الاثنين، نوفمبر 12، 2007

درس باكستاني للمدافعين العرب عن دولة القانون

نقولا ناصر

(
كانت الأنظمة العسكرية الباكستانية دائما حليفا للاستبداد العربي ومن الطبيعي أن يكون رجال القانون والإعلام العرب في الخندق الآخر للتضامن مع نظرائهم في باكستان)

(إن مشاهد القمع العسكري لرموز القضاء والإعلام الباكستانيين ينبغي أن تدفع نظراءهم العرب إلى التواري عن الأنظار خجلا من تقاعسهم عن القيام بدور مماثل)


إن المعركة السياسية التي يخوضها القضاء والقضاة والمحامون الباكستانيون دفاعا عن دستور بلادهم وعن سيادة القانون ضد اغتصاب العسكر لكل القوانين من أجل احتكار السلطة هي معركة تلامس مباشرة صلب الطموح الشعبي العربي إلى التحرر والحريات المدنية والسياسية ، وإذا كانت الأنظمة العسكرية الباكستانية دائما حليفا للاستبداد العربي بصوره كافة ، الجمهورية والملكية والأنظمة الهجينة من كليهما ، فإن من الطبيعي أن يكون رجال القانون والإعلام العرب في الخندق الآخر للتضامن مع نظرائهم في باكستان .

إن مشاهد القمع العسكري لرموز القضاء والإعلام الباكستانيين ، حيث يقوم الجنود بسحق احتجاجات القضاة والمحامين والصحفيين وناشطي المجتمع المدني بالهراوات المكهربة وقنابل الغاز المسيل للدموع والضرب المبرح والتنكيل بهم علنا في الأماكن العامة ثم اعتقالهم بطريقة مهينة حيث زاد عدد معتقليهم على أربعة آلاف حتى الآن ، حسب تقارير وكالات الأنباء ، مما يفقد مؤسسة القضاء ورجالها هيبة القانون التي ينبغي أن تكون لهم ، هي مشاهد نضالية سوف يسجلها تاريخهم لهم دفاعا عن دولة الدستور والقانون والنظام ضد الدكتاتورية العسكرية والاستبداد السياسي ، مشاهد سوف تقود بالتأكيد في الأمد الطويل إلى تعزيز هيبتهم واحترام الجماهير لهم والثقة في دورهم للدفاع عن حقوق المواطنين ، لكنها أيضا مشاهد ينبغي أن تدفع نظراءهم العرب إلى التواري عن الأنظار خجلا من تقاعسهم عن القيام بدور مماثل .

وإنه لأمر لافت للنظر ومثير للاستنكار أن تحجم أو تتأخر نقابات وجمعيات المحامين والصحفيين والقضاة العرب عن التضامن مع زملائهم الباكستانيين خصوصا إذا كانت حجتهم في ذلك هي عدم التدخل في الشؤون الداخلية للبلدان الأخرى أو لأنهم يخشون حكومات بلدانهم التي استفادت أو ما زالت تستفيد من خدمات خبراء القمع الأمني والعسكري الباكستانيين مما يجعل أعذارهم في هذه الحالة أقبح من ذنوب .

ودون إغفال الدور التاريخي المشرف للقضاة والمحامين المصريين في الدفاع عن السلطة الثالثة ودورها فإن أية أدوار مماثلة لنظرائهم العرب ما زالت ممتنعة وما زال افتقادها يفقد مؤسساتهم أي دور مستقل يبدد صورتها لدى الرأي العام كمؤسسات تابعة للسلطات التنفيذية الحكومية وأداة من أدوات استبدادها وقمعها .

لقد سوغ الرئيس الباكستاني بيرفيز مشرف إعلان حالة الطوارئ بحجة "الحفاظ على استقلال القضاء" ومنع تدخله في السياسة ، وهذه حجة مقيتة ممجوجة يكررها الاستبداد السياسي والدكتاتوريات العسكرية العربية ويعممونها على قطاعات مجتمعية أخرى مثل موظفي القطاع العام وطلاب الجامعات ، الخ . لكن السلطة القضائية تبقى الملاذ الأخير للشعوب خصوصا في العالم الثالث ، أو "النامي" كما يحب المتفائلون تسميته ، حيث تمكنت السلطة التنفيذية من "تفصيل" سلطات "تشريعية" على مقاسها تزور إرادة المجتمع سياسيا لأنها "تمثل" الحاكم أكثر مما تمثل المحكوم . فإذا لم ينشط القضاء بقضاته ومحاميه سياسيا لحماية استقلاله ودوره من يبقي للدفاع عنه غير الشعب نفسه وبقية من ضمير وطني نادرة تخلى فيها مستبدون عسكريون عن احتكارهم للسلطة طواعية في حالات شاذة لا يمكن القياس عليها في العالم "النامي" ومنه العربي .

لقد كان وضع رئيسة الوزراء السابقة بينظير بوتو قيد الإقامة الجبرية ثم الإسراع في الإفراج عنها تداركا من الحاكم العسكري الباكستاني لاحتمال أن يقود اعتقالها إلى إجماع الشعب الباكستاني على رفض أحكام الطوارئ العرفية التي نجحت في الجمع بين من كان يستحيل الجمع بينهم من أقصى يمين "طالبان باكستان" إلى أقصى اليسار في الحزب الشيوعي مرورا بأكثر من 32 تنظيما سياسيا ومهنيا للإسلاميين واليساريين والوسطيين والتقدميين والديموقراطيين والليبراليين ونقابات المحامين والعمال والفلاحين والكتاب والمثقفين وناشطي حقوق الإنسان التي تداعت جميعها إلى توحيد صفوفها فيما يشبه "جبهة شعبية" ضد الأحكام العرفية ، يقودها جمع من أفاضل قضاة باكستان ومحاميها .

إن تضامن القضاة والمحامين والإعلاميين العرب مع نظرائهم الباكستانيين هو تضامن مع الذات حيث حالات الطوارئ سائدة في المجتمعات العربية ، معلنة أو مموهة غير معلنة ، وحيث الدساتير ، حتى تلك التي لم يكن للشعوب رأي في وضعها ، يجري تجميدها وتعديلها لكي تساير الأمزجة السياسية للاستبداد السياسي الحاكم ولكي تخوله التفرد بممارسة السلطات كافة دون أي مراقبة أو مساءلة تشريعية أو قضائية أو إعلامية ، في مرحلة تاريخية فاصلة يكاد يكون فيها وجود الأمة بل ووجود أنظمة التجزئة التي انشطرت إليها في مهب الأطماع الأجنبية الخبيرة في رسم الخرائط السياسية وفي إعادة رسمها .

لقد كانت الأنظمة العسكرية الباكستانية دائما حليفا للاستبداد العربي ووكيلا و"مقاولا من الباطن" للهيمنة الأميركية في دعم هذا الاستبداد ومن الطبيعي أن يكون رجال القانون والإعلام العرب ، وتياراتهم الرئيسية في المعارضة ، في الخندق الآخر للتضامن مع "الجبهة الشعبية" التي تتطور في مواجهة الحاكم العرفي الباكستاني .

ومما لا شك فيه أن انتصار القضاء الباكستاني في معركته الراهنة من أجل دولة الدستور والقانون والنظام سيكون مثالا يحتذى إقليميا وقدوة لنشر الديموقراطية في الشرق الأوسط العربي الإسلامي أفضل بكثير من البروباغندا الأميركية التي تتخذ من شعار نشر الديموقراطية كاسحة ألغام ثقافية وسياسية تمهد الطريق أمام تعزيز هيمنتها الإقليمية بالاحتلال العسكري ودعم النظم المستبدة في منطقة ظمأى للتحرر السياسي كما للحريات السياسية والمدنية ، ومما لا شك فيه أيضا أن انتصاره سيكون أيضا ضمانة ضد الإرهاب والتطرف أفضل بكثير من "الحرب العالمية" الأميركية على الإرهاب التي فرخت إرهابا أكثر مما قضت على إرهابيين .

الحالة الفلسطينية مثالا

ولا يسع المراقب تفادي عقد المقارنة بين الصمت المدوي الذي أطبق على رجال القانون ، قضاة ومحامين ، والإعلاميين الفلسطينيين حيال إعلان حالة الطوارئ في شهر حزيران / يونيو الماضي وبين المعركة الضارية التي يخوضها نظراؤهم الباكستانيون احتجاجا على إعلان حالة الطوارئ في باكستان ، من حيث المبدأ في الأقل ، وبغض النظر عن الفارق في مرونة أو شدة قبضة "المُعلن" في الحالتين .

وإذا كان التاريخ النضالي للقضاء الفلسطيني ، مؤسسة وأفرادا ، في مقاومة الاحتلال الإسرائيلي وفي الدفاع عن القضية الوطنية ينفي عن مؤسسة القضاء بمحاميها وقضاتها أي شك يمكن أن يطال جرأتها ، فإن صمتها حيال إعلان حالة طوارئ تعتبر تاريخية ، لأنها ستدخل التاريخ الوطني باعتبارها الأولى من نوعها على الإطلاق ، هو صمت سوف يدخل التاريخ الوطني بدوره باعتباره أول امتحان لم تنجح فيه هذه المؤسسة في الدفاع عن دورها ، خصوصا وأن المسوغات و"الحيثيات" القانونية والسياسية لإعلان حالة الطوارئ ضعيفة هشة يأتيها الشك من أكثر من جانب . كما أن هذا الصمت يصبح مدويا عندما يصبح عنوانا لموقفي نقابتي المحامين والصحفيين .

إن العمليات التي تنفذها طالبان والقاعدة داخل باكستان قد خلقت وضعا أمنيا أخرج مناطق كبيرة من البلاد عن سلطة الحكومة المركزية وزج الجيش في حرب صغرى لإعادة سيطرة الحكومة على هذه المناطق مما وفر للدكتاتورية العسكرية "ساتر الدخان" الكافي لإعلان حالة الطوارئ كمهرب وحيد لبقاء هذه الدكتاتورية ينقذها من محاصرة مؤسسة القضاء لها حصارا خيرها بين إعادة الحياة الديموقراطية وحكم القانون والنظام في البلاد وبين الدخول في مواجهة مع المؤسسة القضائية باعتبارها الحامي الطبيعي لدولة القانون والنظام والديموقراطية .

في الثامن من الشهر الجاري استهلت القاضية في المحكمة العليا الفدرالية ورئيسة لجنة حقوق الإنسان الباكستانية أسماء جانجير نداء إلى نقابات المحامين في العالم للتضامن مع نظرائهم في باكستان بالقول إنه: "بينما يظل الإرهابيون طليقي السراح ويواصلون احتلال المزيد من مساحة باكستان يتعرض كبار المحامين للتعذيب" . وأعلن الإتحاد الفدرالي للصحفيين الباكستانيين يوم الجمعة الماضي في بيان له أن أحكام الطوارئ لم تفرض لمكافحة التطرف بل استهدفت القضاء والإعلام والمحامين والمجتمع المدني .

فماذا استهدف إعلان حالة الطوارئ الفلسطيني ؟ للإجابة على هذا السؤال لا بد بداية من تسجيل مفارقتين ، الأولى أن الولايات المتحدة وبريطانيا وغيرهما من "الديموقراطيات" الغربية قد عارضت إعلان حالة الطوارئ في باكستان وهددت بقطع معوناتها عنها لكنها حرضت على إعلان حالة الطوارئ في فلسطين بل فكت الحصار المالي عن السلطة الفلسطينية لدعم حالة الطوارئ التي أعلنتها !

والمفارقة الثانية أن الأسباب الرئيسية المعلنة في الحالتين تكاد تتطابق ، خصوصا حجة الحفاظ على وحدة الوطن ومنع انقسامه وذريعة الحفاظ على شرعية الرئاسة . فقد قال الرئيس بيرفيز مشرف للباكستانيين في خطاب متلفز في الثالث من الشهر الجاري إن الهدف من إعلان حالة الطوارئ هو منع انقسام البلاد وبعد يومين أبلغ الدبلوماسيين الأجانب إنه اضطر للتدخل للحفاظ على شرعية الرئاسة بعد أن أعاد البرلمان انتخابه رئيسا في الشهر السابق. وفي الحالتين تكاد تكون النتائج عكسية .

كما لا بد من تسجيل ثلاث ملاحظات لافتة للنظر أولها أن الرئاسة الفلسطينية التي أعلنت الطوارئ قد أعلنتها عمليا في المحافظات الشمالية بالضفة الغربية فقط حيث لا توجد مسوغات واقعية لإعلانها إذ لا تطال سلطتها المحافظات الجنوبية في قطاع غزة حيث المسوغات أقوى لو كانت لها السلطة هناك ، وثانيها أن هناك حالة طوارئ غير معلنة في القطاع تستدعي بدورها دورا للمؤسسة القضائية ، وثالثها أن السلطة الفلسطينية لم تعلن حالة الطوارئ عندما أعادت قوات الاحتلال الإسرائيلي احتلال المناطق المخصصة لها في ربيع عام 2002 بينما تزامن إعلانها مع إعادة التنسيق الأمني مع هذه القوات قبل انسحابها إلى مواقعها قبل إعادة الاحتلال .

إن افتقاد حالة الطوارئ الفلسطينية لأي مسوغات "أمنية" وطنية لإعلانها في الضفة يثير كثيرا من الأسئلة الجادة عن الأسباب "السياسية" لها وعن العلاقة بينها وبين المضامين والمرجعيات والأهداف النهائية للمفاوضات الفلسطينية – الأميركية والإسرائيلية الجارية والانتقادات الوطنية الواسعة لها خشية أن تتجاوز الخطوط الحمراء حتى ل"لمشروع الوطني" كما تعلنه قيادة منظمة التحرير الفلسطينية ، مما يعطي مصداقية للانتقادات القائلة إن الهدف الحقيقي لإعلان حالة الطوارئ هو تغييب الرقابة الشعبية والتشريعية والقضائية على المفاوضات الجارية .

إن الاعتقالات والمداهمات التي تجري خارج القانون في الضفة الغربية وفي قطاع غزة قادت إلى احتجاجات فردية خجولة في عمومها وبالرغم من جرأة بعضها فإن هذه الاحتجاجات ما زالت حتى الآن قاصرة عن التحول إلى عمل سياسي تمثيلي تقوده النقابات والتنظيمات التي تتصدر تمثيل المحامين والقضاة والإعلاميين والصحفيين الفلسطينيين .

إن صمت أهل القانون في الحالة الفلسطينية يحرمهم من أي أهلية للانضمام إلى حملة التضامن العالمية مع نظرائهم الباكستانيين وهم حتى لو فكروا ، أو فكر بعضهم ، بالمبادرة إلى أي شكل من أشكال هذا التضامن فإنهم سوف يترددون حرجا خشية الطعن في مصداقيتهم لأن من يصمت على تجميد الدستور والسلطتين التشريعية والقضائية بإعلان حالة الطوارئ في بلده لا يحق له أن يحتج على حالة مماثلة في بلد آخر .

*كاتب عربي من فلسطين
nicolanasser@yahoo.com

ليست هناك تعليقات: