الجمعة، نوفمبر 23، 2007

الغذاء الفكري


خالص جلبي
من ملأ بيته بكتب السحرة تحول إلى ساحر.
وعندما أدخل بيت أحدهم أعرف في أي فترة يعيش؟
فإن كانت الكتب مزينة الأعقاب بالذهب، أعرف أنه يعيش أيام السلطان يعقوب أبو الصبر المستمسك بالله متجمداً في مكعب الزمن عام 1498م.
و يخيل للبعض أنه إذا حفظ القرآن عن ظهر قلب لاحت له المقاصد الإلهية، وهو زعم من يحفظ بعضا من أسماء أدوية في صيدلية عملاقة، وهو محيط بعلم الطب الصيدلة معاً.
وكان محمد عبده حينما ينقل له خبر حفظ أحدهم للقرآن كان يعقب فيقول: زادت نسخ القرآن نسخة.
والقرآن لم يشر بآية واحدة لحفظه ولكنه أشار في عشرات الآيات إلى تدبر معانيه، ولكن المسلمين حريصين على فتح معاهد تحفيظ القرآن بأسماء طغاة حريصين على تحويل العقل إلى متحف شمع من طراز مدام دي توسو.
وعندما ضرب الطاعون لندن عام 1665م قضى على سبعين ألفا من أصل 400 ألف من السكان؛ فلم يعرف الناس كيف جاء ولا كيف ذهب.
وكان أهل المريض يبكون عليه ويقبلونه؛ فيصابون بعده بأيام ويلحقونه إلى عالم أنوبيس السفلي في زورق شارون الكئيب؟.
والذي كشف المرض كان (يرسن) وبيده ميكروسكوب.
ويعالج اليوم ببضعة غرامات من الصادات الحيوية.
ليس العبرة أن يقرأ الناس مائة كتاب أو ألف كتاب بل ماذا يقرأ؟
فمن يقرأ في الفكر القومي يخرج متعصبا مغلق الاتجاهات الستة في كل الأبعاد الفراغية الهندسية؟
ومن يقرا في فقه الحصفكي والاسفراييني والأحوذي، يخرج من فقهاء عصر السلطان قلاوون من أيام المماليك البرجية.
ومن يعتاد التصفيق في المظاهرات في عبادة الأصنام أحياء وأمواتا يشبه من يواظب على (حضرة) الصوفية والقفز فيها.
وشيخ الطريقة الصوفية يبايع إلى الأبد مثل حكام العالم العربي.
فهذه من تلك.
ونوعية الغذاء الفكري هامة جدا في إنتاج نموذج الشخص؛ فمن يواظب على قراءة الكتاب الأحمر يعبد (ماوتسي دونغ).
ومن يقرأ في (الكتاب الأخضر) يعتقد جازماً أنه وصل إلى الحل النهائي لكل مشاكل الجنس البشري.
ومن يقرأ (الكتاب الأسود) لـ ستيفان كورتييه يكتشف أن الشيوعيين ذبحوا مائتي مليون من الأنام، ولكنها حسب قانون لينين ليست بشيء والمهم تحول الباقي إلى شيوعيين ولو بالكذب؟
ومن يقرأ (أعمال الكنيسة) يوقن بمركب الأقانيم، ويعتقد جازما أن الله انشطر إلى ثلاثة بدون أن ينشطر، وأن الله ديمقراطي في مجلس شورى، يضم ثلاث أصوات، مقابل التوحيد الاستبدادي لأله واحد، لا يسأل عما يفعل وهم يسألون؟ فيما تعجز الكنيسة والبابا بندكيت السابع عشر عن شرحه؟
ومن يواظب على قراءة كتاب (المراجعات) يعتقد أن الشيعة هم أهل الحقيقة الواحدة بدون ريب، وأن الصحابة قاموا بانقلاب عسكري لحرمان علي من سدة الحكم.
ولو حكم علي لجاء من بعده الحسن وحاسن وحسونة، وتحول نظام الحكم إلى ملكي وراثي أسرع إلى الفساد من المرض الأموي؟
ولكن الكثير من الشيعة يعتقدون جازمين أن دم آل البيت فيه كريات مناعية خاصة ضد الخطأ والنقد، في تعالي على الحقائق الكونية؟
وإذا اعتاد الجسم على جرعات كبيرة من مادة النحاس يتعرض لتشمع الكبد، كما أن نقص الحديد ولو كان بكميات زهيدة تعرض صاحبها لفقر الدم، وان يجرجر رجليه ضعفا وسقما ...
سنة الله في خلقه.
لذا كان مهماً أن يكون الغذاء الفكري منوعا وبكميات كافية.
وهو قانون ينطبق على النبات والأرض والحيوان والإنسان والمجتمع فكثرة السماد تحرق التربة..
ونقص الماء يميت كل الكائنات.
وتجرع الكحول بكميات عالية يصيب المعدة بالقرحة والكبد بالتشمع.
ومن أخذ جرعة هيروئين مرة واحدة أصيب بالإدمان.
ويرى (برتراند راسل) الفيلسوف البريطاني في كتابه (السلطان) أن أفضل طريقة لتربية الأطفال هي عرض الأفكار المتناقضة أمام عقولهم ، والسماع من أشد المتطرفين المتجاذبين ومن الجانبين، وتدريب عقولهم على استيعاب مسافات الفروق.
وصلاة الجمعة هذه الأيام تم اغتصابها من ثلاث مجموعات: وعاظ السلاطين وجماعات المتشددين وفرق التقليد.
فأما (الوعاظ) فمهمتهم أن يقولوا أن السلطان هو الرازق الوهاب بيده الوظيفة والحبس.
وأما (المتشددون) فهم يوقدون حروباً لا تنطفئ نيرانها، ضد أكثرية أهل الأرض أن يزلزل الله أقدامهم، ويقضي على عائلاتهم، ويجعلهم غنيمة للمسلمين؟!!
وهو خطاب يتبرأ الله منه والملائكة والناس أجمعين.
وأما (جماعة التقليد) فهم ينصحون الناس بالصدق، في الوقت الذي تدرس كتب التاريخ في المدارس الابتدائية كل أنواع الكذب؛ أن الزعيم انشق القمر حين ولدته أمه...
والأفضل للمدرس ـ حرصاً على قواعد السلامة ـ أن يدمدم بحديث السحرة؛ فيتكلم كلاماً لا يوقظ نائماً ولا يزعج مستيقظاً.
والأفضل للخطيب الحديث عن فواكه الجنة، في الوقت الذي يضبح المواطن كالحصان عدوا طول النهار، كي يؤمن قوت عياله فوق حافة المجاعة.
ويبقى بين هذا وذاك من نجا من دوائر القتل الثلاثة؛ فتكلم بالحق، ووعى العصر، ودعا بالمغفرة والرحمة والتفاهم بين العباد، ولكن مثله مثل المجذوم، ويجب عزله بأشد من مرضى الإيدز والسارز وحمى الطيور.
كيف يمكن أن نغذي الفكر إذن ؟
المشكلة ذات ثلاث عقد، كل عقدة أعلى من أعلى سور في سجون استخبارات العالم العربي؛ فالعروبة وقفت أمام الانفتاح على اللغات العالمية، والتشدد المجنون أغلق العقول أمام الانفتاح على الثقافات الكافرة بزعمهم. وفي أتون الاستبداد السياسي تبقى قائمة الكتب المحرومة والممنوعة لانهاية لها.
وبذلك يكبل عقل المواطن بثلاث سلاسل، كل واحدة منها ذرعها سبعون ذراعا فاسلكوه؟!
راجع مريض مرعوب طبيبه وهو يسأله بحرقة؟ يا دكتور: هل مرضي خطير؟ هل تتوقع لي أن أعيش؟
أجابه الطبيب بهدوء: نعم.... ولكن لا أنصحك بذلك.
والمواطن العربي اليوم يعيش من أجل أن لا يعيش. خارج إحداثيات التاريخ والجغرافيا، موسوم بالذنب على السرة، أنه من المتهمين، يوم ولد ويوم يموت ويوم يبعث حيا؟

ليست هناك تعليقات: