السبت، نوفمبر 10، 2007

حذار لما بعد الحرب و بعد بعد الحرب !!!

رضوان عبد الله
تمهيد :
"كان السكان المدنيون في لبنان وشمال إسرائيل الخاسر الأكبر في دوامة العنف هذه التي لا طائل تحتها والتي مضى عليها الآن شهر كامل بالضبط ... والمفروض أن تصان أرواح المدنيين وفي هذا النـزاع لا يحصل ذلك."جان إيغلاند ، مساعد الأمين العام للأمم المتحدة للشؤون الإنسانية. 10 آب 2006
مقدمة
مع بداية اليوم الثاني عشر من تموز 2006 بدأت الحرب عاشرة ، و التي تعتبرها بعض وسائل الاعلام الحرب السادسة ، و لكن ضمن التأريخ العربي الحديث و تبعا للحروب العربية ـ الاسرائيلية المتعاقبة نستطيع ان نعتبرها الحرب العاشرة وفقا للتسلسل التاريخي التالي :
1948 الحرب الاولى و حدوث نكبة فلسطين .
1952 العدوان الثلاثي على مصر .
1967 العدوان الاسرائيلي على سوريا و الاردن و مصر و احتلال اجزاء من الدول الثلاثة و سقوط كامل لمدينة القدس عاصمة فلسطين .
1972 العدوان الاسرائيلي على منطقة العرقوب في لبنان .
1978 العدوان الاسرائيلي على لبنان و احتلال شريط من الاراضي اللبنانية ، حوالي ثلث جنوب لبنان ، على طول الحدود مع فلسطين المحتلة .
1981 العدوان الاسرائيلي على لبنان و تدمير للجسور في جنوب لبنان .
1982 الاجتياح الاسرائيلي للبنان و احتلال العاصمة العربية الثانية بيروت بعد سقوط القدس .
1993 العدوان الاسرائيلي على لبنان بحجة منع هجمات حزب الله .
1996 العدوان الاسرائيلي على لبنان و الذي نتج عنه مجزرة قانا ، باستشهاد اكثر من مئة لبناني ما بين رجل و امرأة و طفل ، بقصف موقع اختبأ فيه المدنيون اللبنانيون من القصف و استهدفوا بالطائرات الصهيونية .
اما الحرب العاشرة و التي جرت فيها مواجهة عسكرية كبرى لآكثر من ثلاثة و ثلاثين يوما امتدت ما بين 12 تموز و14 آب بين حزب الله و"إسرائيل" في أعقاب أسر جنديين إسرائيليين وقتل آخرين على يد المقاومة الاسلامية اللبنانية المتمثلة بحزب الله في غارة جريئة للحزب عبر الحدود الفاصلة بين فلسطين المحتلة ولبنان.
وقد شنت "إسرائيل" هجمات على جميع الاراضي اللبنانية براً وبحراً وجواً ، فاغتالت اكثر من 1400 مدني منهم ما يزيد عن 30 % من الاطفال ، و أطلق حزب الله ما يربو عن الاربعة آلاف من الصواريخ المتنوعة المدى على شمال "إسرائيل" ، طالت و لآول مرة بتاريخ الصراع العربي الصهيوني مدنا فلسطينية محتلة في الداخل الفلسطيني المحتل مثل حيفا و الناصرة و بيسان ، و كما قال أمين عام حزب الله السيد حسن نصرالله " ما بعد حيفا و ما بعد بعد حيفا " ، فقتل نتيجة هذه الحرب ما يزيد عن مئة صهيوني بين مدني و عسكري ، و جرح اكثر من1500 آخرين خلال شهر واحد فقط و بالاعترافات الاسرائيلية نفسها ، و هذه تعتبر نسبة عالية اذا ما قورنت بالخسائر الاسرائيلية السابقة في حروب الكيان الصهيوني المغتصب مع العرب خلال حوالي ستين عاما مضوا ، كما تم تهجير مئات الآلاف من المحتلين بين مستوطن و محتل إسرائيلي ، فيما سجل لدى هيئات الاغاثة في لبنان نزوح اكثر من مليون مدني لبناني و فلسطيني باتجاه شمال الليطاني وصولا الى طرابلس و الداخل السوري هربا من هول القصف العشوائي الصهيوني للتجمعات المدنية في القرى و المدن و المخيمات في لبنان حيث كان جيش الاحتلال المعتدي ينتقم من المدنيين لرد الاعتبار لنفسه و لقيادته المهزومة عسكريا و معنويا نتيجة الصمود المشرف للمقاومة اللبنانية الوطنية و الاسلامية الباسلة .
ويلخص تقرير موجز صادر عن منظمة العفو الدولية ، بالمعلومات الأولية المتوافرة الموثقة لديها ، الدمار الهائل الذي لحق بالبنية التحتية المدنية في لبنان خلال النـزاع . ويستند إلى معلومات مباشرة استُقيت من بعثة ميدانية زارت لبنان ؛ ومقابلات أجريت مع العشرات من ضحايا الهجمات ؛ وبيانات رسمية وتقارير صحفية ومناقشات مع الأمم المتحدة والجيش الإسرائيلي ومسؤولي الحكومة اللبنانية وأحاديث جرت مع المجموعات غير الحكومية الإسرائيلية واللبنانية.
الا ان التقرير الموجز يغطي بأي درجة من التفصيل الانعكاسات الأوسع لحملة القصف ، و لا يجري للأسف الشديد ، تقييماً لمدى تأثيرها على حقوق الإنسان ، بما في ذلك انتهاكات الحقوق في الحياة أو الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية مثل الحق في الغذاء والصحة والسكن ، ولا يتناول التأثير الاقتصادي الأبعد مدى والتهجير الهائل داخلياً وعبر الحدود. كما أنه لا يتناول الهجمات التي شنها حزب الله على "إسرائيل" وتأثيرها على المجتمع الاسرائيلي الهش لذا فانه يسلط الضوء على جانب واحد من النـزاع ، و يشدد على الحاجة لإجراء تحقيق دولي عاجل وشامل في إدارة العمليات من جانب كلا الطرفين واضعا و بكل اسف الضحية بمستوى الجلاد .
فمنذ اندلاع النـزاع، بعثت منظمة العفو الدولية بمندوبين إلى "إسرائيل" و لبنان على السواء ووجهت مناشدات علنية إلى الحكومة الإسرائيلية وحزب الله على السواء للتقيد بمبادئ القانون الإنساني الدولي. وقام أعضاء منظمة العفو الدولية وأنصارها حول العالم بحملة لوقف إطلاق النار ودعوا إلى فتح ممر آمن لمرور المدنيين المحاصرين وحثوا كلا من "إسرائيل" ولبنان على الموافقة على إجراء تحقيق من جانب هيئة مستقلة وحيادية في نمط الهجمات التي شنتها "إسرائيل" وحزب الله على السواء .
تدمير متعمد أم "أضرار جانبية"؟
خلال ما يزيد على أربعة أسابيع من القصف البري والجوي للبنان من جانب القوات الإسرائيلية المعتدية ، أُصيبت البنية الأساسية للبنان بدمار على نطاق لا يمكن وصفه إلا بالكارثي و هذا ما دعا برئيس وزراء لبنان في مؤتمر صحفي بثته وسائل الاعلام العربية و العالمية ان يعلن لبنان دولة منكوبة ، بكل ما لهذه الكلمة من معنى كارثي و انساني ... إذ دكت القوات الإسرائيلية المباني وسوَّتها بالأرض وحولت أحياء بأكملها إلى ركام وحولت القرى والبلدات إلى مدن أشباح، مع هروب سكانها من القصف. ونُسفت الطرق الرئيسية والجسور ومحطات الوقود وتناثرت حطاماً. وقُتلت عائلات بأكملها في الضربات الجوية على منازلها أو سياراتها أثناء هروبها من الاعتداءات الجوية على قراها. وظل عشرات الأشخاص مدفونين تحت أنقاض منازلهم طوال أسابيع ، فيما مُنع العاملون في الصليب الأحمر وغيرهم من عمال الإنقاذ من الدخول إلى المناطق بسبب استمرار الضربات الإسرائيلية. وواجه مئات الآلاف من اللبنانيين الذين فروا من القصف خطر الذخائر غير المنفجرة فيما يتوجهون إلى ديارهم بعد وقف النار ، و بعد سبعة و خمسين مجزرة ارتكبتها يد الاجرام الصهيونية الغاشمة و سجلتها وسائل الاعلام اللبنانية و العربية و منظمات حقوق الانسان .
و حسب تقرير منظمة العفو الدولية نفسه ( فقد شن سلاح الجو الإسرائيلي ما يزيد على 7000 غارة جوية على حوالي 7000 هدف في لبنان بين 12 يوليو/تموز و14 أغسطس/آب، بينما شنت البحرية الإسرائيلية 2500 عملية قصف إضافية....... ورغم اتساع نطاق الهجمات، إلا أنها ركزت بشكل خاص على مناطق معينة. وإضافة إلى الخسائر البشرية المباشرة - والتي تُقدَّر بأكثر من 1183 قتيلاً، كان ثلثهم من الأطفال، و4054 جريحاً وتهجير 970,000 لبناني - أُصيبت البنية التحتية اللبنانية بأضرار فادحة....) . وتشير تقديرات الحكومة اللبنانية ( إلى أن 31 "نقطة حيوية" ـ مثل المطارات والموانئ البحرية ومحطات معالجة المياه والمجاري والمرافق الكهربائية ـ تعرضت لتدمير شامل أو جزئي ، شأنها شأن ما لا يقل عن 80 جسراً و94 طريقاً ، كما أُصيبت أكثر من 25 محطة وقود ونحو 900 مؤسسة تجارية. ويتجاوز عدد العقارات السكنية والمكاتب والمتاجر التي دمرت كلياً 30,000. وتعرض مستشفيان حكوميان - في بنت جبيل وميس الجبل - للتدمير الكامل في الهجمات الإسرائيلية وأُصيبت ثلاثة مستشفيات أخرى بأضرار جسيمة في كل من بعلبك و جبشيت و تبنين . وقال فضل شلق رئيس مجلس الإنماء والإعمار في البلاد في 16 آب إن "قيمة الأضرار التي وقعت تصل إلى 3,5 مليار دولار أمريكي": مليارا دولار للأبنية و1,5 مليار دولار للبنية التحتية مثل الجسور والطرقات ومحطات الطاقة. وأظهرت دراسة ميدانية أعدها المجلس استناداً إلى عمليات المعاينة الميدانية في وسط وشمال لبنان والمكالمات الهاتفية التي تلقاها المهندسون وموظفو البلديات في الجنوب، أن شبكة الطرق تعرضت لأكبر قدر من الأضرار ، حيث تم تدمير 120 جسراً (وهذا رقم أعلى كثيراً من ذلك الذي ذكرته الحكومة). وقال فضل شلق إن استبدال الجسر الذي يربط جبل لبنان بسهل البقاع فوق نهر سلفي على الطريق المؤدية إلى دمشق يكلف نحو 65 مليون دولار أمريكي. "وهو جسر جميل يرتكز على أعمدة يبلغ ارتفاعها 70 متراً، وأحد الجسور الفريدة من نوعها في الشرق الأوسط بأسره. فلماذا يدمرون مثل هذا الجسر؟" على حد قوله. "كان بإمكانهم قصف بدايته ونهايته ووقف حركة المرور. لكنهم أمعنوا في قصف هذا الجسر عدة مرات."
وتشير قائمة الحكومة اللبنانية للطرق التي لحقت بها أضرار حتى 31 يوليو/تموز إلى أن القصف الإسرائيلي المتكرر عطل قرابة 100 طريق، حيث دُمر زهاء 200,000 متر مربع من الطرق تدميراً كاملاً. ووفقاً لملف الحقائق الصادر عن مكتب تنسيق الشؤون الإنسانية التابع للأمم المتحدة في 16 آب، فقد جرى تدمير 15000 منـزل مدني - بيوت وشقق ، و هذا ما اكده الامين العام لحزب الله في حديث تلفزيوني مسجل بثته قناة المنار نهاية الحرب . و وفقاً لليونيفل ، ففي 15 آب كانت نسبة 80 بالمائة من منازل المدنيين في قرية الطيبة مدمرة ، و50 بالمائة في قريتي مركبا والقنطرة، و30 بالمائة في ميس الجبل و20 بالمائة في حولا و15 بالمائة في طلوسة. وفي اليوم التالي ، ذكرت اليونيفل أن 80 بالمائة من المنازل المدنية في قرية الغندورية قد دُمرت و60 بالمائة في قرية زبقين و50 بالمائة في جبل البطم والبياضة و30 بالمائة في بيت ليف و25 بالمائة في كفرا.
وفي بلد يقارب عدد سكانه عن أربعة ملايين نسمة ، خرج أكثر من 25 بالمئة منهم إلى الشوارع كمهجرين . والتجأ حوالي 500,000 منهم إلى بيـروت وحدها، حيث افترش العديد منهم الأرض في الحدائق والأماكن العامة، بدون ماء ولا مرافق للاغتسال. وذكر مندوبو منظمة العفو الدولية في جنوب لبنان ( أنه في قرية بعد قرية في شتى أنحاء جنوب لبنان كان النمط متشابهاً : الشوارع، وبخاصة الشوارع الرئيسية تخللتها الحفر التي أحدثتها قذائف المدفعية على امتدادها . وفي بعض الحالات ، ظهرت آثار القنابل العنقودية. واستُهدفت المنازل بهجمات شُنت بواسطة الصواريخ الموجهة التي تتسم بالدقة وتعرضت لتدمير شامل أو جزئي ، نتيجة لذلك. واستهدفت المباني التجارية ، مثل محلات السوبر ماركت أو محلات المواد الغذائية ومحطات خدمة السيارات ومحطات الوقود ، غالباً بذخائر موجهة دقيقة وقذائف مدفعية تسببت باندلاع الحرائق وتدمير محتوياتها ....).
ومع انقطاع الكهرباء وعدم وصول المؤن الغذائية وغيرها من الإمدادات إلى القرى ، لعب تدمير محلات السوبر ماركت ومحطات الوقود دوراً حاسماً في إجبار السكان المحليين على النـزوح و ذلك بسبب نقص المواد التموينية و الغذائية الضرورية و المحروقات اللازمة الذي من خلاله يستطيع السكان التزود في المياه بواسطة مضخات الآبار الجوفية ، لأن مضخات المياه تحتاج إلى كهرباء أو مولدات تتغذى بالوقود.... وقد قدَّرت الحكومة اللبنانية تكلفة الأضرار التي لحقت بمرافق المياه بأكثر من 70 مليون دولار اعتباراً من 8 آب.وتشمل مرافق المياه المتضررة والمدمرة أربع آبار في فخر الدين ، فضلاً عن الأنابيب الممتدة بين محطة فخر الدين ووادي الراشد. وتعرضت صهاريج التخزين في منطقة صيدا وبنت جبيل والوزاني للضرر أو التدمير. ودُمرت محطة ضخ في منطقة بعلبك- الأسيرة ، فضلاً عن أنبوب المياه بين سبعة والدلبي. وفي منطقة الليطاني، أُصيبت قناة القاسمية والأنبوب الممتد من جون إلى الأولي . فيما تركت الغارات الجوية الإسرائيلية التي شنت في الأسبوع المنتهي يومي 12 و13 آب، قبيل دخول وقف إطلاق النار حيز النفاذ، مدينتي صيدا وصور بدون كهرباء. وتُقدر تكلفة الأضرار التي لحقت بقطاع الكهرباء بحوالي 208 ملايين دولار أمريكي .
و كانت الطائرات و البوارج الإسرائيلية قد قصفت محطة كهرباء الجية التي تبعد حوالي 25 كيلومتراً جنوب بيـروت وصهاريج الوقود فيها في 13 تموز ومرة أخرى في 15 تموز. وغطت النيران التي اندلعت جراء ذلك ، والتي ظلت مشتعلة طوال ثلاثة أسابيع ، المناطق المحيطة بغبار أبيض ناعم من الخرسانة المطحونة وملأت الجو بسخام أسود. وإضافة إلى ذلك، تسبب ذلك الهجوم بتسرب 15000 طن من الوقود الثقيل إلى البحر. ولوثت بقعة الزيت أكثر من 150 كيلومتراً من الخط الساحلي اللبناني، وانتشرت شمالاً إلى المياه السورية. ووصفها برنامج البيئة التابع للأمم المتحدة بأنها واحدة من أسوأ الكوارث البيئية التي شهدتها المنطقة. وتُقدَّر تكلفة التنظيف الشامل بحوالي 150 مليون دولار ويستغرق العمل سنة كاملة. و قال ستافروس ديماس المفوض الأوروبي المكلف بجهود احتواء الضرر إن "التسرب النفطي الأخير قبالة الساحل اللبناني يشكل كارثة بيئية وقد يؤثر على موارد الرزق والصحة ومستقبل لبنان والدول المحيطة به". و وفقاً للمنظمة غير الحكومية البيئية اللبنانية غرينلاين : "فإن صهاريج الوقود أطلقت سحابة من الهيدروكربونات العطرية المتعددة والديوكسين ومواد دقائقية وكلها يمكن أن تسبب السرطان ومشاكل في جهاز التنفس ومشاكل هرمونية".
وقال أتشيم ستاينر، نائب الأمن العام للأمم المتحدة والمدير التنفيذي لبرنامج البيئة التابع للأمم المتحدة "إنها ... حقيقة محزنة أن تكون البيئة - التي تبرز فيها بشكل صارخ البقعة النفطية والخط الساحلي المتضرر والمسوَّد - ضحية أيضاً مع ما لها من انعكاسات على مصادر الرزق وصحة الإنسان والتنمية الاقتصادية والأنظمة البيئية ومصائد الأسماك والسياحة والحياة البرية النادرة والمعرضة لخطر الفناء." ولم يتم بعد تقييم الضرر الذي لحق بقطاعين فتيين من الاقتصاد اللبناني - هما السياحة التي كان من المتوقع قبل النـزاع أن تحقق 12 بالمائة من إجمالي الناتج المحلي للأمة هذا العام والصيد التجاري للأسماك.
وأدى قصف المحولات الكهربائية مثل ذلك الذي أُصيب في صيدا في 12 آب إلى انبعاث ثنائي الفنيل المكلور المتعدد في الهواء. وما زال لبنان يستخدم محولات تتضمن أجزاء صنعت من هذه المادة بالرغم من وجود حظر دولي على استخدامها وحذرت غرينبيس من أن ثنائي الفنيل المكلور المتعدد هو عبارة "عن مادة كيماوية متراكمة حيوياً وثابتة، لذا عندما تتنشقها تبقى في جسمك وتسبب السرطان". كذلك أدى قصف المصانع التي تصنع منتجات مثل الزجاج والمواد الغذائية والبلاستيك (اللدائن) إلى انبعاث هذه المواد الكيماوية والكلورين في الجو في المناطق الوسطى من لبنان، ويحتمل أن تكون أثرت على مليوني شخص.
ماذا على الصعيد السياسي ؟
أصر الناطقون باسم الحكومة الإسرائيلية على أنهم كانوا يستهدفون مواقع حزب الله ومرافق إسناده وأن الأضرار التي لحقت بالبنية التحتية المدنية كانت عرضية أو نجمت عن استخدام حزب الله للسكان المدنيين " كدروع بشرية" حسب ادعاء القادة العسكريين الااسرائيليين . بيد أن نمط ونطاق الهجمات ، فضلاً عن عدد الإصابات التي وقعت في صفوف المدنيين ومقدار الأضرار التي لحقت بالممتلكات ، تجعل من هذا التبرير كلاماً أجوف. وتوحي الأدلة بقوة بأن التدمير الواسع للمرافق العامة وشبكات الطاقة ومنازل المدنيين والصناعات كان متعمداً وجزءاً لا يتجزأ من استراتيجية عسكرية ، وليس مجرد "أضرار جانبية" أو أضرار عرضية لحقت بالمدنيين أو الممتلكات المدنية نتيجة لاستهداف الأهداف العسكرية.
ويبدو أن التصريحات التي أدلى بها المسؤولون العسكريون الإسرائيليون تؤكد أن تدمير البنية التحتية كان بالفعل هدفاً للحملة العسكرية. ففي 13 تموز، بعيد بدء الضربات الجوية ، هدد الجنرال دان حالوتس رئيس أركان الجيش الإسرائيلي ( أن كل بيـروت يمكن أن تُشمل ضمن الأهداف إذا استمرت صواريخ حزب الله في ضرب شمال إسرائيل ) ، و اعلن صراحة ان " لا شيء في مأمن (بلبنان) ". وبعد ثلاثة أيام، وفقاً لصحيفة جيروزلم بوست، هدد أحد كبار ضباط الجيش الإسرائيلي بأن (إسرائيل قد تدمر محطات الطاقة اللبنانية إذا أطلق حزب الله صواريخ بعيدة المدى على منشآت استراتيجية في شمال إسرائيل....) .
وفي 24 يوليو/تموز، وفي مؤتمر صحفي عقده أحد كبار ضباط سلاح الجو الإسرائيلي، قال للمراسلين ( إن رئيس أركان جيش الدفاع الإسرائيلي أمر العسكريين بتدمير 10 مبانٍ في بيـروت مقابل كل صاروخ كاتيوشا يضرب حيفا...) . ووفقاً لصحيفة نيويورك تايمز، قال رئيس أركان جيش الدفاع الإسرائيلي إن الضربات الجوية تستهدف مواصلة الضغط على المسؤولين اللبنانيين، وإرسال رسالة إلى الحكومة اللبنانية بأنها يجب أن تتحمل مسؤولية أفعال حزب الله....
ويظهرالتدمير واسع النطاق للشقق والمنازل ومرافق الكهرباء والماء والطرقات والجسور والمصانع والمرافئ ، إضافة إلى عدة تصريحات أدلى بها المسؤولون الإسرائيليون، بوجود سياسة لمعاقبة كل من الحكومة اللبنانية والسكان المدنيين في مسعى لحملهم على الانقلاب على حزب الله. ولم تتراجع الهجمات الإسرائيلية ولم يبدُ أن نمط الهجمات يتغير، حتى عندما بات واضحاً أن ضحايا القصف كانوا بأغلبيتهم من المدنيين، وهذا ما حصل منذ الأيام الأولى للنـزاع .
ورغم الخسائر الفادحة التي كان تكبدها جيشه الا ان وزير الدفاع الاسرائيلي عمير بيرتس قال "بأنه لا يمكن لإسرائيل أن توافق على وقف فوري لإطلاق النار في لبنان لان المتطرفين سيرفعون رؤوسهم مجددا في مثل هذه الحالة ويعود الوضع في المنطقة إلى سابق عهده في غضون بضعة أشهر" . و اضاف بيرتس خلال خطابه أمام الكنيست الإسرائيلي ظهر اليوم الذي ارتكب فيه الجيش الاسرائيلي المجزرة المخيفة في قرية قانا في الجنوب اللبناني التي راح ضحيتها اكثر من 60 شهيدًا معظمهم من الأطفال "أن إسرائيل وافقت على فرض قيود على عمليات سلاح الجو في لبنان لمدة ثمان وأربعين ساعة كلفتة إنسانية بعد حادث مقتل المدنيين اللبنانيين في قرية قانا غير أن الجيش سيوسع نطاق عملياته ضد حزب الله ". الا انه استدرك بالقول : "ممنوع الموافقة على وقف لإطلاق النار نحن ننوي أن ننتصر". وزعم بيرتس "أن الشعب الإسرائيلي وجيشه يريدون تغيير الواقع في الشرق الأوسط ، ويريدون إنهاء التهديد عن الجبهة الشمالية".
من ناحيته فقد قال وزير العدل الإسرائيلي حاييم رامون "إن تعليق إسرائيل ضرباتها الجوية في لبنان لمدة 48 ساعة لا يعني "انتهاء الحرب" ضد حزب الله. وصرح رامون لإذاعة الجيش الإسرائيلي أن "تعليق نشاطاتنا الجوية لا يعني بأي شكل من الأشكال انتهاء الحرب بالعكس،هذا القرار سيتيح لنا كسب هذه الحرب وتخفيف الضغوط الدولية". وتعرضت "إسرائيل" لانتقادات دولية حادة بسبب ارتكابها مجزرة في بلدة قانا جنوب لبنان أسفرت عن مقتل العشرات معظمهم من الأطفال . وأكدت متحدثة باسم الجيش الإسرائيلي " أن إسرائيل علقت وبشكل فوري ضرباتها الجوية على لبنان لمدة 48 ساعة لكنها تحتفظ لنفسها بحق الاستمرار في مهاجمة مجموعات مسلحة محتملة لحزب الله تستعد لإطلاق صواريخ على شمال إسرائيل".
من جهة اخرى ، و في رد اولي على التصريحات الاسرائيلية ، دعا الرئيس اللبناني أميل لحود "إسرائيل" إلى وقف عملياتها و الانسحاب إلى الخط الأزرق معبرا عن امله في انه سيتم بعد ذلك و في أسرع وقت ممكن بحث كل المواضيع حتى تنتهي القضية اللبنانية محملا في نفس الوقت الولايات المتحدة المسؤولية عما يجري في لبنان قائلا " إن ما يحدث هو خطة أمريكية محضرة مسبقا تنفذها إسرائيل " . و قد رفض الرئيس اللبناني أميل لحود موافقة بلاده على نشر قوات متعددة الجنسيات في الأراضي اللبنانية معبرا عن دعمه " لتعزيز قوات الطوارئ الدولية الموجودة حاليا على الحدود "، رافضا "... أي قرارات تصدر عن مجلس الأمن الدولي تملي على لبنان شروط إسرائيل... ". وهدد لحود " بدخول الجيش اللبناني في المعركة إذا ما دخلت قوات برية إسرائيلية إلى لبنان مؤكدا انه لا يمكن التخلي مرحليا عن المقاومة اللبنانية ونزع سلاحها !".
و على الصعيد الدولي ايضا فان اللبنانيون ، ومن خلال الحكومة ، أجمعوا على الوثيقة التي قدمها الرئيس السنيورة إلى قمة روما ، والتي تكشف عن الرؤية اللبنانية للحل ، وبذلك قطعوا الطريق على أي محاولة للعب على التناقضات بين القوى اللبنانية. و ظهر ما يجري في لبنان من قصف وتدمير وقتل للابرياء دون السماح بوقف إطلاق النار يدل على حجم المشكلة ، وتعقيداتها، ومخاطرها ، وأبعدها ، والرئيس نبيه بري كان واضحاً عندما قال :( ما يجري هو مؤامرة على لبنان. واضاف بري في حوار مباشر مع قناة الجزيرة إن على الدول العربية وخاصة تلك المقربة من الولايات المتحدة أن تنزل بضغطها وتلزم "إسرائيل" وواشنطن على الدخول في مفاوضات واسعة تشارك فيها جميع الأطراف لبحث حل نهائي للنزاع في الشرق الأوسط ...). و وضع بري الدول العربية أمام خيار آخر يتمثل في ( توسيع الحرب المفروضة على لبنان بدخول الدول العربية على خط المواجهة ) ، مشيرا إلى ( أن النار التي يكتوي بها لبنان ستصل إلى الأطراف العربية وبالتالي عليها أن تتحرك في أقرب وقت ..) . و وصف بري - الذي خوله حزب الله للتفاوض بشأن ملف الأسرى- ( إن الحرب التي تشنها "إسرائيل" على لبنان مدبرة ومدروسة في اتجاه ممارسة مزيد من الضغوط على سوريا وإيران إلى جانب كونها مؤامرة على لبنان . فقد انعقد مؤتمر روما بحضور الدول الثماني الكبرى مع تحرك عربي خجول لم يصل إلى مستوى عقد قمة عربية ، علماً أنّ ما كان يجري على الارض هو أمر خطير فهناك تصور أميركي بإنشاء شرق أوسط جديد يلبي طموحات واشنطن واسرائيل الامنية والسياسية والاقتصادية ) .
وفي نفس المجال و في كلمة متلفزة ، بثتها وسائل الاعلام اللبنانية و العربية المرئية ، اعتبر السيد حسن نصرالله ما جاء على لسان رايس هو الاساس في المعركة الدائرة حالياً وليس أسر الجنديين ، واكد ان مخطط الاعتداء على لبنان ليس جديداً وانما عمره شهور، وكان ينتظر الاعداد الكامل كي يشكل عنصر المفاجأة عاملاً مؤثراً فيه ، وجاءت عملية أسر الجنديين لترغم الاسرائيليين على الكشف عن مشروعهم ، والبدء بالهجوم مفتقدين لعنصر المفاجأة، وهذا ما أعطى قوة الصمود للمقاومة . اذا ، فالمشروع الاميركي الاسرائيلي الذي يستهدف المنطقة قائم ، وهو يستهدف ضرب مختلف حركات التحرر والقوى المقاومة لإفساح المجال لعلاقات طبيعية تأخذ فيه "إسرائيل" وضعها الطبيعي كدولة تمتلك ترسانة نووية تفرض السياسة الاميركية في المنطقة.
خطة اسرائيلية ـ امريكية للمنطقة
كلام نصر الله المتلفز يستند على معطيات يملكها حزب الله و قيادته السياسية ، و يأتي استكمالا لما نشر من تقارير سرية والتي كان آخرها اللقاء الأمني السياسي السري الذي عقد في فلوريدا بالولايات المتحدة في شهر تشرين الاول من العام 2005 وشاركت فيه عدة جهات إقليمية ودولية ومشاركة اسرائيلية ننشر تقريرا سريا آخر يؤكد ان الولايات المتحدة وتل أبيب أعدتا خطة من 17 نقطة وبندا لرسم خارطة جديدة للمنطقة، تشكل الحرب على الساحتين اللبنانية والفلسطينية جزءا من هذه الخطة الموضوعة منذ مدة طويلة، وبالتالي ، يؤكد التقرير ان اسر الجنود الاسرائيليين الثلاثة من جانب حزب الله وحركة حماس مجرد ذريعة واهية تستند اليها تل أبيب وامريكا في شن الحرب المندلعة حاليا، كما يؤكد التقرير مشاركة واشنطن الفعلية في هذه الحرب بالسلاح والحشد والمعلومات والتجنيد واستخدام الادوات وتكليف الحلفاء في المنطقة بالادوار المطلوبة واللازمة.
يقول التقرير السري :(ان الولايات المتحدة وتل أبيب حاولتا بطرق عديدة اشعال حروب اهلية في فلسطين ولبنان حتى يسهل عليها تنفيذ الخطة المؤلفة من سبعة عشر بندا، الا ان هذه المحاولات فشلت، وبالتالي، كان لا بد من شن الحرب المدمرة...)، ويذكر التقرير ( ان الخطة وضعتها طواقم مشتركة محدودة العدد من كبار المسئولين والمقربين لكل من الرئيس الامريكي جورج بوش ورئيس الوزراء الاسرائيلي السابق اريئيل شارون واستغرق إعدادها ثمانية اشهر ، وجاءت بعد لقاءات واجتماعات واتصالات مطولة عقدت بشكل سري في اماكن متعددة داخل تل أبيب والولايات المتحدة، وتمت الموافقة عليها من جانب بوش وشارون، واطلع عليها ايهود اولمرت في مرحلة متأخرة، وتحديدا بعد دخول شارون المستشفى للمرة الاولى، لكن، رئيس الاركان الاسرائيلي دان حالوتس، كان على اطلاع اكثر، أما ديك تشيني نائب الرئيس الامريكي فكان يطلع اولا باول على النتائج التفصيلية للقاءات والاجتماعات السرية ) .
و يشير التقرير الى ( ان الحروب التدميرية هي الوسيلة الانجع للتنفيذ في حال فشلت محاولات اشعال الحروب الاهلية واثارة الفتن في الساحات المستهدفة ، وهي كما وردت في التقرير فلسطين ولبنان وسوريا وايران، وبعد نجاح الخطة في الساحات المذكورة وكما جاء في الخطة تبدأ عملية اسقاط بعض الانظمة والحكام في ساحات اخرى واستبدالهم بآخرين تم اعدادهم لهذه الادوار مسبقا ) ، حتى ان التقرير يكشف عن ازاحة حكام بعد استكمال الخطة رغم مشاركتهم في التنفيذ لادوار يكلفون بادائها. والخطة الاسرائيلية الامريكية ، كما جاء في التقرير ( ترسم خارطة جديدة للمنطقة ، من خلال صياغة ورسم حدود الدولة العبرية ، وهذا هو عنوان الخطة التي تضمنت طبيعة الحدود الشمالية لفلسطين المحتلة بشكل يحقق الامن الاسرائيلي ويمنع الاحتكاك، وكذلك الامر بالنسبة لسوريا والضفة الغربية...) .
واورد التقرير ( ان رسم حدود الدولة العبرية يجب ان ينتهي العمل منه حتى العام 2010 ، وان هذه الخطة بدأت مرحلتها الاولى ) ، بمعنى ان البند الاول منها ( تم تطبيقه عندما انسحبت تل أبيب من قطاع غزة من جانب واحد.) . ويضيف التقرير ( ان الخطة احتوت على فقرة ، تقول: يجب ان تزول كل العقبات ، وفي مقدمتها حزب الله، بكل السبل والوسائل'. وانه يجب ان تنطلق تل أبيب بدعم امريكي واسع ومشاركة فعالة لشن حرب تدميرية في المنطقة تتجاوز لبنان وفلسطين الى سوريا وايران دون اكتراث للمجتمع الدولي، وانه بعد اتمام وتنفيذ الخطة يمكن الالتفات الى الردود والمواقف الدولية ومعالجتها ) . ويخلص التقرير الى القول بان ( الخطة المذكورة هي الطريق الى انهاء الصراع العربي ـ الاسرائيلي في موعد لا يتجاوز العام 2010 مع تطويع المنطقة بالكامل لخدمة الحل الامريكي الاسرائيلي لهذا الصراع ) .
الموقف الامريكي المنحاز
من ناحية اخرى فان إصرار وزيرة الخارجية كوندوليزا رايس على استمرار الحرب على لبنان ، واعطاء مزيد من الوقت للجيش الاسرائيلي لإحداث اختراق عسكري يؤكد ضلوع واشنطن في مؤامرة ذبح الشعبين اللبناني والفلسطيني فالغارات استمرت على مختلف المناطق اللبنانية وخاصة مناطق صور و الضاحية الجنوبية و البقاع ، اضافة الى قرى و بلدات قضاءي بنت جبيل و النبطية . رغم ذلك فان المقاومة بقيت مشتعلة و تقاوم على طريقتها لإثبات قدرتها على المواجهة وعلى كسب الوقت لتعطيل أية إمكانية لجيش الاحتلال للسيطرة على الشريط الامني المُخطط له بالسرعة التي تريدها " إسرائيل" لإرسال رسالة واضحة إلى مؤتمر روما . وقد كشفت رايس عن الانحياز الاميركي الكامل لصالح " إسرائيل" على حساب شعوب المنطقة وذلك من خلال جولتها في المنطقة التي ترافقت مع القصف الاسرائيلي التدميري لقطاع غزة وللبنان وتعطيل أية مساعي للتهدئة ، خاصة ان رايس رفضت المناقشة في أفكارها فهي جاءت لتفرض آراءها ، وتملي ما تجده الادارة الاميركية مناسباً من حلول على الطريقة العراقية والافغانية.
هذا الموقف الاميركي المصر على تسليم الجنديين الاسيرين أولاً وقبل كل شيء، ثم تسليم حزب الله لسلاحه إلى الدولة ، والانسحاب إلى ما بعد الليطاني ونزول قوات دولية في الشريط الحدودي دون التطرق إلى وقف إطلاق النار جعل سقف مؤتمر روما والنتائج التي ستصدر عنه منخفضة ، أي أنّ الحلول والقرارات ستأخذ مصلحة "إسرائيل" بعين الاعتبار أولاً وقبل كل شيء. علماً ان هناك ضغطاً عربياً كاملاً بضرورة وقف إطلاق النار لوقف المجازر وانسحاب "إسرائيل" من شبعا ونزول قوات دولية ثم معالجة باقي القضايا.
و مع استمرار المقاومة لاسابيع ثلاثة و اكثر ، اتضح أن الولايات المتحدة تسعى باتجاه الضغط على "اسرائيل" للاستمرار في الحرب والتدمير رغم أنّ بعض المسؤولين الاسرائيليين بدأ يتململ لأنّ هناك خسائر فادحة أيضاً لدى الجانب الاسرائيلي بسبب قصف حيفا التي هجرها 30% من أهلها إضافة إلى 20% منها غادروا "إسرائيل" بالكامل الا انه يبدو أن الادارة الاميركية تريد أن تستنزف الجيش الاسرائيلي في معركة تخدم مصالحها هي أيضاً .
قمة روما والتحرك الاوروبي المتأخر
لقد عول بعض المراقبين على قمة روما خيرا اذ كان من المأمول أن تتمكن تلك القمة من فرض وقف لإطلاق النار لوقف المجزرة ، لكن على ما يبدو أن الاولوية في المؤتمر كانت لإرسال قوة دولية ضاربة تتولى هي بنفسها ، وانطلاقاً من الشريط الامني الذي تسعى إليه "إسرائيل" ، لمعالجة موضوع حزب الله وعلاقة الحزب بالحكومة. لكن لا يجب أن لا ننسى أن حزب الله ما زال يمتلك القدرة على المقاومة والصمود ، وانه يراهن على هذا النصر لتعطيل المشروع الاسرائيلي برمته . و بعد ان راحت السكرة وجاءت الفكرة ، وانفضّ المجتمعون في قمة روما بعد أن شربوا الكأس الاميركية وأصيبوا بحالة من الخمول والضعف والتخاذل ، وجعلهم يصمتون ويبصمون على ما أرادته رايس . وفي اليوم الثاني عندما صرّح وزير الحرب الاسرائيلي بأن قمة روما أعطت جيشه الضوء الاخضر لمواصلة عدوانه على لبنان تنّبهت العواصم الاوروبية وخاصة روما وبريطانيا وفرنسا إلى ما سيلحقه هذا التصريح بسمعتها السياسية أمام شعوبها. والذي حرّك هذا الموضوع أكثر هو المظاهرات والاحتجاجات التي عمَّت عواصم العالم ، والتي تطالب بوقف فوري وشامل لإطلاق النار، وهذا ما جعل شيراك يسارع للمطالبة بعقد اجتماع لمجلس الامن لأخذ قرار بوقف إطلاق النار أسوة بكل مشاكل العالم وصراعاته، حيث انه لاول مرة تجتمع الدول العظمى وتوافق على المطلب الاميركي بعدم وقف إطلاق النار مما يعني الانصياع التام للمصالح الاميركية والأطماع الاسرائيلية ، كذلك تحرك بلير رئيس الوزراء البريطاني وبسرعة للقاء الرئيس الامريكي بوش في البيت الابيض مطالباً أياه بالموافقة على وقف إطلاق النار تمهيداً لنشر قوة دولية ، وأشار بلير بنفسه إلى ان رايس ستزور المنطقة وستحمل مقترحات جديدة لوقف إطلاق النار ولإرساء الحلول . كذلك رئيس الوزراء الايطالي الذي تحرك في الاطار نفسه محاولاً إستعادة كرامة ايطاليا التي أقَّرت قمة روما على أرضها ذبحَ الشعب اللبناني .
وفي هذه الاجواء تحرّكت الترويكا الاوروبية لتلتقي رئيس مجلس النواب اللبناني نبيه بري ، وكذلك رئيس الوزراء فؤاد السنيورة وتمّ الخوض في تفاصيل المبادرة التي قدمتها حكومة السنيورة . وقد أُعتبرت زيارة الترويكا ردّ إعتبار للبنان الذي يُذبح بأداة القتل الاسرائيلية خاصة أنها ايدت بالكامل الورقة اللبنانية ، و بعد ان اسيتقظت العواصم الاوروبية وبدأت تحركاً له الطابع الانساني لكنه دون شك يتمحور حول نقطتين ، إنتشار القوة الدولية ووقف إطلاق النار، أضطرت رايس ان لا تترك الفرصة للأوروبيين ، وأن تبقى ممسكة بزمام الامور . لكن من الواضح انَّ تراجع القوة الاسرائيلية من مثلت بنت جبيل - مارون الراس- تلة مسعود بعد ان تكبّدت خسائر فادحة، وسقوط طائرة بدون طيار ، وقصف العفولة بصواريخ " خيبر 1"، وحالة الارباك في المؤسسات الاسرائيلية ، كل ذلك كان له الأثر الكبير في تحرك رايس وتوجهاتها.
وحدة لبنان هزيمة لـ"اسرائيل"
اللبنانيون ومن خلال الحكومة أجمعوا على الوثيقة التي قدمها الرئيس السنيورة إلى قمة روما ، والتي تكشف عن الرؤية اللبنانية للحل ، وبذلك قطعوا الطريق على أي محاولة للعب على التناقضات بين القوى اللبنانية. ان ما جرى في لبنان من قصف وتدمير وقتل للابرياء دون السماح بوقف إطلاق النار يدل على حجم المشكلة وتعقيداتها ومخاطرها وأبعادها، والرئيس نبيه بري كان واضحاً عندما قال: ما يجري هو مؤامرة على لبنان . فبعد ان عجزت " اسرائيل " عن تحقيق انجازات عسكرية في منطقة الجنوب نتيجة اصطدامها بمقاومة هائلة ومحكمة ، فلم يكن أمامها إلاّ أن تهرب إلى بعلبك حيث الاهداف المدنية ، مستشفى الحكمة ، البيوت المدنية، المدنيون العُزّل و بعد ان فشلت قواتها من النخبة في اختراق فعلي لتواجد المقاومة في الجنوب و بعد التغييرات المهمة التي حصلت في قيادة الجيش الاسرائيلي اهمها تغيير في قيادة المنطقة الشمالية ، وافراغ تلك المنطقة من المستوطنين بشكل كلي من قرى و مستوطنات صهيونية و لاول مرة منذ نكبة فلسطين عام 1948 .
و في الجنوب ايضا ، ما زالت قوات الاحتلال الاسرائيلي ، رغم فِرَق الاحتياط التي حشدتها ، عاجزة عن تثبيت أقدامها في القرى والبلدات الحدودية ، فهي تدخل بجنودٍ مرعوبين ، وسرعان ما يختل التوازن ، فتتكبد الخسائر البشرية والعسكرية والمعنوية ، ثم تنسحب، مدّعيةً أن هذا الانسحاب تكتيكي . صورة الجيش الاسرائيلي القوي الرعديد و الذي لا يقهر فقدت بريقها أمام الاسرائيليين انفسهم وأمام العالم اجمع ، فسمعة "اسرائيل" اليوم في الحضيض ، "إسرائيل" اليوم هي "إسرائيل" التي تتقن قتل الأطفال وتتفنن بارتكاب المجازر ، وهي التي تدمّر الابنية على سكانها، وهي التي تمنع هيئات الاسعاف والاغاثة والدفاع المدني من الوصول إلى الضحايا تحت الانقاض ، و"اسرائيل" اليوم هي العاجزة عسكرياً عن تحقيق اختراق عسكري في الجنوب تُسعِفَ به الموقف الاميركي المُنتظَر على أحرّ من الجمر نصراً كهذا. وحتى لو تقدمت قوات الاحتلال أمتاراً فإن هذه القوات لن تستطيع الثبات والبقاء ، لأنّ المقاومة مازالت تمتلك قدراتها على المجابهة ، وهذه المقاومة هي التي توعّدت الجيش الاسرائيلي و هزمته فعليا .
لقد ثبت وأمام العالم بأسره إنهيار الجيش الاسرائيلي عسكرياً ومعنوياً في معارك القرى الحدودية سواء في بنت جبيل ومارون الراس وتلة مسعود، أو الطيبة والعديسة وكفر كلا ، أو عيتا الشعب وعيترون ، وفي كل قرية قصة صمود ومقاومة.وكلما إنكشف عجز الجيش الاسرائيلي اكثر أمام العالم الذي أعطى المزيد من الوقت لاسرائيل لتحقق انجازاً، نراهُ يهرب إلى قصف المناطق المدنية في البقاع والشمال والضاحية، والقرى الجنوبية، وحين لا يجد بيتاً او جسرا او حتى طريقا نجا من حقده ، يعود فيقصف تلك البيوت و الجسور و الطرقات المقصوفة ، فينتقم مجدداً من الضحايا تحت الانقاض .
ماذا حقق حزب الله ؟
رغم ذلك فان ما يجري على أرض الجنوب من مقاومة ، ومن صمود ليس سهلاً وستكون له تأثيراته المستقبلية على كافة الأصعدة المحلية ، والعربية، والدولية، فهناك متغيّرات ستفرضُ نفسها على أرض الواقع ، ولعلّ أبرز هذه المتغيرات هي :
أولاً: إنّ حرب العصابات التي تعتمد على قدرات الفرد قادرة على هزيمة الاحتلال مهما كانت قواته العسكرية، وقدراته التكنولوجية، وامتداداته الدولية.
ثانياً: أثبت حزبُ الله مصداقيته مع القوى الأخرى في لبنان التي خاض معها حوارات مكيّفة وشاقة ، وحاول عبرها إقناع الجميع بأنّ المقاومة قادرة على طرد الاحتلال ، وتحرير الارض ، و من ذلك اعلان الحزب على لسان قياداته انه من خلال الحوارات ايضا كان قد طرح امكانية أسر جنود صهاينة من اجل استبدالهم بالاسرى اللبنانيين الذين ما زالوا في سجون الاحتلال .
ثالثاً: فرض حزب الله ، ومن خلال تضحياته الراهنة ضد "إسرائيل" ، موقفاً وطنياً شاملاً على صعيد الساحة اللبنانية ، وحقّق بذلك إلتفافاً حول المقاومة.
رابعاً: من خلال الصمود في الجنوب قطع حزب الله الطريق على "اسرائيل" والولايات المتحدة ومحاولاتهما شق الصف اللبناني ، وتأليب بعض القوى لصالحهما ، وأعرب الجميع عن إدانتهم لجيش الاحتلال وممارساته ، وحمّلوه مسؤولية التدمير والقصف والقتل بعد أن حاولت "إسرائيل" تحميل الحزب مسؤولية وتبعات ما تقوم به من تدمير .
خامساً: الحقيقة التي لا بد من قولها أيضاً أنّ حزب الله أصبح مديناً لمختلف القوى السياسية ، وللطوائف الدينية نظراً لما قدّموه من غطاء سياسي وشعبي للحزب في مقاومته ، وهذا ما يفرض على الحزب مرونة كبيرة في التعاطي مع القضايا الوطنية المطروحة سابقاً ولاحقاً ، خاصة بعد النصر الكبير الذي تحقّق حتى الآن على الاقل على المستوى العسكري .
البحث الاسرائيلي في التيه
من المهم القول هنا ان "إسرائيل" كانت تبحث جاهدةً عن نصر تسجِّله في الملف السياسي قبل أن ينْفذ صبر العالم وعلى رأسهم الولايات المتحدة التي خرجت عن كل الآداب السياسية والدبلوماسية وأصّرت على عدم وقف إطلاق النار. و"إسرائيل" اصبحت في غاية الاحراج لأنه إذا بقيت المعطيات العسكرية على ما هي عليه فإنها مضطرة للذهاب إلى التفاوض بكفي حنين ، وستكون عاجزة عن فرض أية شروط . لذلك فإن ما شاهدناه من تصعيد وتكثيف عسكري كان ضرورة ملحّة بالنسبة لـ"إسرائيل" كدولة متفوقة عسكرياً على دول الشرق الأوسط كافة ، وكدولة مضطرة لحماية مصالحها في المنطقة. هنا تكمن أهمية ما كان يجري على أرض الجنوب فـ"إسرائيل" ، و هي المعتدية بإستمرار ، تتحدث عن حاجتها إلى الامن ، وتتحدث عن السلام وهي من قوَّض أُسس وقواعد السلام في المنطقة ، تتهم الآخرين ـ كلَّ الآخرين ـ بالإرهاب وهي ملكة الارهاب والخبيرة رقم واحد في إرتكاب المجازر وقتل الأطفال والنساء . "اسرائيل" تعيش على الكذب والخداع فهو مبرر وجودها ، لإنها أصلاً قامت على خداع المجتمع الدولي .
وما جرى و لازال يجري يؤكد أن "إسرائيل" مجتمع عنصري قائم على الحرب والعدوان، وهي تحاول دائماً البحث عن مبررات للإمعان في القتل والدمار، وما تفعله في لبنان وفلسطين يؤكد أنها تخوض حرب إبادة بشرية ضد الشعبين، وهي تبحث عن ذرائع لتنفِّذ خططها وبرامجها ، ففي فلسطين تتخذ من خطف الاسير الاسرائيلي مبرراً لمزيد من المجازر، وفي لبنان أتخذت من خطف الأسيرين الاسرائيلين مبرراً لافتعال عشرات المجازر ايضا في لبنان من مروحين إلى صريفا ، إلى قانا، الى سلعا، والى الشياح ، إلى الغازية و القاع ، ورغم ذلك كله فإن مجلس الامن بقي يدرس موضوع امكانية وقف إطلاق النار، و يبدو ان حجم الضحايا والدمار الذي تمّ حتى الآن لا يكفي والمطلوب إعطاء الفرصة الاضافية لـ"إسرائيل" لتقتل المزيد ، وحتى الذي يشيِّعون الشهداء يُقصفون، ويُقتلون، و لا من رادع لهم .
وقف النار ونشر الجيش
بعد وقف إطلاق النار ، قررت الحكومة اللبنانية ، وفي خطوة مهمة وأساسية استعدادها لنشر الجيش اللبناني في الجنوب ، وإنسحاب العدو الاسرائيلي من الاراضي اللبنانية ، ووضع مزارع شبعا تحت وصاية الامم المتحدة تمهيداً لتحديد ما اذا كانت لبنانية أو سورية . هذه الخطوة الجرئية والمهمة حملها الوفد اللبناني والعربي الى مجلس الامن وهي خطوة كافية لإقفال أفواه كل المعطّلين لوقف إطلاق النار الفوري. فلبنان مستعد لأخذ دوره الكامل وفي إطار توافق سياسي جماعي بما في ذلك حزب الله. فالخطوة التي تبناها لبنان والتي تدل على وعي قيادته السياسية ، وتقديرها للمسؤولية ، قطعت الطريق على الاسرائيلين والاميركيين ، فالمطلوب حلٌّ مُشرِّفٌ للبنان ومقاومته فهو البلد العربي الصغير في جغرافيته لكنه الكبير بتضحايه ، وإرادته الوطنية.
وبعد هذا الموقف اللبناني الواضح لا يمكن تبرير موقف مجلس الامن والاطراف المعطَّلة إلاّ بأنها ترغب في تحطيم العنفوان اللبناني ، وتدمير ما تبقى من بنيته التحتية، وتلبية الرغبة الاسرائيلية. فالخطوة اللبنانية بنشر الجيش مهمة جداً داخلياً وخارجياً، فهي تضع الحلول والاجابات على كافة الاسئلة والتساؤلات، فلبنان واضح، لكنّ السؤال موَّجه الى "اسرائيل" التي تريد الحرب من أجل الحرب ، ولو كانت تريد الاستقرار لكانت انسحبت من مزارع شبعا وانتهى الموضوع. و قد اصبح الآن بين يدي العرب قضية عادلة وتحتاج إلى محامين قادرين لتثبيت الحق اللبناني أولاً ، ولإثبات أن "اسرائيل" كيان عنصري معادٍ للأنسانية، ولنقل صورة حقيقية عن ممارسات هذا الكيان الإجرامية ، وإلى فضح الديموقراطية التي تتغنى بها واشنطن . فإلى متى سيبقى العرب أسوأ محامين لأعدل قضية.
المواجهات و سياسة الارض المحروقة
على الصعيد الحربي فقد صرّح قادة جيش الاحتلال بأنهم حشدوا ثلاثة أضعاف ما كان لديهم على أمل أن يحققوا تقدماً،ولما لم يتمكن العدو من تحقيق تقدم في منطقة القطاع الغربي ، حيث المواجهات كانت ساخنة ، بدأ يركّز على أقرب النقاط من نهر الليطاني ، أي محور العدوسية الغندورية والطيبة ، بحيث تصبح القوات الاسرائيلية مشرفة على مجرى نهر الليطاني من الجهة الشرقية، وتسجَّل بذلك نصراً مزيّفاً يمكن المتاجرة به إعلامياً، ويمكن بالتالي خداع الجمهور الاسرائيلي بأن الجيش الاسرائيلي حقق هدفه ، علماً أن قواته التي وقعت في شرك المقاومة ما زالت تراوح في المنطقة الحدودية مع تكبُّد خسائر فادحة بالأرواح والعتاد والمعنويات.
ومن أجل تحقيق هذا الهدف لجأت "اسرائيل" إلى استخدام سياسة الارض المحروقة ، والابادة البشرية حيث ارتكبت مجزرة جديدة بحق اهالي مرجعيون من الجيش والمدنيين الذين أخذوا إذناً بواسطة قوات اليونيفيل والصليب الاحمر بالمغادرة إلى النبطية ، كما إرتكبت مجزرة أخرى في بلدة رشاف حيث دُمِّر المبنى على اهله فاستشهد حوالي احد عشر من المدنيين المختبئين في بيوتهم . وأظهرت المعطيات الميدانية ان "اسرائيل" ما زالت عازمة على احداث انجاز على الارض يساعد فريقها الديبلوماسي في نيويورك لفرض شروطها لوقف النار، بعيداً عن الشروط اللبنانية المتمثلة بالنقاط السبع لخطة رئيس مجلس الوزراء فؤاد السنيورة . وفي هذا السياق ، عقدت الحكومة الأمنية الاسرائيلية المصغرة اجتماعاً في اليوم التاسع و العشرين للاعتداء على لبنان ، و ذلك للبحث في امكان توسيع العمليات البرية وسط اعادة تأكيد رئيس الوزراء الاسرائيلي ايهود اولمرت ان لا حدود لتحرك الجيش الاسرائيلي في لبنان.
و يندرج هذا الاجتماع المصغر في اطار التحضير للعملية البرية التي حدد الاسرائيليون فيه هدفهم بانشاء منطقة عازلة في جنوب الليطاني ، فيما دمرت قوات الاحتلال جسر القاسمية والعبارات البديلة المستحدثة وواصل الطيران المعادي تحليقه في اجواء المنطقة للحؤول دون اي محاولة لاستحداث معبر جديد ، وهددت قوات الاحتلال بقصف اي سيارة تمر في منطقة جنوب الليطاني ، كما رفعت قوات الاحتلال درجة استعداداتها للعملية وحشدت مزيداً من الاحتياط على الحدود مع لبنان.
يونيفيل مجلس الامن !
بالمقابل استمع اعضاء مجلس الامن الدولي من الوفد العربي الذي ارسله مؤتمر وزراء الخارجية العرب لنقل وجهة النظر اللبنانية من مشروع القرار الفرنسي - الأميركي والسعي لادخال تعديلات عليه انطلاقاً من البنود السبعة للرئيس السنيورة ، وتلاقى هذا الجهد مع صدى ايجابي دولي لقرار الحكومة ارسال 15 ألف جندي الى الجنوب. وكان الرئيس السنيورة اكد في مقابلة تلفزيونية "اننا نريد حلاً قادراً ان يؤدي الى نتيجة وان يكون مقبولاً لدى كل الأطراف" مشدداً على ان "وقف اطلاق النار وانسحاب القوات الاسرائيلية يجب ان يسبقا انتشار الجيش اللبناني وانه بعد وقف النار يكون قرار دولي بتشكيل القوة الدولية".
وأعلن السنيورة ان وزير الخارجية السورية وليد المعلم ابلغه "بوضوح شديد بأن سورية لا مانع لديها على الاطلاق ان تنتشر قوة "اليونيفيل" في مزارع شبعا وذلك بدلاً من وجود القوات الاسرائيلية". وأجرى السنيورة اتصالات هاتفية مكثفة بوزيرة الخارجية الأميركية كوندوليزا رايس مرتين ، وبوزير الخارجية الفرنسي فيليب دوست بلازي والأمين العام للأمم المتحدة كوفي انان ، وجرى نقاش حول الصيغ المقترحة بخصوص مشروع القرار المطروح على مجلس الأمن ، وقد وضع الرئيس السنيورة رايس في اجواء اجتماع ومقررات مجلس وزراء خارجية الدول العربية وفي اجواء وابعاد قرار مجلس الوزراء ارسال الجيش الى الجنوب. وأوضح المكتب الاعلامي للرئيس السنيورة ان هناك استماعاً باهتمام للأفكار اللبنانية اضافة الى تحقيق تقدم بالصياغات المقترحة لمشروع القرار، لكن ما زالت الأمور بحاجة الى مزيد من الجهد أملاً بالتقدم المطلوب . من ناحيته وزير الخارجية الالمانية فرانك فالتر شتاينماير ، و الذي زار بيروت في الاسبوع الاخير من الحرب ، اعتبر ان "لبنان ليس في موقع يسمح له بطلب تعديلات على مشروع القرار في مجلس الأمن". وقال الوزير الالماني :" انه بحث الموقف اللبناني مع نظيره فوزي صلوخ ، لكنه رأى ان بيروت غير قادرة على تعديل صيغة مسودة القرار..." ، معتبراً انه "على الدول الأعضاء في مجلس الامن الدولي ان توافق على صيغة القرار النهائية".
الانتحار الاسرائيلي
على الصعيد الاسرائيلي فان اولمرت ، وقبل وقف العمليات ، يريد أن يرسل رسالة واضحة للإسرائيليين أولاً بأنه قائد فاشل يقود نفسه وجيشه إلى الإنتحار السياسي والعسكري، ويضحي يجنوده المهزومين معنوياً ونفسياً ، وهم يرون غيرهم يحترق داخل الميركافا الشهيرة ، يضحي بهم من أجل أن ترتفع نسبة مؤيدي اولمرت بعد تدني المستوى من 75% الى 35%، فهل فهم الاسرائيليون الدرس؟ وهل استوعبوا انهم أولاً وقبل كل شيء جزءٌ من المخطط الاميركي ، ومن اللعبة الاميركية ؟ ومن القرار الاميركي المحكوم حالياً بطغمة من المحافظين الجدد المتصهينيين المسيحيين ؟ ايضاً فان أولمرت وجّه رسالة الى العرب ، وليس إلى اللبنانيين فقط ، مفادها أن اسرائيل كيان يعيش على العدوان، ويتغّذى من دماء الاطفال والنساء، ويبني أمجاده على المجازر، فقد بدأ هذا الكيان وجوده السياسي بمجزرة دير ياسين ، وإستمر في قبية وكفر قاسم ، ثم إنتعش هذا الكيان بوجود شارون مع مجزرة صبرا وشاتيلا ، وأعاد شمعون بيريس رفع لواء كيانه بمجزرة قانا، واليوم يصرُّ أولمرت على إدراج إسمه في سجل مرتكبي المجازر حتى يكون إسرائيلياً حقيقياً لأن من صفات ومواصفات الاسرائيلي أن تتلطّخ يداه بالدماء... وهكذا ارتكبت مجزرة قانا الثانية بعد مجزرة مروحين ، وحتى يثبت إنتماءه الصهيوني كما لم يترك مدينة أو بلدة إلاّ وارتكب فيها مجزرة من الجنوب حتى رشاف، وصريفا، وسلعا، مروراً بالغازية والشياح والضاحية وصولاً الى عكار وشرقاً إلى بعلبك و الهرمل و القاع . فهل ترك اولمرت فسحة للسلام الذي تحدثت عنه الاطراف الدولية والاقليمية؟؟!!
فبصدور القرار 1701 تنفّس أولمرت الصعداء الذي أعاد إليه الأمل بأنه سيتخلّص من وحل الهزيمة ، ومن هذه الورطة العسكرية الذي دخل فيها دون حسابات دقيقة، ومدفوعاً بمعلومات أوهمته بها أجهزة المخابرات. فقد كان يظنُّ ان الوصول إلى نهر الليطاني نزهة لتسجيل إنتصار يحطِّم عنفوان المقاومة وفوجئ بأن الوصول الى اللبونة وعيتا الشعب والطيبة هو عبارة عن رحلة موت وهزيمة لجنوده وجيشه المدّرب أفضل تدريب. فقد إهتز توازن أولمرت ومعه قيادة الجيش لأنّ حساباتهم مختلفة عن الواقع الميداني ، اذ إستهان بخصمه الذي وجَّه إليه الضربات القاتلة والسريعة فأنهكه ، وأفقده توازنه ، ولم يعد سهلاً عليه البحث عن خيارات أخرى ، وليس أمامه إلاّ ان ينتظر الضربات القاسية ، مراهناً على الوقت الذي تتمكن فيه الولايات المتحدة من فرض رؤيتها على القوى العظمى ، والتوصل الى قرار دولي ينقذ "إسرائيل" مما وقعت فيه.
و ما ان أُعلن عن صدور القرار الدولي 1701 حتى أخذ أولمرت قراره المغامر بإنزال مئات من الجنود خلف المواقع التي تدور فيها الاشتباكات الراهنة، ظناً منه بأنه قد يفاجئ المقاومة ويتمكن من تحقيق إنجازات ميدانية تُسجَّل له إعلامياً وسياسياً عند جون بولتون ورايس اللذين ينتظران على أحرَّ من الجمر إنجازاً يستندان إليه في ضغوطهما على الأطراف الأخرى. و تم انزال مئات الجنود مستعينين بطائرات مروحية ناقلة، وفوجئوا بأن رجال المقاومة بإنتظارهم في كافة المحاور، وبجاهزية تامة وإرادة قوية ، فكانوا كسربٍ من الطيور وقع في مرمى طائفة من الصيادين المنتظرين على أحر من الجمر صيداً ثميناً.
وفي ليلة السبت المشهورة ، و هي ليلة آخر اسبوع من الاعتداءات على لبنان ، و هي ايضا ليلة سوداء وقعها على الجيش الاسرائيلي و قيادته ، حدث فيها ما اسماه الاسرائيليون والمراقبون مجزرة الدبابات حيث دُمِّر لـ"اسرائيل" 34 دبابة من نوع ميركافا ، وعلى الصعيد البشري فقد قُتِل ما يقارب 24 جندياً وجُرح مئة إصابة(11) منهم خطيرة حسب إعترافات الاسرائيليين انفسهم . ساد التخبط وتضاربت التصريحات في تل ابيب وسادت التوقعات بوقف العمليات القتالية بين يوم وآخر تليه الانسحابات في غضون اسبوع او اثنين بعد ان الحقت المقاومة الاسلامية في لبنان أكبر حصيلة من الخسائر البشرية والآلية في صفوف الجيش الاسرائيلي منذ بدء هجومه على لبنان قبل 32 يوما ، وذلك مع تضارب تصريحات القادة العسكريين والسياسيين الاسرائيليين بشأن المدة المتبقية لمواصلة الهجوم ومدى توسيعه. وفي محاولة لتثبيت شيء يذكر على الارض قام الجيش الاسرائيلي بأكبر عمليات انزال منذ حرب تشرين عام 1973، شاركت فيها 50 مروحية تم اسقاط احداها بصواريخ حزب الله ما ادى الى تفجيرها واحتراقها ومقتل طاقمها الذي تضاربت الأنباء حول عدده، حيث ذكرت بعض المصادر انهم اربعة جنود في حين قالت مصادر اخرى انهم ثمانية، ثم اعترفت" اسرائيل" بأنهم خمسة.
في غضون ذلك ذكرت مصادر اعلامية ان 22 جنديا اسرائيليا قتلوا ومئة آخرين جرحوا في المعارك البرية بجنوب لبنان ، الا ان الجيش الاسرائيلي اعترف بمقتل 17 جنديا اضافة الى طاقم الطائرة التي اعترف باسقاطها وأكد اصابة مئة جندي بينهم 11 اصاباتهم بالغة، وأعلن حزب الله انه دمر 34 دبابة من طراز "ميركافا"، وهو ما وصفه امينه العام حسن نصر الله في كلمته المتلفزة بـ"بمجزرة الدبابات".
وما يشير الى ارتباك القيادة في اسرائيل، قالت وزيرة الخارجية الاسرائيلية تسيفي ليفني ، في ذلك السبت ، ان الهجوم سيتواصل رغم صدور قرار وقف القتال من الامم المتحدة ، مضيفة "سنمنح الجيش الوقت حتى يوم الاثنين لتحقيق اهدافه ..."، واعلن قائد المنطقة العسكرية في شمال "اسرائيل" عودي آدم ،في السبت الاخير من الحرب ايضا :"ان قسما كبيرا من جنوب لبنان سيكون تحت سيطرة الجيش الاسرائيلي الاثنين في حال تم الاتفاق في هذا اليوم على وقف الاعمال الحربية بين اسرائيل وحزب الله الشيعي اللبناني ".
وكانت المصادر الاسرائيلية قد ذكرت ان قرار الامم المتحدة سيدخل حيز التنفيذ عند الساعة السابعة من صباح يوم الاثنين ، و هو اليوم الثالث و الثلاثين للحرب ، قبل ان يعلن امين عام الامم المتحدة كوفي عنان الوقت الاكيد لوقف النارفي الساعة الخامسة بتوقيت غرينيتش ، اي الثامنة بتوقيت بيروت الصيفي . فيما قال رئيس أركان الجيش الاسرائيلي دان حالوتس انه سيواصل الهجوم ضد مقاتلي حزب الله لحين يتضح كيف سيطبق قرار الامم المتحدة الداعي لوقف الاعمال القتالية. وقال حالوتس للصحفيين "اننا نقاتل حزب الله وسنواصل القتال لحين الوصول لقرار يوقف اطلاق النار.. وأكثر من ذلك.. الى أن تتقرر آلية لتنفيذ وقف اطلاق النار". وأضاف "سنواصل العمل لحين تحقيق أهدافنا". من جانبه قال قائد المنطقة العسكرية الشمالية في اسرائيل الجنرال الون فريدمان للاذاعة الرسمية الاسرائيلية ان العملية البرية الواسعة "قد تستمر اسابيع" و"تمتد الى ما وراء نهر الليطاني".
وصرح متحدث باسم الحكومة الاسرائيلية لوكالة فرانس برس ان العملية البرية واسعة النطاق التي شنها الجيش الاسرائيلي صباح السبت"ليست محددة زمنيا". وقال افي بازنر ان "هذه العملية التي تهدف الى شل قدرات حزب الله على اطلاق قذائف وصواريخ على شمال اسرائيل ليست محددة زمنيا".
ونقل موقع يديعوت احرونوت على الشبكة الالكترونية عن مسؤول في مكتب رئيس الوزراء الاسرائيلي ايهواد اولمرت ان الانسحاب الاسرائيلي سيبدأ في غضون اسبوع او اثنين بالتزامن مع بدء انتشار الجيش اللبناني والقوات الدولية، مشيرا الى ان الانسحاب سيكون سريعا.
و قال مبعوث للامم المتحدة ان المنظمة الدولية تتوقع أن ينتهي الهجوم البري الاسرائيلي في يوم أو يومين وان القوة الدولية الموسعة ستبدأ انتشارها في جنوب لبنان في غضون ما بين أسبوع وعشرة أيام. وقال ألفادر ودي سوتو مبعوث الامم المتحدة الخاص لعملية السلام في الشرق الاوسط لرويترز "اننا لن نبدأ من الصفر.. فلدينا أحجار بناء في الموقع في اطار ترتيبات اعداد مع عدد من الدول".
انتصار حزب الله
ان ما جرى بعد صدور القرار 1701 من نيات عدوانية مبيتة لدى الاسرائيليين ، من احقاد صهيونية ، ومن إصرار على القتل والتدمير ، كل ذلك لا يبشِّر بالخير فليس امام اللبنانيين سوى التأكيد على الوحدة الوطنية ، والتماسك بين ابناء الوطن ، والابقاء على المقاومة ، اي المحافظة على المقاومة ، فالعدو لا يؤتمن ، وهو عدوٌّ للسلام ، والسلام لا يكون إلاَّ بين الاقوياء.صدر القرار الدولي رقم 1701 ، ونص على وقف تام للعمليات العسكرية في لبنان ، و كان التصويت لصالح القرار بالاجماع بعد ان جاء ذلك بمشاورات ومناقشات مكثّفة في نيويورك و في بيروت ، وبعد ضغوطات مارسها الوفد العربي المكلّف رسمياً بمتابعة هذا الموضوع من قبل قمة وزراء الخارجية العرب التي انعقدت في بيروت.
والقرار يحدد الصراع بأنه بين "اسرائيل" وحزب الله ، وهذا انتصار سياسي اول و مهم لحزب الله بأن يكون طرفاً بمواجهة "إسرائيل" تحمّل مسؤولياته العسكرية على اكمل وجه. وحزب الله كما نعلم رفض مشاركة أي طرف له في تحضيراته العسكرية واعداداته وبرامجه ، وحافظ على السرية التامة، وقد سلّم له الجميع بهذا الخيار الذي اختاره ، وتركوا له تحمُّل المسؤولية كاملة طالما هو الذي ارتضى بأن تكون المقاومة حزب الله، وحزب الله هو المقاومة ووعد بأنه سيقدم النصر هدية إلى شعب لبنان.
الانتصار السياسي الثاني هو أنّ الحكومة اللبنانية احتضنت حزب الله وتبنَّت وجهات نظره التي تتوافق مع حساسية الوضع اللبناني، وتضمن سيادة واستقلال لبنان، والتوفيق بين الخيارات الصعبة، خاصة أنّ لبنان تعرّض لجحيم من الدمار والموت. والتوافق على قضية المقاومة كان إجماعياً وهذا يشكل موقفاً أصيلاً للجميع كان عرابه رئيس الوزراء فؤاد السنيورة.
الانتصار السياسي الثالث هو تمكـُّن لبنان من فرض وجهة نظره في تركيبة القوة الدولية ، فهي ليست قوة متعددة الجنسيات تأتمر بإمرة مجلس الأمن حسب الفصل السابع ، فالقوة هي قوة اليونيفيل مدعّمة بقوات وعتاد جديد تابعة للامم المتحدة وملزمة بتنفيذ مواد الفصل السادس وليس السابع .
فالفصل السادس كما هو معروف ينص على حسم الخلافات الناشبة بين الطرفين بالتفاوض والتفاهم والتحكيم الدولي وحل النزاع سلمياً ، بينما الفصل السابع في المادة 41 و 42 فانه يعطي الحق باستخدام القوة البرية والبحرية والجوية لحسم الخلافات ، ويكون ذلك بقرار من مجلس الامن وليس الامم المتحدة. وهذا يعني أنه ستكون هناك مرونة في التعامل مع حزب الله، وأنّ المجتمع الدولي يأخذ بعين الاعتبار أهمية الدور المعنوي والسياسي والوجداني الذي لعبه الحزب، وخطورة أن يتم التعاطي معه بالقوة مما قد يؤجج المشاعر العدوانية ضد القوات الاجنية، وبالتالي تتعرض إلى ما تعرضت له بعد الاجتياح الاسرائيلي في العام 1982 عندما استهدفت المقاومة قوات المارينز بانفجارات أودت بحياة ما يزيد على 260 جندياً وكذلك القوات الفرنسية التي خسرت قرابة الخمسين جندياً.
الانتصار السياسي الرابع هو أن الجيش اللبناني سينتشر في جنوب الليطاني بشكل واسع وليس مجرد مراكز أو مخافر، أي أن الجيش اللبناني سيكون على الحدود الجنوبية، وهذا يعني الانسحاب الاسرائيلي من الاراضي اللبنانية، فالجيش اللبناني هو الذي سيتحمل مسؤولياته في المنطقة ما بين الليطاني والحدود، وهذا يعني أن الحزب سيتجنب المطلب السابق الضاغط من القوى اللبنانية والدولية بنشر الجيش، وبالتالي فإنّ حزب الله قادر على التعاطي مع الجيش بما يضمن مستقبل وضعية الحزب ، ومصير أسلحته الصاروخية وغير الصاروخية.بمعنى أوضح أن موضوع المقاومة سينتقل من مرحلة استفراد الحزب به إلى مرحلة وضعه على طاولة الحكومة اللبنانية بكل أطيافها، وبالتالي هل ستستمر المقاومة؟ وإلى متى؟ وما هي المبررات المستقبلية المقبولة دولياً.؟
الانتصار السياسي الخامس هو أن لبنان مكلف بضبط حدوده ومعابره، وليست أية قوة ثانية، وهذا ما سيعزّز القدرة على الحركة والمرونة لدى الحزب، فالمسؤولية داخلية ضمنية، وهذا يتطلب بالتأكيد قدرة الحزب على محاورة الاطراف الأخرى في الحكومة للتوصل إلى صيغ غير منفّرة، صيغ مقبولة، فالقوى الأخرى التي تبنّت المقاومة، لن تقبل أن تُعطى اسرائيل فرصة أخرى لتدمير لبنان، أو ما تبقى من لبنان، وهذا أمر سيواجهه حزب الله في المستقبل.
الانتصار السياسي السادس وهو أنّ المشكلتين الأساسيتين اللتين بنيت على أساسهما المقاومة وهما مزارع شبعا التي ما زالت محتلة ، والاسرى اللبنانيين وجدتا قناتين للحل وان لم يكن بالمستوى المطلوب، وهناك اعتراف دولي بهما، فمزارع شبعا المختلف عليها تُركت للأمين العام للأمم المتحدة كوفي أنان ليقدم اقتراحاً بخصوص مستقبلها، والامر يتطلب موقفاً واضحاً من دمشق بأنّ لا حقّ لها في مزارع شبعا، وانّ هذه الاراضي التي ما زالت اسرائيل تحتلها هي أراضٍ لبنانية، بمعنى أوضح سحب الذرائع من يد "اسرائيل" التي تدعي أنها سورية، وأن التعامل معها يكون حسب القرار 242 الذي صدر عام 1967، وأما اذا كانت لبنانية فينطبق عليها القرار 425، وهذا يعني الانسحاب الفوري الاسرائيلي منها، لأنّ "إسرائيل" وافقت على تنفيذ القرار 425 ونفّذت الجزء الاكبر منه عام 2000.
أما موضوع الأسرى وهو الذي كان المبرّر الذي اتخذته "اسرائيل" لشن العدوان المبيّت على لبنان فقد مالت الكفة فيه لصالح "إسرائيل" حيث طـُلب تسليم الاسيرين، ولكن في الوقت نفسه نص القرار على ضرورة البحث عن طريقة لحل مشكلة الأسرى اللبنانيين ، أي أنّ هناك توجّها لتبادل الأسرى، وهناك اعتراف دولي بضرورة حل هذا الموضوع.
الانتصار السياسي السابع وهو أن صمود حزب الله حمل الدول العربية جامعة ، على عقد قمة وزراء خارجية في بيروت رغم التباينات التي كانت في المواقف سابقاً ، وهذا الصمود فرض على القمة العربية أن تتبنى الموقف اللبناني الرسمي والذي وافق عليه حزب الله سابقاً. وهذا الموقف العربي لعب دوراً مهماً في التصدي للهجوم الدبلوماسي والسياسي الذي كانت تقوده واشنطن و"اسرائيل" في مجلس الامن وعلى المستوى الدولي.
العرب آخر ... من يتحرك
لثلاثة و ثلاثين يوما من الحرب على لبنان ، و رغم سقوط اكثر من الف شهيد لبناني جراء القصف الاسرائيلي للمنازل و المباني السكنية و الجسور و الطرقات من بينهم حوالي 30% منهم من الأطفال دون سن الثانية عشرة ، و مع زيادة عدد الجرحى عن 4000 جريح ، و مع تدمير ما يزيد عن الخمسة عشر الف وحدة سكنية و تدمير لما يزيد عن 150 جسرا و عبارة وفق احصاءات متعددة بالاستناد الى مصادر رسمية لبنانية الا ان ارادة اللبنانيين لن تنكسر و هذا ما اكده رئيس الوزراء اللبناني فؤاد السنيورة امام الوفد المصري الذي زار لبنان داعما و مؤيدا له ، السنيورة اشترط وقف النار وانسحاب "اسرائيل" قبل انتشار الجيش اللبناني ، و بينما أظهرت المعطيات الميدانية ان "اسرائيل" كانت مصرة على احداث انجاز على الارض يساعد فريقها الديبلوماسي في نيويورك لفرض شروطها لوقف النار، بعيداً عن الشروط اللبنانية المتمثلة بالنقاط السبع لخطة رئيس مجلس الوزراء فؤاد السنيورة. وفي هذا السياق ، عقدت الحكومة الأمنية الاسرائيلية المصغرة اجتماعاً للبحث في امكان توسيع العمليات البرية وسط اعادة تأكيد رئيس الوزراء الاسرائيلي ايهود اولمرت ان لا حدود لتحرك الجيش الاسرائيلي في لبنان. ويندرج في اطار التحضير للعملية البرية التي حدد العدو هدفها بانشاء منطقة عازلة في جنوب الليطاني ، دمرت قوات الاحتلال جسر القاسمية والعبارات البديلة المستحدثة وواصل الطيران المعادي تحليقه في اجواء المنطقة للحؤول دون اي محاولة لاستحداث معبر جديد ، كما هددت قوات الاحتلال بقصف اي سيارة تمر في منطقة جنوب الليطاني، كما رفعت قوات الاحتلال درجة استعداداتها للعملية وحشدت مزيداً من الاحتياط على الحدود مع لبنان.
من ناحيتهم فقد استمع اعضاء مجلس الامن الدولي من الوفد العربي الذي ارسله مؤتمر وزراء الخارجية العرب لنقل وجهة النظر اللبنانية من مشروع القرار الفرنسي - الأميركي والسعي لادخال تعديلات عليه انطلاقاً من البنود السبعة للرئيس السنيورة ، وتلاقى هذا الجهد مع صدى ايجابي دولي لقرار الحكومة ارسال 15 ألف جندي الى الجنوب. وكان الرئيس السنيورة اكد في مقابلة تلفزيونية "اننا نريد حلاً قادراً ان يؤدي الى نتيجة وان يكون مقبولاً لدى كل الأطراف" مشدداً على ان "وقف اطلاق النار وانسحاب القوات الاسرائيلية يجب ان يسبقا انتشار الجيش اللبناني وانه بعد وقف النار يكون قرار دولي بتشكيل القوة الدولية". وأعلن السنيورة ان وزير الخارجية السورية وليد المعلم ابلغه "بوضوح شديد بأن سورية لا مانع لديها على الاطلاق ان تنتشر قوة "اليونيفيل" في مزارع شبعا وذلك بدلاً من وجود القوات الاسرائيلية ".
الشجاعة صبر ساعة
في موازاة تصريحاته أجرى السنيورة اتصالات هاتفية بوزيرة الخارجية الأميركية كوندوليزا رايس مرتين ، وبوزير الخارجية الفرنسي فيليب دوست بلازي والأمين العام للأمم المتحدة كوفي انان، وجرى نقاش حول الصيغ المقترحة بخصوص مشروع القرار المطروح على مجلس الأمن، وقد وضع الرئيس السنيورة رايس في اجواء اجتماع ومقررات مجلس وزراء خارجية الدول العربية وفي اجواء وابعاد قرار مجلس الوزراء ارسال الجيش الى الجنوب. وأوضح المكتب الاعلامي للرئيس السنيورة ان هناك استماعاً باهتمام للأفكار اللبنانية اضافة الى تحقيق تقدم بالصياغات المقترحة لمشروع القرار، لكن ما زالت الأمور بحاجة الى مزيد من الجهد أملاً بالتقدم المطلوب. اما وزير الخارجية الالمانية فرانك فالتر شتاينماير ، الذي زار بيروت للاطلاع عن قرب على الموقف اللبناني من التحرك الدولي ، اعتبر ان "لبنان ليس في موقع يسمح له بطلب تعديلات على مشروع القرار في مجلس الأمن". وقال الوزير الالماني انه بحث الموقف اللبناني مع نظيره فوزي صلوخ ، لكنه رأى ان بيروت غير قادرة على تعديل صيغة مسودة القرار، معتبراً انه "على الدول الأعضاء في مجلس الامن الدولي ان توافق على صيغة القرار النهائية".
بالمقابل رئيس كتلة "المستقبل" النيابية النائب سعد الحريري كان قد واصل اتصالاته العربية والدولية في اطار الجهود الرامية الى احلال التوازن في الحل المطروح امام مجلس الامن الدولي للأزمة في لبنان . وفي اول تعليق له على قرار الحكومة اللبنانية نشر 15 الف جندي من الجيش اللبناني في الجنوب لحفظ الأمن والاستقرار فيه بالتعاون مع قوات من الأمم المتحدة، اشاد النائب الحريري بقرار الحكومة اللبنانية وباجماع الوزراء عليه ، وكرر دعمه للحكومة وللرئيس السنيورة ، كما حيّا الدور الوطني الذي لعبه رئيس المجلس النيابي نبيه بري في التوصل الى هذا القرار، وأشاد بالجهود السياسية التي يبذلها لحفظ مصالح الوطن . وتوقف النائب الحريري في شكل خاص عند انضمام وزيري "حزب الله" في الحكومة الى هذا الاجماع ، واعلان الحزب موافقته على هذا القرار، معتبراً "ان موقف الحزب هو موقف مسؤول، يدعم الحكومة اللبنانية في موقعها التفاوضي تجاه مجلس الامن الدولي، ويؤكد على وحدة اللبنانيين في مواجهة تداعيات العدوان الاسرائيلي على لبنان". وفي حديث الى شبكة "سي.ان.ان" قال الحريري: "يجب علينا ان نفهم ان القرار الذي اتخذ كان باجماع الحكومة اللبنانية ، وحزب الله كان موجوداً، وقد شارك في اتخاذ القرار مع الحكومة اللبنانية، وهو منخرط بشكل ايجابي وللمرة الأولى يقبل حزب الله بارسال الجيش الى الجنوب...".
رغم التصريحات اللبنانية و العربية و الدولية التي كانت تتصاعد ، و ترفض العدوان الارهابي الاسرائيلي على لبنان و تدعو لوقفه ، كانت "إسرائيل" لا زالت تبحث جاهدةً عن نصر تسجِّله في الملف السياسي قبل أن ينْفذ صبر العالم وعلى رأسهم الولايات المتحدة التي خرجت عن كل الآداب السياسية والدبلوماسية منذ بداية الحرب وأصّرت على عدم وقف إطلاق النار. واصبحت "إسرائيل" في غاية الاحراج لأنه إذا بقيت المعطيات العسكرية على ما هي عليه فإنها مضطرة للذهاب إلى التفاوض بكفي حنين ، وبالتالي ستكون عاجزة عن فرض أية شروط . لذلك فإن ما شاهدناه من تصعيد وتكثيف عسكري كان ضرورة ملحّة بالنسبة لـ"إسرائيل" كدولة متفوقة عسكرياً على دول الشرق الأوسط ، وكدولة مضطرة لحماية مصالحها في المنطقة .
... فهل يتنصر سياسيا ؟؟؟
بقي لبنان صامدا بصمود مقاوميه ، و بارادة شعبه التي لا تلين و بموقفه الحكومي الذي عاد و احتضن انتصارات المقاومة العسكرية ، بعد ان كان منذ البداية قد تنصل من العملية العسكرية التي اسر خلالها حزب الله الجنديين الاسرائيليين ، و الذي اتخذت من اسرها الحكومة الاسرائيلية ذريعة لاجتياح لبنان جوا و بحرا و لو استطاعت برا لما قصرت . الى ذلك ، اشترط حزب الله في بياناته العسكرية و لآخر يوم من المعارك ، لوقف اطلاق الصواريخ " بوقف العدوان على شعبنا ووطننا المقاوم... ". و بقي حزب الله مضطرا لأن يدافع عن مواقع تواجده مهما بلغت التضحيات وذلك لعـدة أسبـاب أهم ما رصدها المحللون هي :-
أولاً:- إنَّ حزب الله كمقاومة قد حذَّر "إسرائيل" مراراً وتكراراً من أي تقدُّم بري ، وكثيراً ما رحَّب بأي مغامرة عسكرية إسرائيلية لأنه سيكبِّد القوة المتقدمة خسائر فادحة، وهنا تمكن مصداقية حزب الله أمام العالم، ,أمام العدو والصديق. وحتى الآن أثبت حزب الله مقدرة مميَّزة في مواجهة القوات الاسرائيلية وهي قوات خاصة والتي تُسمى بلواء غولاني ، والاسرائيليون أنفسهم لأول مرة يعترفون بسقوط حوالي ستين جندياً في الاشتباكات والقصف . ورغم أن "إسرائيل" وسَّعت جبهة القتال في المناطق الحدودية، وشملت خمسة محاور، إلاَّ انّ المقاومة إستطاعت أن تقاوم في المحاور الخمسة.
ثانياً:- الالتفاف الشعبي والسياسي حول المقاومة في لبنان وفي العالم تولَّد بسبب انتصار حزب الله وتمكنه من دحر قوات الاحتلال وعدم السماح لها بالتمركز في أي موقع دون وجود مقاومة، وإذا ما تراجع الحزب عسكرياً فإنه سيفقد جزءاً كبيراً من هذا البريق، ولذلك فهو يسِّجل ملحمة في المقاومة والاستشهاد بلغت حدود الاسطورة لأنََ الصمود يتم بوجه أعتى جيوش المنطقة وأشدها عنصرية وهمجية. وعلينا ان لا ننسى أن للهزيمة أباً واحداً أما النصرُ فله آلالف الآباء و الا مهات .
ثالثاً:- إن مستقبل حزب الله كحزب يتبنى المقاومة بالكامل في لبنان ، وقدرته على فرض تصوراته ورؤيته المستقبلية من خلال الحوار مع باقي القوى اللبنانية يعتمد أساساً على النصر الذي سيحققه الحزب ، وهذا النصر هو الذي سيفتح له آفاقاً سياسية جديدة ، وهو الذي سيمنحه القدرة على إثبات مصداقيته ، وهو الذي سيفرض على الآخرين الذين كانوا يحضِّرون قائمة من الاعتراضات والانتقادات والمخاوف سيفرضُ عليهم ان يضعوا هذه القائمة جانباً، وأن يتعاملوا بانفتاح مع المستجدات ، وان يفتحوا صفحة جديدة، وهذا يتوقف طبعاً على تواضع حزب الله وقدرته في توظيف النصر في خدمة الكل اللبناني، كي يشعر كل لبناني بأنه منتصر.
و ما صراحة الامين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله و توجهه بأمانة و صدق حين كان يخاطب جماهيره و كامل الجماهير المنتظرة لمواقفه الا بداية النصر سياسي كان ام عسكري ، و ما النصر العسكري الذي حققته المقاومة الا نصر للبنان ، و ما انتصار لبنان الرسمي و الشعبي لمقاوميه الا انتصار للحق العربي المقاوم للمعتدين ، و نحن عندما نبحث عن الانتصارات السياسية لحزب الله وللمقاومة فإننا نأخذ بعين الاعتبار الواقع الدولي المساند لـ"اسرائيل" ، والوضع العربي المفكك، وحجم الدمار والمجازر والنازحين في لبنان، هذه عوامل يجب ان لا ننساها عندما نقيّم أية خطوة سياسية أو أيّ قرار على هذا المستوى كما لا يجب ان ننسى في الحسبان الانتصارات العسكرية للمقاومة في الجنوب و التي عدلت من كثير من المواقف لدى القوى السياسية العربية و الاوروبية و بالتالي عدلت من مسودات قرار مجلس الامن و هذا عامل آخر يجب اخذه بالحسبان لنصر حزب الله السياسي المرادف للنصر العسكري .
رابعا : ان ما يحصل في لبنان اليوم ، خاصة بعد فشل الحوار وحصول عدة سجالات كلامية و غير كلامية من قبل اقطاب السياسة واتباعهم ، و ما جرى من حرتقات عسكرية و محاولات تسلح وصولا الى مناورات عسكرية جنوبا وربما كما ينقل عبر وسائل الاعلام ما يحصل من تسلح بالداخل ، اضافة الى حرب مخيم نهر البارد وتبعياتها و تأجيل الانتخابات للحد الاقصى المسموح به (الى 21 من شهر تشرين الثاني ) اي ما قبل نهاية ولاية الرئيس بيومين فقط ، تشتد خطورته بالتفرق والتمزق ما بين اللبنانيين ، فالنصر للمقاومة هو نصر للجميع والهزيمة في السياسة اللبنانية هي انكسار ايضا للجميع ، وما تفرق اللبنانيين الا فتنة لا تخدم الا العدو الاسرائيلي مهما كانت اسبابها وايما كان البادئ بها ، فالانهيار خسارة للجميع من جبل وسهل وبقاع و مروج ومدن وقرى وسهول ، فحذار من الانهيار ، حذار مما بعد الحرب وما بعد بعد الحرب !!! .

*كاتب و باحث فلسطيني مقيم في لبنان

ليست هناك تعليقات: