الجمعة، يونيو 05، 2009

مات أبي ، يا نادية

علي مسعاد
كاتب

- الموت كالظل ، يلاحقنا أينما رحلنا وارتحلنا ... في كل الأوقات ومهما كانت الظروف ... سواء كنا في قمة الفرح أو الحزن ...
مرت لحظات من الصمت ، لم تكسرها ، إلا صرخة مدوية لنادية ، التي بكت تلك الليلة الرمضانية ، كأنها لم تبك ، قط ، في حياتها ، كانت تحب أبي ، أشد الحب ، وتعشق الحديث معه بالدقائق والساعات ، كلما قامت بزيارتي بين الفينة والأخرى ، لتطمئن على أحوالي الصحية والعائلية .
أستطيع ، أن أميز صوت نادية ، من بين العديد من الأصوات ، واستشعر حضورها ، على بعد أميال ، كيف لا وهي صدى روحي ، فهي تعرف عني أكثر من نفسي ، وحين صرخت ، أحسست ، أنني هي ، وأن شيئا ما ، هزني من الداخل ، وأحسست لحظتها بارتعاشه ملء ذاتي ، لم أتمالك نفسي إلا وأنني أبكي كالنساء .
- لا وقت للبكاء ، يا علي ، فأسرتك الصغيرة ، لا تحتاج إلى دموعك ، بقدر حاجتها إليك ، إلى الوقوف إلى جانبها في هذه المحنة و الظروف ..
وضاعت كلمات عبد الله ، بين صرخات النساء وبكائهن ، وحدها نادية أستطيع ، أن أميز نبرات صوتها ، من بين النساء ، فهي حين تبكي تكون صادقة في بكائها ، وحين تصرخ فالصرخة تنبعث من أعماق روحها ، فهي هكذا ، منذ عهدي بها ... مرهفة الإحساس ..صادقة حد الموت ..فبقدر ما تكره الكذب والإدعاء ..هي جارحة حد السيف بصراحتها ..وحين أرسلت لها ، عبر هاتفي النقال " مات أبي ، يا نادية ..." ، لم تتأخر في الحضور للتو وأجلت كل مواعيدها ولقاءاتها إلى حين ،
لتقف إلى جانبي كالرجال .
ولما اقتربت مني ، بخجل ، أمام حشد من النساء والرجال ، وهي تلملم دموعها ، وتكتم حزنا عميقا ، تسلل إلى عينيها ، لم أتمالك نفسي ، حين ارتميت على صدرها ، أشكو لها ، همي وحزني ، لرحيل أبي ، الصدر الحنون الذي لطالما احتضن همومها وأحزانها الصغيرة ، فهي الوحيدة التي من الممكن أن تعذرني حين أبكي في لحظة من لحظات الضعف التي تأسرني ، بين الفينة والأخرى ، وحين أبكي كالنساء حين ، تعوزني الكلمات والعبارات.
- " لا تحزن ، يا علي ، إن الله معنا ، وأمك تحتاج إليك ، أكثر من أي وقت مضى ، هي ليست وحدها ، كل أفراد العائلة ، يحتاجون إليك في كل صغيرة وكبيرة ، أو لست عوضا عن أبيهم .. " .
جاءني صوتها بعيدا ، لم أميز منه ، إلا كلمات قليلة و متقاطعة ، فيما أصوات النساء يتعالى و صوت المقرئ ، المنبعث من الشريط ، يعطي للحظة ،قدسيتها ورهبتها الجليلة .
- وهل ، يمكنني ، أن أكون أنا هو وهو أنا ، أبدا ، لن أستطيع يا نادية ، لن أستطيع
، لأن أبي ، كما تعرفين ، نسيج وحده ، وستظل صورته ، راسخة بذاكرة الكل ، بصوته الجهوري وحضوره اللافت و بقوته وشهامته .. لست أنكر ، يا نادية ، بأن الموت ، بالنسبة لي ،على الأقل ، كان زائرا ثقيلا ، تلك الليلة ، فقد شكل لي صدمة قوية ، لم أتمالك نفسي إلا وأنا أصرخ ملء صوتي " لا ، لا تمت يا أبي.. لا تمت ..فأنا أحتاج إليك ، الآن ، أكثر من أي وقت مضى ...أكثر من أي وقت مضى ." .
- الموت ، يا علي ، هو الوجه الآخر للحياة ، وليس النهاية ، فلا ترتمي في أحضان الحزن والبكاء وتنسى أن أمامك طريق طويل ، لتحقيق أحلامك وطموحاتك ..الموت ، يا علي ، هي حقيقتنا التي نهرب منها إليها ، هي الهواء الذي نتنفسه ، كل لحظة ... الموت ملح الحياة ، والحياة جميلة يا صاحبي اا .
وانخرطنا في بكاء طويل ، لم يمزقه إلا صوت للآذان ، آت من بعيد .

أوراق من حياتي
" لا أريد أن أموت "

ليست هناك تعليقات: