الأحد، يونيو 21، 2009

دبلوماسية عربية حائرة بين خطابين

نقولا ناصر

(إن وفاء أوباما بوعوده يتطلب جرأة لتغيير جذري في النهج الدبلوماسي العربي الراهن يضغط على أميركا للوفاء بوعود رئيسها ولا يكتفي بمجرد عقد الآمال على حسن نواياه)

يكاد يكون أمر شبه مؤكد أن لا تسفر لا اجتماعات وزراء الخارجية العرب في القاهرة يوم الأربعاء المقبل، ولا أي دورة اجتماعات لاحقة لهم، ولا الجولة العربية التي أعلن المتحدث باسم الرئاسة الفلسطينية أن الرئيس محمود عباس يزمع القيام بها، عن أي جديد في الموقف العربي من خطابي الرئيس الأميركي باراك أوباما في القاهرة في الرابع من الشهر الجاري ورئيس دولة الاحتلال الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في الرابع عشر منه، وهما الهدفان المعلنان لاجتماع وزراء الخارجية وجولة عباس معا.

وتبدو الدبلوماسية العربية حائرة بين الخطابين، فهي إن حولت رفضها السلبي اللفظي لخطاب نتنياهو إلى رفض إيجابي عملي ستخاطر بالتأكيد بخلاف لا تريده ولا تستطيع تحمل مضاعفاته السياسية مع الإدارة الأميركية التي رحب رئيسها بخطاب رئيس الوزراء الإسرائيلي، متذرعة بأنها لا تريد خلق أي صعوبات عربية تضاف إلى العقبات الإسرائيلية التي أثارها خطاب نتنياهو وجعلت وفاء أوباما بوعوده اللفظية للعرب والمسلمين أمرا أكثر صعوبة.

غير أن الدبلوماسية العربية في حيرتها بين الخطابين لا تستطيع تجاهل الرأي العام العربي الذي لن يقبل منها بالتأكيد أي موقف يتخذه وزراء خارجيتها، عندما يجتمعون بمقر جامعة الدول العربية في القاهرة في الرابع والعشرين من الشهر الجاري، يكون سقفه أدنى، على سبيل المثال، من سقف نظيرهم السويدي كارل بيلدت، الذي ستتولى بلاده الرئاسة الدورية للاتحاد الأوروبي في الأول من تموز / يوليو المقبل، والذي شكك في ما إذا كانت الدولة الفلسطينية التي ذكرها نتنياهو في خطابه "يمكن تعريفها كدولة"، أو أدنى من سقف مبعوث الأمين العام للأمم المتحدة إلى الشرق الأوسط روبرت سري الذي قال إن ما عرضه نتنياهو في خطابه لم يتضمن "كل ما هو مطلوب لإطلاق عملية مفاوضات بناءة تقود فورا إلى السلام في الشرق الأوسط"، أو أدنى من سقف البيان الذي أصدره سبعة وعشرون وزير خارجية للاتحاد الأوروبي في الخامس عشر من الشهر الحالي في بروكسل وهو البيان الذي أسقط الدعوة المتكررة في بياناتهم السابقة إلى الالتزام العربي والفلسطيني بما أصبح يعرف باللغة الدبلوماسية العربية بشروط اللجنة الرباعية الدولية الثلاث للاعتراف بإسرائيل ونبذ "الارهاب" والعنف والقبول بالاتفاقيات السابقة الموقعة بين منظمة التحرير الفلسطينية وبين دولة الاحتلال الإسرائيلي.

إن الحد الأدنى المقبول شعبيا لأي بيان يصدره وزراء الخارجية العرب يوم الأربعاء المقبل يجب ألا يقل عن سقف بيان نظرائهم الأوروبيين، وإلا كان قادة الدبلوماسية الأوروبية أكثر عروبة من أندادهم العرب في سماع نبض الشارع العربي، وربما يكون أمرا عمليا أن يتبنى الوزراء العرب النص الخاص بالشرق الأوسط الذي ورد في بيان نظرائهم الأوروبيين، بالرغم مما قد ينطوي عليه ذلك من مفارقة ساخرة، ليتجنبوا حرج صياغة موقف عربي يكون أعلى أو أدنى سقفا منه للتخلص من حيرتهم بين القبول بخطاب أوباما بانتظار تحقيق الوعود الأميركية التي وردت فيه وبين رفضهم لخطاب نتنياهو الذي رحب به أوباما.

فأي موقف دبلوماسي عربي جديد لا يسقط "شروط الرباعية"، أسوة بالموقف الأوروبي، كشرط مسبق يمنح مصداقية لأي تعبير عن "التشجيع المستمر للمصالحة بين الفلسطينيين خلف الرئيس محمود عباس ودعم جهود الوساطة التي تقوم بها مصر والجامعة العربية" بقدر ما يمنح مصداقية لأي دعوة توجه إلى "كل الفلسطينيين لإيجاد أرضية مشتركة"، كما جاء في بيان وزراء خارجية الاتحاد الأوروبي يوم الاثنين الماضي، أو أي موقف دبلوماسي عربي جديد لا يتضمن المطالب الثلاث للأمم المتحدة كما أوردها روبرت سري في بيان صحفي قبل ساعات من خطاب نتنياهو، وهي الاعتراف الإسرائيلي بقيام دولتين كهدف نهائي لأي مفاوضات قد تستأنف، وتجميد الاستيطان الإسرائيلي غير الشرعي في الأراضي الفلسطينية المحتلة، والسماح بدخول المواد اللازمة لإعادة الاعمار إلى قطاع غزة، إن أي موقف عربي جديد لا يتضمن عناصر الحد الأدنى "غير العربية" هذه سيكون بالتأكيد إضعافا للرئيس الأميركي في خلافه العلني مع حكومة نتنياهو حول المستعمرات الاستيطانية والدولة الفلسطينية، وتشجيعا لنتنياهو في الإصرار على شروطه الجديدة لاستئناف "عملية السلام"، وفي رأسها انتزاع اعتراف فلسطيني وعربي بإسرائيل ك"دولة يهودية"، ناهيك عن الإحباط الذي سيشعر به الرأي العام العربي عندما يكتشف مجددا أن عجز النظام الرسمي العربي هو عجز مزمن لا شفاء له.

في مقال له نشرته هآرتس في التاسع عشر من الشهر الجاري وصف يوسي ساريد، عضو الكنيست السابق وزعيم حزب ميريتس الأسبق، الموافقة المشروطة التي أعلنها نتنياهو على قيام دولة فلسطينية بأنه كان كمن يتجرع السم،وبدا وهو يعلن موافقته مثل "طفل علقت في حلقه لقمة هوت دوغ، تكاد تخنقه خلال دقيقة، بينما والداه يضربانه على ظهره وهما مرعوبان حتى تقيأ ما كان عاجزا عن ابتلاعه" ليتلفظ ب "الكلمات المحرمة"، ليخلص ساريد إلى القول إن الإسرائيليين، "حسب الخطاب"، سيواصلون التهرب من استحقاق قيام دولة فلسطينية كحتمية "لمدة أربعين سنة أخرى في الأقل".

إن الدبلوماسية العربية تقف على مفترق طرق، فإذا عجزت يوم الأربعاء عن التوصل إلى موقف لا يفتقد الحد الأدنى العربي المطلوب فإن من الأفضل لوزراء الخارجية العرب الأعضاء في اللجنة الوزارية لمتابعة مبادرة السلام العربية أن يلغوا اجتماعهم المخطط له مع "الرباعية الدولية" على هامش اجتماع "مجموعة الثمانية" في إيطاليا أواخر حزيران / يونيو الجاري، فأي اجتماع كهذا لا يستطيع الاستناد إلى إجماع عربي يطالب "الرباعية" بإهمال أي حديث عن الاعتراف بإسرائيل ك"دولة يهودية"، ويطالبها بإهمال شروط نتنياهو لقيام دولة فلسطينية، كشرطين مسبقين للاستئناف "الفوري" الذي يريده أوباما لمحادثات السلام الفلسطينية الإسرائيلية، سيكون اجتماعا لا جدوى منه، وسيكون من الأفضل بكثير في هذه الحالة لو أوكل وزراء الخارجية العرب مهمة النطق باسم الدبلوماسية العربية لنظرائهم الأوروبيين، أو لو حولوا وزاراتهم إلى أقسام تابعة لوزارة الخارجية الأميركية طالما يصرون على أن خيارهم الوحيد هو الخيار الأميركي.

لقد وضع خطاب نتنياهو الرئيس الأميركي باراك أوباما، الذي غامر بالدخول في اختلاف علني معه حول "المستوطنات" و "الدولة الفلسطينية"، أمام امتحان لمصداقيته الدولية، لكي يثبت أنه قادر على "الوفاء" بوعوده كما قال وزير الخارجية السوري وليد المعلم، في مواجهة رفض نتنياهو لتجميد التوسع الاستيطاني وإعلانه شروطا تعجيزية مسبقة يريد من المفاوض الفلسطيني تلبيتها قبل موافقته على دولة فلسطينية. وإذا كان رئيس دائرة المفاوضات في منظمة التحرير الفلسطينية صائب عريقات قد أعلن دون مواربة بان كرة "عملية السلام" موجودة الآن "في الملعب الأميركي"، في مطالبة غير مباشرة لكنها واضحة كالشمس لكي يفي أوباما بوعوده، فإن هذا التصريح في حد ذاته ينطوي على تسليم بالقدر الأميركي كخيار وحيد ما زال المفاوض الفلسطيني يضع كل بيضه في سلته.

وهذا الرهان الفلسطيني على الخيار الأميركي يمثل نهجا عربيا درج عليه حلفاء أميركا العرب وأصدقاؤها منذ احتكروا صنع القرار العربي بعد انهيار الاتحاد السوفياتي السابق ثم احتلال العراق، وهو نهج بدأ منذ توقيع اتفاقيات كامب ديفيد المصرية – الإسرائيلية – الأميركية أواخر عقد السبعينات من القرن العشرين الماضي، نهج ما زال متمسكا بمنح السياسة الخارجية الأميركية فائدة الشك في كونها منحازة إلى غير رجعة لدولة الاحتلال الإسرائيلي وفي احتمال أن تتوازن يوما ما بين طرفي الصراع العربي الإسرائيلي. وربما يكون خير نموذج لهذا النهج دبلوماسية الرئيس المصري حسني مبارك، الذي يفكر بزيارة واشنطن أواخر الشهر المقبل حسب "الأهرام ويكلي"، فتصريحاته الاثنين الماضي التي أعرب فيها عن أمله في أن يتمكن أوباما من إزالة العقبات التي تعترض استئناف المحادثات الفلسطينية الإسرائيلية، ثم تصريحاته، في مقال نادر له نشرته الوول ستريت جورنال يوم الجمعة الماضي، بأن إعادة تأكيد الزعامة الأميريكية في الشرق الأوسط يوفر فرصة نادرة لإقرار السلام بين الفلسطينيين وبين الإسرائيليين، وبأن "الرئيس أوباما يريد أن يأخذ زمام المبادرة لتحقيق السلام وأن العالم العربي سيتجاوب معه"، هي تصريحات تشير، في الظاهر على الأقل، إلى عدم توقع أي تغيير في هذا النهج العربي في المدى المنظور وإلى استمرار الرهان العربي والفلسطيني الراهن على حدوث معجزة أميركية طال انتظارها أكثر من اللازم.

لكن ترحيب البيت الأبيض الأميركي بخطاب نتنياهو، بالرغم من الإجماع الفلسطيني الصريح على رفضه، والرفض العربي الدبلوماسي الأقل صراحة له، وقول الرئيس المصري مبارك إنه "لا يستطيع أي فلسطيني ولا أي عربي الموافقة" عليه، وإدانة رئيس الوزراء اللبناني له باعتباره ينسف كل الجهود لتسوية الصراع العربي الإسرائيلي سلميا، إنما يثبت مجددا أن الدبلوماسية العربية ما زالت تمارس نتيجة لعجزها خداعا للنفس لا ينطلي على شعوبها، بينما تثبت مجددا دعوة الرئاسة الفلسطينية للمجتمع الدولي إلى عزل نتنياهو وحكومته أن دبلوماسية المفاوض الفلسطيني ما زالت غارقة في أوهام التمني بالرغم من ادعائها الواقعية السياسية التي تتهم معارضيها بافتقادها.

إن التوقعات العربية والفلسطينية الكبيرة المتفائلة التي أثارها أوباما في خطابه بالقاهرة في الرابع من الشهر إذا لم يستطع ردفها بسياسات تقرن كلماته بالأفعال سوف تخلق إن أحبطت عداء عربيا وإسلاميا لأميركا أكبر بكثير من العداء الذي استهدف أوباما بخطابه في القاهرة احتواءه والتخفيف منه، غير أن وفاء أوباما بوعوده يتطلب جرأة على مواجهة مع دولة الاحتلال الإسرائيلي تتجاوز كثيرا مجرد الاختلاف العلني معها، وهذه جرأة تشير كل الدلائل إلى أن الرئيس الأميركي يفتقدها أو هو غير مستعد لها، بقدر ما تتطلب جرأة عربية لتغيير جذري في النهج الدبلوماسي العربي الراهن يضغط على أميركا للوفاء بوعود رئيسها ولا يكتفي بمجرد عقد الآمال على حسن نواياه، وهذه بدورها جرأة تشير كل الدلائل إلى أن الدبلوماسية العربية تفتقدها.

فمعارضة أوباما للاستيطان اليهودي غير الشرعي في الأراضي العربية المحتلة، وبخاصة الفلسطينية، لا جديد فيها. فهو ليس الرئيس الأميركي الأول الذي يعارضها، وكما كتب ديفيد إغناطيوس في الديلي ستار اللبنانية في الرابع من الشهر الحالي، فإن "كل إدارة (أميركية) منذ حرب 1967 – ومجموعها الآن تسع إدارات – طالبت جوهريا بالمطلب نفسه. ونتنياهو، مثل القادة الإسرائيليين الذين سبقوه، رفض هذا المطلب، مما يثير المشكلة التي تؤرق أوباما بعد (خطاب) القاهرة: ماذا يفعل الآن؟ وكيف يظهر بأن إدارته تعني ما تقول حقا؟"

لقد مهدت "لاءات" قمة الخرطوم العربية عام 1967 لاشتداد ساعد المقاومة الوطنية الفلسطينية للاحتلال ولحرب الاستنزاف المصرية الدفاعية حتى عام 1970 ثم لحرب تشرين – أكتوبر عام 1973 التي أجبرت الولايات المتحدة على التحرك لإجبار إسرائيل على الجنوح إلى السلام الذي قاد إلى قمة كامب ديفيد الأولى فمعاهدات واتفاقيات السلام المصرية والأردنية والفلسطينية، وربما تكون "لاءات" عربية جديدة قد أصبحت ضرورية الآن لأداء مهمة تاريخية مماثلة تخرج عملية السلام من الطريق المسدود الذي وصلت إليه قبل وصول نتنياهو إلى سدة الحكم، وتبعث الأمل الذي قتله خطاب نتنياهو في إمكانية استئنافها بعد وصوله على الحكم، وتمهد ظروفا موضوعية جديدة تساعد أوباما على أن يقرن أقواله بالأفعال.

لقد انفردت مصر بين الدول العربية بخرق الصمت الذي تلتزم به الدبلوماسية العربية حيال المطالبة الإسرائيلية باعتراف المفاوض الفلسطيني المسبق بإسرائيل ك"دولة يهودية" عندما قال الرئيس مبارك إن هذه المطالبة "تجهض فرص السلام"، بينما استنكف القادة العرب الآخرون وحكوماتهم ووزراء خارجيتها عن إبداء رأي رسمي مماثل على مستوى رفيع مماثل، تاركين للمفاوض الفلسطيني وحده تقريبا مهمة الرد، وكأنما أي اعتراف، فلسطينيا كان أم دوليا، ب"غيتو" يهودي اسمه "الدولة اليهودية" في الوسط العربي والإسلامي أمر لا يعني دولهم، وكأنه شأن فلسطيني خالص، بالرغم من خطورته كسابقة تمهد لإعادة رسم خريطة المنطقة على أساس الدولة الدينية، لا القومية أو الوطنية، وكضوء أخضر لتحويل التطهير العرقي الإسرائيلي ضد عرب فلسطين إلى سياسة إسرائيلية رسمية معلنة تحظى باعتراف دولي، وبالرغم من أن هذه المطالبة الإسرائيلية موجهة للعرب بقدر ما هي موجهة لأشقائهم الفلسطينيين.

إن الدول العربية الرئيسية المجاورة المضيفة للاجئين الفلسطينيين كالأردن وسوريا ولبنان معنية بصفة خاصة بمثل هذه المطالبة الإسرائيلية، لأن التطهير العرقي الإسرائيلي المتواصل منذ أضفت الأمم المتحدة شرعيتها على دولة المشروع الصهيوني في فلسطين عام 1947 إذا ما اكتسب اعترافا دوليا ولو جزئيا به كسياسة رسمية لدولة الاحتلال الإسرائيلي فإن المضاعفات السياسية لاعتراف كهذا سوف تجد أول ترجمة عملية لها على الأرض في دول الجوار هذه نفسها، أولا بفرض توطين اللاجئين الفلسطينيين الذين تستضيفهم فيها، لتصبح سوريا ولبنان وليس الأردن فقط دولا مرشحة ك"وطن بديل" للاجئين الفلسطينيين، وثانيا بالاحتمال الواقعي جدا بحكم الجوار لاستيعابها أي فائض ديموغرافي تعجز إمكانيات الدولة الفلسطينية الموعودة عن استيعابه بعد حشر كل اللاجئين الفلسطينيين فيها، وثالثا بتحويلها إلى دول تقع في دائرة شبهة التواطؤ مع فكرة "الدولة اليهودية" بغض الطرف عن الترحيل الجماعي لعرب فلسطين "المواطنين" في هذه الدولة الآن، وهو الترحيل الذي تحول إلى سياسة إسرائيلية رسمية معلنة تنتظر فقط الوقت المناسب لتنفيذها بشغل داعيتها ومنظرها الأول أفيغدور ليبرمان لمنصب وزير الخارجية.

*كاتب عربي من فلسطين
nicolanasser@yahoo.com*

ليست هناك تعليقات: