووزارات الدفاع والصناعة والتجارة والإسكان والزراعة والأديان والداخلية والبنية التحتية فضلاً عن وزارة المالية . واحتلت المستوطنات ، كما البؤر الاستيطانية الأولوية في جدول المخصصات للسلطات المحلية بفارق مذهل لصالح المستوطنات . هذا ما تعكسه بيانات وزارة الداخلية ، التي جاء فيها للعام الأول من حكومة ارئيل شارون ان حصة الفرد في مستوطنات شمال البحر الميت كانت في حدود 14410 شيكل مقارنة بحصة الفرد من هذه المخصصات في كرمئيل في الجليل والتي لم تتجاوز 1190 شيكل فقط . وهكذا نما الاستيطان غولاً يهدد حاضرنا ومستقبلنا .

الآن ونحن على أبواب مفاوضات التسوية ، التي دعا لها مؤتمر انابوليس ، فان ألغاماً كثيرة بدأت تتفجر في طريق هذه المفاوضات قبل ان تبدأ ، الغام مصادرات الاراضي في القدس ومحيطها ، وألغام عطاءات بناء وحدات سكنية جديدة وتنفيذ عطاءات حديدة وأخرى قديمة في في محيط مطار قلنديا وفي جبل ابو غنيم ومعاليه ادوميم وأرئيل وميخولا – الاغوار ، وألغام شوارع الفصل العنصري كشارع رقم 45 ، الذي يعزل القدس تماماً عن محيطها الفلسطيني في الضفة الغربية وتعتمده اسرائيل كجسر ارتباط واتصال بين محافظتي الخليل وبيت لحم وبين مدينة أريحا ، مثلما تتفجر في طريقها ألغام البؤر الاستيطانية فضلاً عن الألغام السياسية الأمنية التي نعيشها في قطاع غزه وعدد من مدن الضفة الغربية وخاصة مدينة نابلس .
هذه الألغام هي صناعة إسرائيلية يجب نزع فتيلها حتى تنطلق جهود التسوية والمفاوضات . ندرك طبعاً هنا ان ايهود اولمرت يمارس مع الجانب الفلسطيني ومع المجتمع الدولي والإدارة الاميركية اللعبة نفسها ، التي كان يمارسها بنيامين نتنياهو ومن بعده ايهود باراك ، ويختبئ وراء الضرورات الامنية المزعومة من جهة ووراء الضرورات الائتلافية للحفاظ على وحدة حكومته من جهة أخرى ، ويسعى من اجل مقايضة الأمن بما يسمى بالمستوطنات العشوائية دون الاقتراب من المستوطنات ومن الكتل الاستيطانية . ذلك يناسب حكام اسرائيل ولكنه لا يناسب الشعب الفلسطيني ، لأنه سوف يدخلنا من جديد في لعبة المتاهات بين الكتل الاستيطانية وما يسمى بالمستوطنات العشوائية او البؤر الاستيطانية وفي لعبة وعود غير مقدسة ، تماماً كلعبة المواعيد غير المقدسة ، التي اختبرناها ودفعنا ثمنها مضاعفة عدد سكان المستوطنات في الضفة الغربية على امتداد السنوات في ظل اتفاقيات اوسلو .

واذا كان لنا من نصيحة نقدمها للادارة الأميركية وللرئيس جورج بوش فانها باختصار : لا تدخلونا في لعبة الضرورات الأمنية المزعومة ولا في لعبة الضرورات الائتلافية لحكومة ايهود اولمرت وبالقطع لا تدخلونا في لعبة المتاهات بين الكتل الاستيطانية والمستوطنات العشوائية ، لأنها اقصر الطرق الى الفوضى وانعدام الأمن والعودة مجددا الى المفاوضات العبثية ، وخير ما عليكم ان تفعلوه هذه الأيام بعد انابوليس هو سحب الرسالة ، التي بعثتم بها الى رئيس الحكومة الإسرائيلة السابق ارئيل شارون في نيسان من العام 2004 ، حتى تنطلق المفاوضات نحو تسوية شاملة متوازنة لهذا الصراع الدامي .

ليست هناك تعليقات: