الاثنين، نوفمبر 19، 2007

عاجل وملح وغير قابل للتأجيل: دولة فلسطين المستقلة

نبيل عودة
دولة دمقراطية علمانية في فلسطين ؟حلم يساري جميل ، هل هو قابل للتنفيذ؟
هل الواقع السياسي متاح لطرح هذه الفكرة اليسارية الطوباوية الى حد بعيد؟اليس وراء هذا الطرح محاولة يسارية لتجديد مكانة اليسار التي تضعضعت ، مع الأسف ، في العقود الأخيرة؟ وهل يعتقد اليسار انه قادر على استعادة مكانته السياسية عبر طرح فكري فات وقته؟اذا كان الطرح يعني دولة دمقراطية علمانية للشعب الفلسطيني الى جانب دولة اسرائيل ، فنحن ندخل في طرح ضروري وواقعي ، لأن شريحة واسعة من الشعب الفلسطيني لن تقبل أي شكل آخر للدولة الفلسطينية العتيدة ، على نسق "دولة" غزة مثلا . . وتختار بالتأكيد أي خيار آخر الا نظام "غزستان" .حسنا . لا تريدون سماع شيء عن دولة يهودية ... عواطفنا ومشاعرنا معكم . ولكن الواقع لم تخلقه العواطف ، ولم تشكله المشاعر ، واصبح الشيء الذي لا نريد ذكر اسمه والأقرار بوجودة ( اسرائيل )، هو الأكثر حضورا ، هو الأكثر قدرة على فرض واقع شرق أوسطي لا يتلائم مع تطلعاتنا ، هو القوة القادرة على فرض رأيها ، وهو النظام الوحيد الذي يتمتع سكانه ( بما فيهم العرب الفلسطينيون في اسرائيل ) بحقوق سياسية دمقراطية واسعة ، وبتأمينات وضمانات اجتماعية وطبية راقية ، وبنظام وحيد في الشرق الأوسط مبني على مؤسسات مستقلة للحكم ، وعلى رقابة مستقلة لأدارة شؤون الدولة ، واقتصاد متطور يتجاوز بقوته اقتصاديات كل الدول العربية المحيطة به ، وعلوم وتكنلوجيا من أرقى المستويات في العالم ، وقوة عسكرية ضاربة باسلحة تقليدية وغير تقليدية ...
ربما مثل فكرة الدولة الدمقراطية العلمانية في فلسطين كانت أقرب للقبول في سنوات الثلاثين من القرن الماضي ، ولكن منذ سنوات الثلاثين حدثت تطورات أضحت معها هذه الفكرة نوعا من التغطية على الفكر اليساري الذي لم ينجح بأن يشكل البديل لأنظمة الفشل والفساد العربية ، لأنظمة الطوائف الحديثة المتهاوية ...ليس موضوعي الآن استعراض التاريخ ، غير اني استمعت الى لقاء ، قبل أيام ، عبر قناة الكنيست الاسرائيلي ، مع المؤرخ الاسرائيلي بيني موريس ، حول كتاب جديد أصدره ، يكشف فيه وثائق هامة عن حرب العام 1948 ، وعن ملابسات النكبة الفلسطينية ، يفضح في الوثائق تعاون الملك عبدالله مع الوكالة اليهودية ، واتفاقه معها على تقسيم فلسطين ، وعندما اضطر الى دخول الحرب ، لم يهاجم المستعمرات اليهودية ، ولم يتحرك جيشة الا ضمن الحدود المقررة ، حسب قرار التقسيم الذي أقرته الأمم المتحدة لأرض فلسطين ، وبالتالي كان أمينا لاتفاقة مع الوكالة اليهودية على تقسيم فلسطين ، ليس حسب قرار الأمم المتحدة ، انما حسب اتفاق التقسيم بين الوكالة اليهودية ( ممثلة بغولدا مئير) والمملكة الاردنية ( الملك عبدالله ).
لم أقرأ الكتاب بعد ، ولكن من التفاصيل الصغيرة التي استمعت اليها يبدو ان بعض حقائق النكبة الفلسطينية بدأت تتضح عبر الوثائق التي يكشف عنها في اسرائيل ، وفي جذورها يتضح التآمر العربي على الشعب الفلسطيني ، ودور الاتفاقات الأردنية اليهودية في تسهيل اقامة دولة اسرائيل ، وأعرف من المرحوم والدي ان الجيش العراقي أيضا لم يدخل المناطق المقررة لليهود حسب قرار التقسيم وكان جواب قائد الجيش العراقي : " موكو أوامر " ( لا توجد أوامر).والحقيقة الأخرى ان الاستيطان اليهودي في فلسطين كان بتشجيع قيادات فلسطينية محلية، وبتعاون وتغطية من أوساط فلسطينية ، وجرت عمليات بيع مئات آلاف الدونمات من الأراضي منذ العام 1917 ، وتقدر المساحة التي نجحت الحركة الصهيونية في شرائها حتى العام 1936 ب : 1.7 مليون دونم - راجعوا كتابين هامين ومؤلمين للقراءة ،للباحث اليهودي من جامعة القدس الدكتور هيلل كوهن ، الأول "عرب طيبون" صدرت ترجمته بالعربية . والثاني "جيش الظلال " الذي آمل ان يترجم لتطرح الحقائق امام الشعب الفلسطيني والشعوب العربية ، وأعترف انها حقائق مذهلة وغير قابلة للتصديق ، وقراءة الكتاب الثاني كانت بالنسبة لي معاناة وتمزق داخلي ، ولكن حان الوقت لنعرف الحقيقة المرعبة والكاملة وراء نكبتنا، بما فيه دور قيادات وشخصيسات فلسطينية مختلفة ..
عندما يطرح مشروع سياسي ، مثل دولة دمقراطية علمانية في فلسطين ، يفترض ان الواقع السياسي جاهز للتعامل مع هذا الطرح . وان الأزمة ، في الواقع الاسرائيلي أيضا من الحدة ، بحيث يبحث القادة الاسرائيليون عن مخرج لأزمتهم ، لأزمة الكيان اليهودي.ما اراه ان الطرح يقع في باب الانشغال بما هو غير قابل للطرح السياسي ، الا في أذهان مأزومة ، وتبحث عن مخرج من أزمة واقعها السياسي ، وتجديد شرعيتها السياسية بطرح جديد ( قديم ) مغاير عما يدور التفاوض حوله اليوم . حتى اليوم لم يقم نظام عربي واحد ، يستحق الاحترام ، الأنظمة العربية ينخر فيها العفن والفساد وتفتقد لكل أشكال ادارة الحكم الحديثة ، دول دمرتها الديكتاتوريات العسكرية ، شعوب عربية مقهورة ومقموعة ، التنمية الوحيدة التي يمكن الاشارة اليها ، هو تنمية القمع والسجون والمقابر الجماعية ، وتحويل الارهاب الى المادة الخام الثانية في التصدير العربي بعد الارهاب الأصولي. المجتمع العربي يزداد فقرا ، البطالة وصلت الى ارقام مذهلة ، الأمر لا يقلق الأنظمة ، لأنها تعتمد على البطش والسحل ، حتى منظمة تحررية في جذور نشأتها ، مثل حماس في فلسطين ، لبست قبعها ولحقت ربعها ، وتضع بانقلابها وتصرفاتها مستقبل الشعب الفلسطيني على كف عفريت .
وما تطرحة حماس اليوم يرفضه معظم الشعب الفلسطيني ، لا تطرح دولة دمقراطية ، ولا أقول علمانية ، الدمقراطية بالنسبة لحماس وكل المنظمات الشبيهة في العالم العربي ، لها اتجاه واحد ، الوصول الى السلطة ، ثم يقفل الباب وتستبدل بحكم الفقيه . الزهار قالها بوضوح ، يريد دولة اسلامية في فلسطين وحاليا سيكتفي ببناء مجتمع اسلامي في غزة ، فهل كان بالصدفة سحل مواطنين مسيحيين في غزة وحرق كنيسة ومدرسة ؟ وكل تحركات حماس وقمعها لمنظمة فتح أيضا تصب في هذا الاتجاه .اذن من بقي ليشتري فكرتكم الانسانية عن دولة دمقراطية علمانية في فلسطين ؟ الأمر الحاسم اليوم في جعل هذا المشروع قابلا للبحث ، ليس الموقف الفلسطيني أو العربي ، انما الموقف الاسرائيلي .هل تتوقعون ان تثيروا حماس اسرائيل لمثل هذا المشروع ؟
هل تتوقعوا ان تثيروا اهتمام المجتمع الدولي بهذا الاقتراح الذي هبط عليكم بالأحلام ؟ وهل هناك قوة عربية قادرة على جعل هذا الاقتراح قابلا لمجرد التداول السياسي ؟ وهل أخذتم بأعتباركم الشروط المطلوبة الأولية لجعل هذا الطرح أكثر من مجرد توهج لا يستمر لأكثر من لحظة في عمر التاريخ؟هل هناك برنامج مطروح لشكل تركيب هذه الدولة ومؤسساتها المختلفة؟ الفكرة جميلة ، انسانية ، ولكنها مجرد أضغاث أحلام ، واتمنى لو كان واقعنا السياسي ملائما لمثل هذا الطرح. لتقم أولا الدولة الفلسطينية المسقلة ، دولة دمقراطية علمانية للشعب الفلسطيني ، هذا هو الأمر العاجل والملح وغير القابل للتأجيل..
على الأقل هذا هو المطروح على المدى القريب ، ولنتجند كلنا لتنفيذ هذا الحلم القومي وحمايته من المغامرين . المطروح اليوم ان لاتضيع الفرصة مرة أخرى ، نتيجة الانقسام الكارثي الذي أوجدته حماس ، والموضوع لم يعد حماس وفتح ، انما مصير الشعب الفلسطيني ومستقبله.
نبيل عودة – كاتب ، ناقد واعلامي - الناصرة

ليست هناك تعليقات: