الأحد، نوفمبر 04، 2007

الإنقـلاب العـوني: الـدوافع والـوقـائـع


الياس الزغبي

هل حركة العماد ميشال عون الاخيرة نحو القوى المسيحية في 14 آذار هي إعادة تصحيح مساره في السنتين الاخيرتين، أم مجرّد تنويع سياسي مرحلي في إطار تحالف ثابت مع قوى 8 آذار والمحور الحاضن، وبهدف محدّد هو الوصول الى رئاسة الجمهورية؟

بسؤال أضيق: هل يقوم العماد عون بانقلاب على الانقلاب؟

للاجابة يجب ان نعود الى "ثوابت" السياسة العونية ومحطاتها المفصلية منذ 23 سنة الى هذه اللحظة، كي نميّز بين ما هو استراتيجي وتكتيكي، فنضع صورة الحركة الراهنة في اطارها السياسي العام.

متابعو التبدّل الذي طرأ نظريا على سياسة العماد عون وتيّاره منذ الانتخابات النيابية في ايار وحزيران 2005، واعلاميا بعد اعلان تاسيسه "حزب التيار الوطني الحر" في ايلول 2005، وفعليا مع توقيع اتفاق "التفاهم" مع "حزب الله" في شباط 2006، يحاولون تفسير هذا التبدّل في التحالفات والمواقف والخيارات بأسباب عدة: بعضهم يحمّل المسؤولية لفريق 14 آذار الذي "أحرج عون فأخرجه" بفعل الاتفاق الرباعي المعروف، البعض الثاني يسند "انقلاب" عون الى طموحه الشخصي وهوسه الرئاسي، البعض الثالث يربطه بمصالح سياسية ومالية ووعود والتزامات معقدة سبقت عودته الى لبنان، والبعض الرابع يرجعه الى "رؤية استراتيجية" لموازين القوى في المنطقة بنى عليها العماد عون سياسته وتنطلق من "حتمية" خسارة المشروع الاميركي – الغربي – العربي وتفوق المشروع الايراني – السوري، وفي حساباته ان "حزب الله" يستولي بسهولة على السلطة وليس هناك قوة لبنانية او عربية او دولية (اميركية) تقف في وجهه، وان اسرائيل لا يضيرها انغماسه في الداخل اللبناني وابتعاد "خطره" عن حدودها.

قد تكون كل هذه الاسباب صحيحة وواقعية، منفردة او مجتمعة، لكن متابعة دقيقة لـ"حالة" العماد عون على مدى 23 عاماً تثبت انه لم يقم بانقلاب سياسي فعلي، بل بسلسلة تكتيكات وردود فعل ظرفية ومرحلية لم يخرج فيها على "الاصل" السياسي ("التفاهم" مع النظام السوري) وعلى الخط البياني الاستراتيجي الذي اتبعه، فكان يبتعد موقتا (وظاهريا) عن هذا الخط ثم يعود اليه، الى ان اتضح كليا مدى ضلوعه فيه وتماهيه معه في الآونة الاخيرة. وأي تصحيح ظرفي او تكتيكي، على غرار الطفرات السابقة، لم يعد ممكنا ولا ناجحا لعدم وجود قدرة على المناورة حول "الثابتة" السياسية المذكورة (الطفرة الاخيرة تتمثل في حواراته مع قيادات 14 آذار
.
ومن أجل كشف هذه "الثابتة" والاضاءة عليها كان لا بد من اعتماد منهج علمي معرفي موضوعي يقوم على مبدأ ربط النتائج بالأسباب وتفسير الخواتيم بالمقدمات.
بالعودة الى العام 1984 يتبيّن ان تعيين العقيد ميشال عون قائداً للجيش (دون رتبة عميد) لم يكن فقط "باقتراح" سابق من الرئيس كميل شمعون، و"مباركة" من الرئيس حسين الحسيني، و"عدم رفض" من الرئيسين رشيد كرامي وسليم الحص، و"قبول على مضض" من الرئيس امين الجميل، بل كان "بترحيب" من دمشق التي لم يكن تعيين قائد للجيش اللبناني ممكنا بدون "رضاها". وقد تعزز هذا "الرضى" بزيارتين قام بهما "القائد" الجديد الى دمشق "علنا" وآخريين سريتين، ولم ينفع آنذاك اعتراض رئيس الجمهورية امين الجميل على ذلك النوع من التواصل.

والرواية المتداولة عن رسالة عون الى الرئيس حافظ الاسد معلنا "اعتزازه بأن يكون جنديا في جيش الاسد العظيم" (رواها خطيا اكثر من مرجع صحافي وسياسي)، سواء كانت صحيحة او مركبة، لا تضيف شيئا الى الواقعات المذكورة وحقيقة العلاقة. كما ان طلب رئيس الاركان السوري اللواء حكمت الشهابي من العماد عون القيام بعمل عسكري لانقاذ ايلي حبيقة ورفاقه من "المبنى الابيض" في الكرنتينا في 15 كانون الثاني 1986 والكلام المتناقل عن "دور ما" لعون في وضع "الاتفاق الثلاثي" (خصوصا منه الجانب العسكري الاستراتيجي)، لا يضيفان شيئا جوهريا على طبيعة تلك العلاقة.

وجاءت الحركة الواسعة لموفديه الى دمشق عامي 1987 – 1988 (وأبرزهم السادة البر منصور وفايز القزي ورياض رعد ومحسن دلول) في سياق تعزيز العلاقة وتطبيقاتها العملية في وصوله الى الرئاسة. وتم تتويج هذه المفاوضات بقول حافظ الاسد لرفيق الحريري: "اذهب وبلغ صاحبك (المقصود عون نفسه) بأنه الرئيس المقبل". وقد تباهى لاحقا بهذه "الثقة" السورية العليا وكرر هذا القول، ولا يزال يكرره، امام انصاره وزواره والمتصلين به.

وحين أدت مناورة الاستخدام السورية وظيفتها وأثمرت نتائج سلبية وتبخرت الوعود الرئاسية لم يكن امام العماد عون سوى الارتداد على الخيبة والرد على "خيانة الاصدقاء" بمد اليد الى خصومهم كوسيلة ضغط لاعادة دمشق الى جادة "الوعد"، فعقد تحالفا مع صدام حسين وياسر عرفات، تسلحا ومالا، وأدار ظهره الى سائر العالم، وكانت "حرب التحرير" (1989) ضد الجيش السوري. لكن هذه الحرب أدت الى نتائج في السياق السوري نفسه، وكانت عمليا لمصلحة مضاعفة النفوذ العسكري والسياسي لدمشق، وبمثابة تمهيد وتبرير لاحتلال كل لبنان.

وشكّلت "حرب الالغاء" بين المسيحيين (1990) رصاصة الرحمة ومدماكا اخيرا في تعزيز هذا النفوذ فسقطت آخر منطقة لبنانية حرة وحل زمن الطائف والوصاية السورية المطلقة التي استباحت اسرار الدولة في وثائق وزارة الدفاع والقصر الجمهوري، وصادرت القرار اللبناني ومصير لبنان لمدة 15 عاما. ومع مرور الزمن واكتمال المشهد وتسلسل المراحل لا يسع المراقب الا ان يسأل: هل ما اقدم عليه عون آنذاك كان مجرد رغبة في تحرير لبنان بغض النظر عن موازين القوى، ام نتيجة عنفوان شخصي مجروح بسبب تبخر الوعد، ام قصر نظر وحسابات خاطئة؟ مهما كان الجواب فالنتيجة واحدة: سقوط لبنان. والتاريخ خير قاض. وحتى الآن لم يقدم عون ومريدوه اي تفسير لتعاونهم المفتوح مع الجيش السوري و"حلفائه" على امتداد خطوط المجابهة طوال "حرب الالغاء"، من خط الضاحية الى وسط عاليه الى اعالي بعبدا والمتن الاوسط، تنسيقا وتموينا وسلاحا. ونشط موفدو عون ذهابا وايابا عبر المناطق "السورية" الى الشمال والبقاع والضاحية وبيروت تحت حماية مخابرات عنجر، وكنت احدهم كمدير للاخبار والبرامج السياسية في "تلفزيون لبنان"، ناقلا رسالة الى الرئيس سليمان فرنجية في 1-6-1990.

كما لم يعط عون، الى اليوم، تفسيرا لحرص القيادة السورية وحلفائها (خصوصا مسؤولين في "السوري القومي" و"البعث") على حماية الرموز "العونيين" واستضافتهم في المتن الاعلى والبقاع والشوف وبيروت والضاحية، وحتى في دمشق، بعد 13 تشرين الاول 1990. وقد جاءت روايات ضباط "عونيين" سابقين عن وقائع الحرب وظروف اعتقالهم في سوريا، بعد 17 سنة على الحدث، بمثالة اختزال لهذه الوقائع وتقديم "صورة حضارية وأخوية" للتعامل السوري معهم (لماذا الاصرار على تقديم هذه الصورة الآن؟) وتوقف كثيرون عند سبب "اطمئنان" عون قبل ساعات من الهجوم السوري عليه برغم تأكيد الجميع له على حتمية العملية العسكرية الوشيكة، وعند عملية "اخراج" خروجه بسرعة من قصر بعبدا الى السفارة الفرنسية، برغم اعلانه بالصورة والصوت انه سيكون آخر من يغادرون متراس المواجهة، فكان أولهم.

هذه الاسئلة والملاحظات ليست بريئة بالطبع، لكن المقارنة بين الماضي والحاضر وربط المراحل يجيزانها ويفتحان العقل على تفسيرات وقراءات كثيرة ترفدها وقائع سنوات المنفى: من مرسيليا، الى "البيت العالي"، الى حي "مونسو" الراقي وشارع "فالسبورغ" في باريس، حركة موفدين ولقاءات، بعضها علني ومعظمها سري. وزراء لبنانيون سابقون من أصفى اصفياء النظام السوري، وسطاء وسفراء ورجال اعمال سوريون ولبنانيون وضباط مخابرات رفيعو الرتب من دمشق وبيروت. العماد عون يكشف بنفسه، ولكن بعد سنوات، أمام اصدقاء وقريبين منه (من بينهم الكاتب بصفته مسؤولاً عن التوعية السياسية والاعلام)، جانباً من "العروض" السورية السخية عشية الانتخابات النيابية 1996 ثم انتخابات 2000: أكثر من 20 نائباً وعدد وافر من الوزراء (هل كانوا يعرضون عليه "الثلث المعطل" منذ ذلك الحين مع العدد نفسه من النواب الذي حصل عليه عام 2005؟). وحين كنا نسأله عن سبب عدم اتمام "الصفقة" كان يعزو الامر الى رفضه الشرط المقابل: التسليم بالوصاية السورية على لبنان!

لكن ما كان مرفوضاً قبل عام 2000 صار مقبولاً بعدها: سنتذاك، انتهى الاحتلال الاسرائيلي للجنوب، تحركت بكركي في ندائها السيادي الشهير (20 ايلول 2000)، انتفض وليد جنبلاط وطرح اعادة تموضع القوات السورية، "تسرّع" نبيه بري بخطوة نحو البطريركية المارونية (قمعها السوريون فوراً)، تأسس "لقاء قرنة شهوان"، بدأ تحوّل الرئيس رفيق الحريري نحو "لبنان اولاً"، ولاحت ارهاصات التغيير الدولي تجاه الشرق الاوسط وسوريا تحديداً بعد حدث 11 ايلول 2001 في نيويورك وواشنطن. تحالف رباعي سيادي بدأ يتكوّن في لبنان، ببطء ولكن بثبات: بكركي - جنبلاط - الحريري - "قرنة شهوان" مع طلائع شيعية خجولة مستقلة عن ارتباطات "حزب الله" بعد قمع حركة بري.

استشعرت دمشق "خطراً" لبنانياً متنامياً يتمثل في التقاء الطوائف حول مطلب السيادة والاستقلال، هذا الخطر الذي كافحته منذ دخول جيشها الى لبنان (رسمياً) في حزيران 1976 على قاعدة الاطفائي المهووس باشعال الحرائق والمسارعة الى اطفائها، فلم تغفل عينها عن أي محاولة تقارب جدية بين اللبنانيين، وطبّقت بنجاح معادلة "فرّق تسد".

في مواجهة هذا "الخطر" كان لا بد لها من تركيب جبهة مضادة ترتكز على أخلص "حلفائها": الرئيس اميل لحود، "حزب الله" وحركة "امل"، ومجموعة "القوى والاحزاب والشخصيات الوطنية". كان ينقص هذا المشهد كي يكتمل مكون مسيحي ذو صدقية بعدما تبيّن ضعف لحود مسيحياً بعد مضي بضعة أشهر على تسليمه سدة الرئاسة الاولى في 24 تشرين الثاني 1998، وجزئية تمثيل المسيحيين الآخرين، وكان من البديهي في حسابات دمشق نفض الغبار عن دفاتر صداقاتها القديمة المتجددة، فاتجهت عنايتها نحو "الحالة" التي يشكلها العماد عون واحياء العروض القديمة، مع اضافة دسمة هذه المرة تستعيد وعد 1988 (كرسي الرئاسة.

تركّز المسعى السوري على استقطاب عون ودعم وضعه مسيحياً في مواجهة "قرنة شهوان" وبكركي، من خلال استهداف أنصاره بالملاحقة والقمع لاستثارة عطف المسيحيين على "مرجعيتهم" في المنفى وتشكيكهم بجدية أطراف "القرنة" وفاعليتهم. وقد جاء انسحاب عون منها فور اطلاقها، بحجة النقص في "خطابها السيادي" واستنادها الى اتفاق الطائف، بمثابة نذير للمواجهة اللاحقة التي توّجها بانسحابه من "ثورة الأرز" وتحالف 14 آذار. ولم تكن حادثتا 7 و9 آب 2001 (اعتقال عشرات العونيين وقمعهم) الا تجربة أولى ناجحة في اطار "الخطة الذكية" لتقوية الظاهرة العونية الشعبية، اذ "اشتعلت" على أثرهما حالة العطف المسيحي على "القائد المنفي"، ووجدت "قرنة شهوان" نفسها في موقع اللحاق بهذه الحالة، خصوصاً ان عملية 7 آب استهدفت ايضاً مصالحة الجبل التاريخية بين البطريرك صفير ووليد جنبلاط، ولم يكن عون بعيداً عن تفاصيلها ومجرياتها ومراميها.

لقد أعطت 7 آب ثمارها السياسية الكاملة بعد أربع سنوات من حصولها، عبر التحالف الانتخابي والسياسي المتين بين جلاديها وضحاياها في انتخابات 2005، وكادت تكشف عن وجهها وتنتج ثمرة مبكرة في فرعية بعبدا - عاليه 2003 (بدعم الجهاز السوري - اللبناني). وما يلفت المراقب الثاقب هو كيف باتت ذكرى 7 آب تمر بكثير من الخجل واللامبالاة لدى "أهلها"، واذا ذكروها فمن أجل شن حملة على حكومة الرئيس السنيورة والاكثرية، والتعتيم على مرتكبيها الفعليين، حلفائهم اليوم. وهذا ما يحصل ايضاً في ذكرى 13 تشرين وكأن ذاكرات ورثتها السياسيين خالية من اسماء مرتكبيها الفعليين (النظام السوري، ورئيس الحكومة، ووزير الدفاع، وقائد الجيش آنذاك الرئيس لحود)، ومن اسماء عشرات الشهداء، مع "التبرّؤ" من عشرات المفقودين في السجون السورية والذين أصبحوا مجرد "معتقلين" في "ورقة التفاهم". اذاً، الحلف هو نفسه من 7 آب 2001 الى حزيران 2005 الى رئاسيات 2007، خرقه استثنائياً تحالف الضرورة بين عون و"قرنة شهوان" في فرعية المتن الشمالي صيف 2002.

لم يكن أمام عون سوى هذا الخيار خصوصاً ان المرشح هو غبريال المر صاحب المحطة التلفزيونية التي خصصت له حيّزاً اعلامياً بارزاً، فشارك في التحالف بدون اندفاع كبير، ولم يكن له موقف دفاعي حاسم في حماية فوز المر من لعبة سياسية عبر المجلس الدستوري استبدلته، وهو الفائز بأكثر من 35 ألف صوت، بمرشح لم ينل أكثر من 1700 صوت! ولكن موقف عون الملتبس انكشف لاحقاً بعد انتخابات 2005 حين تمسّك بالمجلس الدستوري نفسه المعروف بأنه "منتج" سوري كي يبت له الطعون التي قدمها (11 طعناً) و"ينوّب" له نواباً على طريقة فرعية المتن، وظل يتفجّع على ذلك المجلس "الطيب" الى اليوم. وكان هذا التمسك المثير به دليلاً قاطعاً على نوعية الروابط والتفاهمات المنسوجة قبل عودة عون الى لبنان. أما فرعية بعبدا - عاليه 2003 فكانت اختباراً أول للتحالف الانتخابي، والجميع مطلع على التسهيلات التي قدمها "النظام المشترك" السوري - اللبناني لمرشح عون.

مع استشهاد الرئيس الحريري ورفاقه اصبح العماد عون أمام حالة جديدة أربكت "تفاهماته"، وكان لا بد من مناورة لاستيعاب الصدمة، فسارع الى اتهام المخابرات السورية خلافاً لـ"حكمة التريّث" وعدم التسرّع في الاتهام اللذين حلاً عليه لاحقاً وأوعز الينا من منفاه بتشكيل وفد للعزاء والتشييع، وقام بنفسه بزيارة تعزية الى دارة الحريري في باريس. المؤثّر والبليغ أن وجوهاً بيروتية مفجوعة قالت لنا بلهفة: "نرجوكم، فلينتبه الى نفسه (يقصدون العماد عون)، لا نستطيع أن نتحمّل ضربتين!". كانوا بالطبع يعبّرون عن خوفهم من اغتيال قائد سيادي آخر.

هذه الحالة البيروتية السنية، بل اللبنانية العامة، هي جوهر انتفاضة الاستقلال و"ثورة الارز"، فكيف استطاع عون التخلي عنها والذهاب الى مكان آخر؟
في الواقع ادرك العماد عون ان شيئا عظيما يتكون وان حالة فريدة بدأت: الارض سبقت القرار السياسي. "التيار" مثل سائر اللبنانيين، نزل الى ساحة الحرية وميدان الاستقلال بدون استئذان، الناس اقوى من القيادات، وكان الطوفان اللبناني في 14 آذار 2005.

في اليومين الاولين بدا عون مرتبكا: لا توجيهات واضحة لديه، قاعدة "التيار" في ساحة الشهداء ولكن الكوادر غائبون، على منبر الخطباء وحدهم "جماعة البريستول" (حلفاءه الالداء) في الواجهة، "الشعب العظيم" يكاد يفلت من يده، حشد 8 آذار (حلفاؤه المضمرون) اصبح باهتا. اتصل بي مساء اليوم الثالث من باريس طالبا بالحاح تشكيل وفد سريع من مسؤولي "التيار" والتوجه فورا الى الساحة الشعبية واعتلاء المنبر ومخاطبة المحتشدين. وهكذا حصل. وبدأت المشاركة الكاملة، قواعد وكوادر، وكنت اكثر المواظبين على الحضور لمتابعة يوميات الطلاب والاهالي المعتصمين، والمشاركة في المسيرات والنشاطات. لم اكن اعلم انه يريد حضورا "مدوزناً": الجسد في ساحة 14 آذار والروح في ساحة 8 آذار. في الحقيقة لم يكن عون شديد الحماسة لما سبقه اليه جمهوره، كانت له حسابات والتزامات اخرى. من جهة لا يستطيع لجم العفوية الشعبية المتفجرة، ومن جهة اخرى يتابع مفاوضات دقيقة وتفصيلية مع دمشق وحلفائها لترتيب ظروف عودته وشروطها في اطار التحالف القديم المتجدد. ولعل اندفاعي الكامل والعفوي في "ثورة الارز" وغير المضبوط على حساباته السرية التي كنت اجهلها آنذاك، شكل احدى خلفيات "انهاء خدماتي" وفق التعبير الذي استخدمه امام وسائل الاعلام، وكأنني كنت جنديا في جيشه او موظفا اعيش من ريعه!

عودة عون الى بيروت في 7 ايار 2005 كانت مدروسة ومبرمجة بدقة. اراد الايحاء أن "عودة المحرر" لم تكن في ظل الاحتلال السوري وبمنة منه (وقتها بعد 11 يوما من انسحاب الجيش السوري) في حين ان "ملائكة" الاحتلال ظلت حاضرة بقوة، ولا تزال، من خلال المخابرات والحلفاء والاتباع وهو طلب منا ابلاغ الجميع، وخصوصا اعضاء "قرنة شهوان" واطراف "لقاء البريستول" اي سياديي 14 آذار، برغبته في عدم مجيئهم لاستقباله في المطار وساحة الشهداء. وقد اعلنت شخصيا هذه الرغبة بصورة رسمية في مؤتمر صحافي عقدته في دار نقابة الصحافة اللبنانية لشرح ظروف العودة ووقائعها، وحددت المستقبلين بوفد من "التيار" واقرباء العماد عون وعائلاتهم فقط. واللافت ان عددا من الوجوه السياسية "تسرب" الى الاستقبال في المطار، وتبين لاحقا انهم من المرشحين المقررين سلفا على لوائح "التيار" في الانتخابات العتيدة.

واحاطت بيوم العودة اشارات والتباسات عدة: توتر العائد مع الاعلاميين، محطات توقفه عند ضريحي الجندي المجهول والرئيس الحريري ومنبر الخطابة هوية "الجهات الامنية" التي حمت مراحل الاستقبال، الحادثة الغامضة او الشائعة التي اثيرت عن محاولة التعرض بالسلاح للعماد عون في ساحة الشهداء واعتقال "مشتبه بهم"، وسرعان ما تم طيها فلم يكن لها اي صدى او متابعة، ولم يكن فيها اي مشتبه به!

اما الالتباس الاشد اثارة حول ظروف العودة فكان لجوء عون الى اتهام "بعض" اطراف "قرنة شهوان" بالسعي لدى الفرنسيين لمنع عودته او تأخيرها على الاقل، متسلحا بهذه الذريعة لتبرير انفصاله اللاحق. ولم يكن لديه اي ادلة او قرائن تثبت ادعاءه برغم الحاح من يتهمهم بكشفها، وكل ما عرضه من "معلومات" حول هذا الموضوع، وبعد سنتين من حديثه عنه، اقتصر على "نصيحة" من ضابط فرنسي سابق كان رفيق دورته بالتفكير في "مخاطر" العودة! فتحولت النصيحة العامة الى اتهام خاص، في اطار ضخ الغبار على تغير الخيار.

الاسابيع الثلاثة التي سبقت انطلاق انتخابات 2005 كانت كافية لاجراء كل المناورات السياسية اللازمة لتغطية خطة العودة والتزاماتها وموجباتها، خصوصا امام الرأي العام المسيحي المطلوب استنفاره وتعبئته: زيارة "انسانية" الى سجين اليرزة الدكتور سمير جعجع، واخرى الى بكركي واستقبالات حاشدة في الرابية، وحركة مرشحين بالعشرات، وخطاب سياسي مسيحي تعبوي في مواجهة "الاقطاب" المسلمين و"اتباعهم" من المسيحيين، واستخدام كامل لوصف "التسونامي" وعزف على العناوين السحرية (السيادة والحرية والاستقلال)، مع اضافة لازمة الفساد و"الاوديتنغ". في الوقت نفسه، خاض عون علنا غمار المفاوضات للتحالف الانتخابي مع "تيار المستقبل" والحزب التقدمي الاشتراكي وسائر قوى 14 آذار، مع علمه المسبق بأنه لا يستطيع ابرام اي اتفاق معهم بسبب التزامه بتحالف آخر. وقد اتقن خوض المناورة حتى لحظتها الاخيرة لتعويم معاركه ماليا اولا، وسياسيا ثانيا، ونجح في تحقيق الهدفين: تحميل فريق 14 آذار مسؤولية فشل المفاوضات وتدفق المال السياسي بسخاء.

في بعض تفاصيل هذه المناورة ان المفاوضات مع جنبلاط والحريري توصلت الى اتفاق يقضي بحصول عون على 8 مقاعد في بعبدا – عاليه وزحلة والشمال وترك المتن الشمالي وكسروان وجبيل للاتفاق بينه وبين "قرنة شهوان". مساء 23 ايار 2005 قصد المفاوضان الوزير مروان حمادة والدكتور غطاس خوري دارة العماد عون في الرابيه لوضع اللمسات الاخيرة على الاتفاق وتوقيعه لكنهما فوجئا بشروط جديدة لم تكن في الحسبان (زيادة العدد وتغيير المذاهب)، فأدركا ان عون اوقعهما في خدعة وعادا قبيل منتصف الليل الى بيروت خائبين. في صبيحة اليوم التالي عقد زعيم "التيار" مؤتمرا صحافيا اعلن فيه "حرب التحرير" الانتخابية متسلحا بشعار مواجهة "الحلف الرباعي المسلم" وبغطاء لوجستي متين.


ما هو التحالف الآخر الذي كان العماد عون يرتبط به؟
البعض يصفه بأنه "صفقة العودة" وآخرون بأنه "حلف الضرورة" بسبب انهيار تحالفه مع 14 آذار. الحقيقة انه نتاج خطة مرسومة بعناية، تستند في عمقها التاريخي على العلاقة الطيبة مع النظام السوري، وفي مبرراتها البراغماتية على المصلحة المتبادلة: العماد عون يواجه منافسيه من قوى 14 آذار ويحقق طموحه الرئاسي، والنظام السوري ينتقم لـ"خسارته" لبنان باستعادة نفوذه.

الخطة اوجبت على "حزب الله" الدخول في "الاتفاق الرباعي" وعلى عون البقاء خارجه، وما يخسرانه (والخسارة لم تكن مؤكدة!) في بعبدا – عاليه يعوضانه مضاعفا في المتن وكسروان وزحلة والشمال كرد فعل مسيحي على التحالف الرباعي "المسلم". ففي العمق كان هذا التحالف خماسيا، لأن عون لعب فيه دور الشريك المضارب وحصد بفضله 21 نائبا. لا شك في ان النتيجة فاجأته، فهو لم يكن يتوقع، قبل بضعة ايام من المعركة (وكان يؤكد لنا ذلك باستمرار) كسب اكثر من 3 مقاعد بين المتن وكسروان وجبيل. ولكن شركاءه (الرئيس لحود وضباطه ومخابراته و"حزب بالله" ورعاتهم في النظام السوري) كانوا اكثر ثقة ودقة وخبرة معرفة في حركة الرياح السياسية والمزاج الشعبي. وفي حين اضطر "حزب الله" لاعتماد "التكليف الشرعي" في بعبدا، صب كل اصواته للوائح عون في الدوائر الاخرى (زحله، كسروان وجبيل، المتن، والشمال،) واذا نقلنا هذه الاصوات الى اللوائح الاخرى لانقلب الكثير من النتائج ولكان اليوم عدد من النواب العونيين في عداد الراسبين.

الا ان دائرتي الشمال فاجأتا الخطة السورية – العونية، اذ ان "التسونامي" المسيحي لم يفعل فعله هناك، فانحدرت نسبة الـ72% من اصوات المسيحيين المؤيدين لعون وحلفائه (في جبل لبنا ن وزحله) الى 52% كمعدل عام في الشمال، أي 20 نقطة، ما يساوي اكثر من اربعين الف صوت كانت كافية لقلب النتائج رأسا على عقب ولتغيير موازين القوى القائمة راهنا.

هذه الصدمة الشمالية لخطة الرباعي (دمشق – بعبدا – حارة حريك – الرابية) جعلته ينتقل الى "الخطة ب" المستمرة الى اليوم لضرب المعادلة السياسية بكل الوسائل السلمية وغير السلمية.

باختصار، هناك خطة انقلاب سياسي معززة بوسائل غير سياسية ومحتضنة سوريا، مرت بالمراحل الاتية:
- انتخابات 2005 لاستعادة "الحالة" السورية ديموقراطيا، فشلت بفضل الشمال.
- هدنة موقتة لتمرير مكاسب ثلاثة (انتخاب بري رئيسا لمجلس النواب، ادخال ثلث معطل الى الحكومة، اسقاط معادلة الأكثرية بواسطة المجلس الدستوري صاحب السابقة الشهيرة في المتن)، وقد سقط المكسبان الاخيران بفضل الوعي الوطني لثلاثة وزراء وتنبه الاكثرية الى لعبة الطعون امام مؤسسة مطعون فيها.
العودة الى سياسة اغتيال نواب ووزراء (جبران تويني، بيار الجميل، وليد عيدو، انطوان غانم.
- استخدام الشارع والاستقالات والتهديد بالعنف والحرب الاهلية لاسقاط الحكومة والمحكمة الدولية.
- تحريك البؤر المسلحة (نهر البارد) وتسييب الحدود وتسريب الاسلحة وتدريب المسلحين. واذا كانت الضغوط السعودية – الايرانية لجمت الفتنة المذهبية فان الضغط السوري يتركز على تخريب الاستحقاق الرئاسي في حال لم يأت رئيس من اهل الخطة نفسها.
ولكن، هل كان نجاح الخطة سيأتي بالعماد عون رئيسا للجمهورية نزولا عند الوعد التاريخي؟

الجواب لم يكن محسوما، لأن لدى "حزب الله" ووراءه الثنائي السوري الايراني حسابات معقدة وبراغماتية، وهناك بيادق كثيرة على رقعة الشطرنج الواسعة الممتدة من لبنان الى غزة والعراق، وملفات خطيرة تبدأ من نظام الابناء الوراثي في سوريا وتنتهي بتشخيص مصلحة نظام الملالي النووي في ايران. ويكون بذلك كل ما انتجته سياسة عون سقوط حلمه بالرئاسة سواء "جيّر" شعبيته او لم يجيّرها وسواء كان "ملكاَ او صانع ملوك"، وكذلك اقعاد لبنان عن الخروج من مأزقه، او اعاقة مسيرة "ثورة الارز" في احسن ا لاحوال، كمثل ذاك الذي يخسر نفسه ولا يربح العالم.

من كل ما سبق يمكن تتبع الخيط الرفيع الذي يربط المراحل السياسية للعماد عون والاضاءة على ما وصف بـ"الانقلاب العوني"، وطرح السؤال: هل كان انقلابا بالفعل ام مجرد تأرجح تكتيكي وظرفي داخل السياق السياسي الثابت، وكانت كل العناوين والشعارات تنويعا على الأصل؟ ولا تكفي محاولة اعادة التموضع التي قام بها في الايام الاخيرة قبل انقضاء مهلة الاستحقاق الرئاسي، داخل الفريق المسيحي، وبدوافع الضغط الخارجي وانسداد أفق حظوظه عند حلفائه، ونتيجة الارتباك والتخبط في الخيارات، لتحديد ماهية "الانقلاب" الجديد، لأن لحظة انعطاف واحدة لا تصلح للحكم على "تراث" تقلبات 23 سنة.

وبعد، السؤال يتكرر: هل تكون عودة عون الى القوى السيادية ثابتة ونهائية، ام ان المنجمين يكذبون ولو صدقوا!

•فصل من دراسة واسعة ستصدر تحت عنوان: "التيار الوطني الحر، إشكالية النصوص والممارسة".

مسؤول مركزي سابق في "التيار الوطني الحر

ليست هناك تعليقات: