السبت، نوفمبر 17، 2007

المغالطة مع سبق الاصرار - "الخدمة المدنية" نموذجا


نبيل عودة

استمعت مساء الأثنين ( 07 / 11 / 12 ) الى حوار مفتوح عبر صوت اسرائيل باللغة العبرية ، حول مشروع " الخدمة المدنية " للعرب واليهود المتدينين في اسرائيل ، المعفيين من الخدمة العسكرية ، وتركز الحوار اساسا حول الخدمة المدنية للعرب في اسرائيل ، بسبب الضجة التي اثارتها الأحزاب العربية ، وكان آخرها المؤتمر القطري الذي عقد في حيفا ، وشارك فيه ما يقارب 250 شخصا ، وهو أقل بالنصف تقريبا ، من عدد المتجندين في الشهرين الأخيرين للخدمة المدنية من الشباب العرب.
شارك في الحوار البروفسور رمزي سليمان ( من جامعة حيفا ) والسيدة عايدة جابر المحررة المسؤولة لصحيفة البانوراما ، وعرسان ياسين رئيس بلدية شفاعمرو ، والدكتور ران كوهن ، الذي كان عضوا في الكنيست ووزيرا سابقا وقائدا سابقا في حزب العمل ، ومقدمة البرنامج التي فاتني اسمها.
تركز الحوار حول الخدمة المدنية للعرب .
بلا شك ان بروفسور رمزي سليمان والسيدة عايدة جابر عبرا بوضوح عن موقفيهما ، وعن عمق سياسة التمييز القومي ضد الأقلية العربية في اسرائيل ، وعن المخاوف من مشروع طرحته السلطة، وامتنع المسؤولون العرب عن المشاركة في اللجنة التي أعدته ، ورفضوه مسبقا قبل ان يصاغ المشروع ، وقبل ان يفهم أحد أهدافه ودوافعه. . وجرى ربطه منذ اليوم الأول بفكر " المؤامرة" لدفع العرب الى الخدمة العسكرية المباشرة أو غير المباشرة تحت ستار الخدمة المدنية. وطرحت المخاوف العربية على الهوية القومية للشباب العرب ، من الخدمة في اطار المشروع . واعطى بروفسور رمزي نموذجا عن الشباب العرب الدروز الذين يعاني بعضهم من ضعف في هويتهم القومية ، بسبب الخدمة العسكرية المفروضة عليهم . وانه رغم الزامهم بالخدمة العسكرية ، لم يحصلوا على شيء ( المعنى المساواة مع المجتمع اليهودي أو حقوق أكثر من سائر ابناء الأقلية العربية الذين لا تشملهم الخدمة العسكرية ) .
وطرح بروفسور رمزي موقف الجماهير العربية الرافض للربط بين " الحقوق والواجبات " ، حيث تبرر أوساط يهودية التمييز ضد العرب بعدم اداء العرب واجباتهم تجاه الدولة ، والقصد اساسا " الخدمة العسكرية " متجاهلين ان الاعفاء من الخدمة لم يكن قرارا عربيا .. انما قرار السلطة ، وبالتالي لا يحق لها ممارسة التمييز وتبريره .
بروفسور رمزي والسيدة عايدة جابر طرحا بوضوح الموقف الرسمي للأحزاب العربية ولجنة المتابعة العربية العليا ، التابعة الأمينة لاملاءات الأحزاب.. وهي هيئة اسمها أكبر من قيمتها ومن دورها. والذي يظن انها تمثل المواقف الصحيحة للشارع العربي ، يقع في خطأ ، وهي على الأقل لا تمثل مواقف اكثر من ثلث المواطنين العرب في اسرائيل ، الذين صوتوا للأحزاب العربية ، والثلث على الأقل أعطوا أصواتهم للأحزاب الصهيونية ، والثلث امتنع لأسباب عديدة.وتعاني اللجنة من أزمة في عملها وقراراتها ومكانتها ، هي بنفس الوقت التعبير عن أزمة الأحزاب العربية .
مقابل صوتي بروفسور رمزي سليمان وعايدة جابر ، الواضحين في دفاعهما عن المواقف الرسمية للأحزاب العربية ، برز صوت عرسان ياسين الشاذ سياسيا . وشذوذه السياسي ليس بدفاعه عن مشروع الخدمة المدنية ، انما بموقفة السياسي الاستسلامي للسلطة ، ومبايعتها على بياض ، وبرز بأنه "كاثوليكي أكثر من البابا " في تبرير كل سياسات السلطة ، حتى قبل ان يستوعب فحوى السؤال ، وكيف لا وهو رجل الليكود الذي فشلت أحزابنا " الوطنية والثورية " في تشكيل ائتلاف يمنع اعادة انتخابة لرئاسة المدينة العربية الثانية بأهميتها في اسرائيل .
كان واضحا ان عرسان ياسين لا يعي من مشروع الخدمة المدنية الا كونه اقتراحا سلطويا يجب تنفيذه بدون تفكير . تماما كما تعارض أحزابنا العربية كل اقتراح ايجابي لصالح المواطنين العرب اذا جاء من السلطة.. ترفضه أيضا بلا تفكير ، وقد سبق وعرضت نماذجا لهذه المواقف في مقالات سابقة يمكن العودة اليها على مواقع الانترنت.
نموذج عرسان ياسين لا شيء جديد فيه . ، وهو يلحق الضرر الكبير بنضال الجماهير العربية من أجل المساواة في الحقوق ، ويعطي انطباعا معيبا وسيئا للمجتمع العربي في اسرائيل. انطباعا عن مجتمع متخلف في مواقفه ، في قياداته ، في أشخاصه ، في ثقافته وفي فهمه لواقعه.
الدكتور ران كوهن وشريكته مقدمة البرنامج ، طرحا موضوع الخدمة المدنية بسطحية صحفية ، لأن ما يهمهما كما يبدو هو الضجيج العربي والخلاف داخل الشارع العربي ، والتصريحات النارية لبعض الشخصيات العربية التي وصفت ( في كلماتها في مؤتمر حيفا ) المتطوعين للخدمة المدنية ب "خونة ومصابين بالجرب "، رغم انهم يخدمون في المدارس العربية وفي المستشفيات الأهلية في الناصرة ،وفي مؤسسات عربية اجتماعية وثقافية مختلفة . هذا ما لفت انتباه كوهن وزميلته وليس أي أمر آخر. وغابت المضامين من الطروحات ، وتملكني شعور سيء اننا أمام تكرار ممل لما يروجه الاعلام الاسرئيلي الرسمي الذي يشكك بعقلانية المواقف السياسية للأقلية العربية وشعاراتها وبالتالي مطالبها. واننا ننفعل بسرعة ونقوم بالدور المتوقع منا ، مؤكدين النظرة الانفعالية السائدة عن سياساتنا ، ومن المؤسف اننا لم نطور خطابا قادرا على لفت انتباه الشارع اليهودي لقضاينا الملحة ، وقادرا على تجنيد دعم يهودي ، نحن بأمس الحاجة اليه اذا كنا جادين في طرحنا لشعارات المساواة ، التطور والسلام . ومن يظن ان نهج الرفض مع سبق الاصرار ، لكل الطروحات السياسية والاجتماعية والاقتصادية للسلطة ،يعتبر بطولة قومية .. هو ببساطة ينسف القاعدة الصلبة التي ننطلق منها في المطالبة بالمساواة الكاملة. او انه يرى اقامته في اسرائيل مؤقتة ، ويحلم بقصور عربية عند ملوك الطوائف .
بين فينة وأخرى تطرح موضوعة الزام العرب في اسرائيل بالخدمة العسكرية الالزامية. ولكن هذا الطرح يجيء من أوساط تستغل طرحها للتحريض على الجماهير العربية وتبرير التمييز ضدها ، ولو طرح الموضوع للمصادقة علية لكانوا أول المعارضين.
الموقف الرسمي للمؤسسات الأمنية في اسرائيل ، ولحكومات اسرائيل المتعاقبة ، من دمج العرب في الخدمة العسكرية لم يتغير ولا يبدو انه قابل للتغيير . فهم غير معنيين اطلاقا بفرض الخدمة العسكرية على المواطنين العرب ،صحيح هناك الاف المتطوعين العرب في الجيش ، ولكنه موضوع آخر، وحديث آخر ...
القانون في نصه لا يعفي العرب من الخدمة العسكرية ، الاعفاء جاء بأمر خاص من وزير الدفاع ورئيس الحكومة الأول دافيد بن غوريون في السنوات الاولى للدولة . وراء الاعفاء موقف سياسي وأمني ، وهذا سيبقى ما ظل النزاع الفلسطيني والعربي من جهة واسرائيل من الجهة الأخرى قائما. لذلك كل محاولة للقول ان الخدمة المدنية نافذة للخدمة العسكرية لا يعرف ما يقول. والخدمة العسكرية مرفوضة بقوة ،وباجماع، ليس من العرب في اسرائيل فقط ، انما من السلطة ومن أجهزة الأمن أيضا.. لان تبعيتها واسقاطاتها الأمنية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية بالغة الخطورة على الدولة نفسها، من رؤيتهم ..
من هنا وبتأخر كبير في اسرائيل ، جاءت فكرة " الخدمة المدنية " ، والتي تبنتها الوزارات الاجتماعية ، الى جانب مكتب رئيس الحكومة، وهدفها ليس المواطنون العرب المعفيون من الخدمة العسكرية تحديدا ، بل الشباب اليهود ، وخاصة المتدينون المتشددون ( الحراديم ) واؤلئك من المستحيل ( نتيجة عقيدتهم الايمانية) جرهم لخدمة فيها أي مضمون عسكري ، ومن مراجعتي لمواد المشروع ، لم أجد أي امكانية لفتح نافذة تدفع مؤدي الخدمة المدنية الى خدمة تحمل ملامحا عسكرية. التوصيات تقول بوضوح انه : " على حكومة اسرائيل ان تفتح المجال للخدمة المدنية والوطنية امام كل مواطن وساكن في اسرائيل ، الذين لا يستدعون للخدمة الأمنية ، او معفيون من الخدمة الأمنية ".وجاء في التوصيات أيضا : "ان الخدمة المدنية يجب ان تاخذ بعين الاعتبار الاحتياجات الخاصة المختلفة للمواطنين المختلفين في المجتمع الاسرائيلي ".
مثلا في الولايات المتحدة هناك جسم مستقل تماما للخدمة المدنية ، ولكن بسبب المبنى القانوني في اسرائيل ، لا توجد امكانية لانشاء سلطة مستقلة حسب الطريقة الأمريكية ، ورأت اللجنة التي أعدت المشروع في اسرائيل ، ان البديل لذلك في اسرائيل ان يخضع موضوع الخدمة المدنية لمكتب رئيس الحكومة والوزارات الاجتماعية.
وتعرف اللجنة المعدة للمشروع بانه عطاء اجتماعي لزيادة الترابط الاجتماعي . وتقول اللجنة بوضوح ان : " الخدمة المدنية لأبناء وبنات الوسط العربي هو بديل للخدمة العسكرية ، تفتح امام الشباب العرب مجال العطاء لأهلهم ومجتمعهم ودولتهم التي يعيشون فيها".
بالطبع هناك تفاصيل هامة كثيرة تدعم رأيي سأعود اليها بمقالات أخرى.
واضح ان الواقع العربي في اسرئيل ليس سهلا ، وكثير من ألأمور مختلطة . والذي يعتقد انه يمكن الفصل بين الاقتصاد في اسرائيل بفروعه الصناعية والزراعية والعلمية ، وبين الأمن والجيش ، هو واهم وقليل عقل.
رفضنا مع سبق الاصرار ، الذي صار سياسة حزبية تتسابق اليها الأحزاب ، يعني ان نرفض العمل في المؤسسات الاقتصادية وفي المستشفيات وفي التعليم . وان نرفض أيضا المساواة في اقرار نسب عادلة لصالحنا في التوظيف في خدمات الدولة والشركات الحكومية وبنك اسرائيل .وان نوقف مطالبتنا بتطوير مناطق صناعية في الوسط العربي بالشراكة مع الدولة أو مستثمرين يهود .
لمصلحة من تطوير الوسط العربي اقتصاديا ليلحق بالوسط اليهودي ؟
بالطبع أولا للمجتمع العربي في اسرائيل ، وثانيا لزيادة قوة الدولة الاقتصادية … وبقية المعادلة معروفة!!
المجتمع العربي يشكل أيضا قوة شرائية ، تعود بالأرباح الكبيرة على الشركات اليهودية ، وبعضها يعمل في المجال العسكري أيضا.ولكنها تخدم قوة اسرائيل ونموها الاقتصادي وقدراتها بالتالي على تخصيص ميزانيات عسكرية وأمنية ضخمة ، فهل نمتنع عن شراء المنتجات الحيوية ، وغير الحيوية التي ينتجها الاقتصاد الاسرائيلي ، او التي تستوردها الشركات الاسرائيلية ، حتى لا نتهم بالمساهمة في تقوية اسرائيل عسكريا ؟؟
سيقول البعض عن كلامي انه مبالغة . ولكنه لا يختلف اطلاقا عن مبررات رفض الخدمة المدنية.
لا أقبل الفكرة التي طرحت في الحوار الاذاعي ، بأن المشروع هو أسرلة ، من نفس المنطلق المذكور اعلاه بأن مساهمتنا في الآقتصاد الاسرائيلي انتاجا وشراء هو أسرلة أيضا.
هل الحل هو الانعزال ؟
ربما يجب ان نسافر الى عمان لشراء ملابسنا ، والى القاهرة لشراء البيض والخبز ، والى سوريا لشراء العطور والجوارب، والى لبنان لشراء الفساتين ، والى العراق لشراء عجوة العيد ، وربما علينا ان نشتري بالونات اوكسجين مضغوط من جماهيرية القذافي العظمى لنحافظ على انفاسنا الطاهرة من الأسرلة؟ وان نذهب لندرس في مدارس " تورا بورا" حتى لا تصاب هويتنا القومية بالضعف ؟؟
أعزائي ، أقول بوضوح .. ودون أي التباس ، واعرف ان ما أقوله يبدو وقعه قاسيا على بعض الآذان ، نحن مجتمع مدني عربي في اسرائيل . لهذا الواقع تبعيات بعضها صعب، وبعضها نقاتل للحصول عليه ، ومع ذلك من الخطأ الكبير وضع حجة الحقوق والواجبات ضمن رفضنا للخدمة المدنية ، حقا الحقوق غير محددة بالواجبات ، غير المطلوبة منا .
حصولنا على المساواة هو حق قانوني كامل اكدته أيضا المحكمة العليا بوضوح في قضية " قعدان ضد كتسير" حيث جاء بقرار المحكمة :" مساواة في الحقوق بين كل الناس في اسرائيل ، مهما كان دينهم ومهما كانت قوميتهم - هو نافذ من قيم دولة اسرائيل " .
الخدمة المدنية المقترحة هي خدمة شبه تطوعية ، تعود بالفائدة على المتطوع ، وعلى أهله ومجتمعه. الفرق انها خدمة منظمة مقابل حقوق هامة جدا وتسهيلات على المدى القريب والبعيد في مجالات مختلفة أهمها التعليم . وهو تطوع للشاب في مجتمعة ولصالح مجتمعة وينمي اندماج المتطوع بمجتمعه وبهويته القومية والثقافية .
شبعنا فشلا من سياسة اللاتفكير ، ومواقف مع سبق الاصرار ، والأقوال القاطعة !!

نبيل عودة – كاتب ، ناقد واعلامي
nabiloudeh@gmail.com

ليست هناك تعليقات: