السبت، يونيو 13، 2009

الرئيس الكوري المنتحر: من مكافح للفساد إلى متهم به

د. عبدالله المدني

في نهاية ديسمبر 2002 كان رئيس كوريا الجنوبية المنعوت بأكثر زعماء آسيا ثقافة وإطلاعا "كيم داي جونغ"، يحزم أمتعته تاركا بيت الرئاسة الأزرق في سيئول لخلفه في الانتخابات الرئاسية لعام 2002 ، " روه مو هيون ". كان الأخير قد فاز بحوالي 49 بالمئة من أصوات المقترعين وتقدم بحوالي 2.3 نقطة عن اقرب منافسيه "لي هو تشانغ" زعيم اكبر أحزاب المعارضة (الحزب الوطني الكبير)، والحقيقة أن روه أثناء حملة الانتخابات الرئاسية استخدم الأزمة القائمة ما بين بيونغيانغ وواشنطون واحتمالات أن تتحول الى مواجهة عسكرية يستخدم فيها الكوريون الشماليون أسلحتهم النووية ضد سيؤل الحاضنة لنصف سكان كوريا الجنوبية والواقعة على بعد 35 ميلا فقط من جارتها الشمالية , للترويج لنفسه باعتباره الوحيد القادر على حل المشكلة بالحوار والوسائل السلمية.

وكان في هذا يراهن أولا على عدم وجود تحفظات عليه من قبل النظام في الشمال كونه عرف دائما بدفاعه عن مواطنيه المتعاطفين مع الأخير, ويراهن ثانيا على ما تمثله بلاده من أمل وحيد تقريبا أمام الكوريين الشماليين للحصول على مساعدات تخفف من عزلتهم ومشاكلهم الاقتصادية , ويراهن ثالثا على عدم وجود خيارات أخرى أمام واشنطون المشغولة على أكثر من جبهة سوى القبول بالتفاوض عبره مع الشماليين .

ولا شك أن مثل هذه الشعارات جذبت الكثيرين نحو روه ولا سيما من فئة الشباب ممن آلمهم تراجع زخم المد القومي و السلام في شبه القارة الكورية بعد إدراج إدارة الرئيس جورج بوش الابن لكوريا الشمالية في " محور الشر" , لكنها لم تقابل بالترحيب المطلوب , لا من نظام " كيم جونغ إبل " و لا من قبل إدارة بوش. فبدلا من أن تشجع بيونغيانغ هذا المنحى لدى الرئيس الجنوبي المنتخب وتقابل عزمه على مواصلة ضخ المساعدات من الجنوب إلى الشمال بتحديد موعد لزيارة " كيم جونغ إيل" المؤجلة إلى سيئول كنوع من التقدير, واصلت خطابها المبني على اعتبار ملف الاستراتيجيات العسكرية في شبه الجزيرة الكورية ملفا لا يجدي التفاهم حوله إلا من خلال محادثات بين كوريا الشمالية والولايات المتحدة المهيمنة على صنع القرار في الجنوب. أما بالنسبة لرد واشنطون البارد , فلم يكن منطلقا فقط من سياستها القائمة على حرية الدفاع عن مصالحها في شبه القارة الكورية بالطريقة التي تراها وحدها مناسبة , وإنما أيضا من شكها في توجهات الرئيس المنتخب.

فالأخير, فضلا عن لهجته الناعمة تجاه الشمال وعدم اتفاقه مع واشنطون على ضرورات عزل النظام الكوري الشمالي وقطع الدعم عنه حتى يرضخ ويلغي برامجه النووية, عرف عنه في التسعينات دعوته الصريحة إلى رحيل 37 ألف جندي أمريكي عن بلاده وتصفية قواعدهم , وان غير لهجته بعد فوزه بالرئاسة فطالب فقط بسن تشريعات جديدة تحكم التواجد الأميركي فوق الأرض الكورية وتمنح الدولة المضيفة سلطة أكبر عليهم. كما عرف عنه لاحقا معارضته الشديدة لسياسات واشنطون في العراق و أفغانستان , رغم إبداء إعجابه في اكثر من مناسبة بالولايات المتحدة ومؤسساتها وديمقراطيتها.

أن الشرق الآسيوي, بانتخاب روه مو ميون رئيسا لكوريا الجنوبية , أعطي مرة أخرى نموذجا في قدرة البسطاء والمقهورين على بلوغ قمة السلطة عبر أدواتهم وجهودهم الذاتية ودونما حاجة الى نسب رفيع أو سند قبلي أو ميزة طبقية أو خزائن من المال. فالرئيس الكوري الجنوبي لم يكن سوى ابن فلاح فقير تعلم كيف يتسلق سلالم المجد وأين يضع قدمه في كل خطوة، وكيف يصبر على أهوال الطريق في رحلة الصعود وكيف يطرد اليأس والإحباط إن فشل في إصابة الهدف مرة أو مرات , تماما كما يفعل هواة تسلق الجبال والبولينغ , وهما مجالان لا ثالث لهما في قائمة هواياته المحببة.

لقد كان من الممكن أن يغادر الرئيس " كيم داي جونغ" الذي لم يستطع بحكم مواد الدستور الترشح لفترة رئاسية ثانية، مقره مرفوع الرأس يسنده تاريخ سياسي ونضالي ناصع وموهبة قيادية فذة (الأمر الذي تجسد في نجاحه في إعادة العافية سريعا إلى الاقتصاد الكوري الجنوبي بعد الهزة النقدية الآسيوية في عام 1997 ) وجرأة غير مسبوقة في طرح المبادرات (مثل مبادرة ذهابه إلى عاصمة الشطر الشمالي في عام 2000 لعقد أول قمة بين الكوريتين منذ تشطيرهما) لولا تورط نجليه في فضائح مالية وأعمال عدت من قبيل استغلال النفوذ. لكن عزاء الرئيس داي جونغ وهو يغادر منصبه تمثل في انتقال السلطة منه إلى رئيس جديد ينتمي إلى حزب هو مؤسسه ورئيسه، ونعني بذلك حزب الألفية الديمقراطي، مما كان يعني ضمنيا فشل المعارضة في النيل منه على خلفية قضية الفساد المثارة ضد نجليه.

والمفارقة هي أن الرئيس " روه مو هيون " لئن كان مثل سلفه لجهة النضال الطويل من اجل الديمقراطية ودفاعه المحموم عن حقوق الإنسان في كوريا الجنوبية، ولجهة تعرضه للمطاردة والاعتقال والدسائس على يد الديكتاتورية العسكرية قبل عام 1987، فانه من زوايا اخرىعدة بدا كما لو كان نقيضا له قبل أن نصل إلى مرحلة ما بعد خروجه من القصر الرئاسي والتي تشابهت مع ملامح مرحلة خروج "روه مو هيون" لجهة اتهامه بالتورط مع زوجته في فضيحة رشاوي بمبلغ ستة ملايين دولار أمريكي تلقتها الأخيرة من صاحب مؤسسة كورية جنوبية عاملة في إنتاج وتصدير الأحذية يدعى " بارك يوونغ تشا"، رغم إصرار الرئيس روه على نفي تورطه في هذه العملية أو علمه بهذا إلا بعد عام من خروجه من البيت الأزرق.

وأول ما يمكن الإشارة إليه في سياق الاختلاف ما بين روه مو هيون المولود في قرية كيمهاي بالقرب من بوسان (ثانية كبرى مدن كوريا الجنوبية) في عام 1946 وسلفه الليبرالي الحائز على جائزة نوبل للسلام، هو أنه لم تتح للأول ما أتيح للثاني من ثقافة واسعة وشهادات أكاديمية عالية وإطلاع ميداني على العالم الخارجي. فسبب من انتماء روه مو هيون إلى عائلة فقيرة تعمل في زراعة الخوخ وتربية الدجاج لم يجد الرجل من يساعده على إكمال دراسته العالية في أعقاب تخرجه من مدرسة بوسان التجارية الثانوية في عام 1966. وهكذا اضطر إلى مزاولة أعمال مختلفة بأجور زهيدة في النهار والانكباب على تعليم نفسه بنفسه أثناء الليل.

وبعد رحلة معاناة وشقاء، تمكن في عام 1975 فقط من اجتياز امتحانات رسمية صارمة منح بعدها شهادة في القانون خولته للعمل كمحام. وعلى الفور ارتبط من خلال مكتب المحاماة الذي أسسه في بوسان بقضايا التعذيب والفصل التعسفي والمطاردة والاعتقال التي كان أبطالها عمال وطلبة راديكاليون متهمون من قبل السلطة الديكتاتورية العسكرية بتقويض الأمن القومي أو التعاطف مع نظام كوريا الشمالية.

وسرعان ما ذاع صيته في أصقاع كوريا الجنوبية، لا سيما بعد دفاعه عن المتظاهرين في بوسان في عام 1982. إلا أن هذه الشهرة كانت وراء اعتقاله في عام 1987 بتهمة تحدي نظام الرئيس " تشون دو هوان" والتحريض ضده، وكانت أيضا وراء إلغاء الترخيص الممنوح له للعمل في سلك المحاماة بحجة تأييد العمال المضربين في أحواض بناء السفن الكورية.

وطبقا لأحد مدرسيه، كان الطالب روه مو هيون أثناء سنوات دراسته متقد الذكاء، سريع البديهة، ومجتهدا في كافة المواد، بل وملفتا للنظر وقت عرض أفكاره، لذا لقب من قبل أقرانه بالبقلة ذات النواة كناية عن صغر حجمه وصلابته في آن. وفي عام 1960 حينما كان في الرابعة عشر من عمره قاد زملاءه في المدرسة إلى الإضراب والاعتصام احتجاجا ضد كتابة بحوث إجبارية تمجد رئيس البلاد ونظامه الاوتوقراطي. أما هو فقد وصف نفسه في كراسة مذكراته بالتلميذ البارد والمتقد في الوقت نفسه موضحا أنه كان يجتهد ويؤدي ما عليه لكن درجاته كانت في هبوط مستمر بسبب هروبه المتكرر من المدرسة للتدخين واللهو.

وإذا ما انتقلنا الى موضوع آخر هو موضوع دخوله العمل السياسي , نجد أنه كان أيضا على النقيض من سلفه الذي انغمس في السياسة منذ شبابه المبكر. ذلك أن أول عهد " روه مو هيون " بالاشتغال رسميا بالسياسة يعود الى عام 1988 حينما وظف شهرته كمحام ومدافع عن المظلومين لنيل عضوية الجمعية الوطنية عن دائرة بوسان. ومن خلال هذه العضوية وبالتالي الاشتراك في لجنة تحقيقات برلمانية حول فساد عهد الرئيس " تشون دو هوان" وخروقاته الفاضحة لحقوق الإنسان حقق شهرة إضافية وصارت صوره وتصريحاته الجريئة تحتل مانشيتات الصحف وبرامج التلفزيون. وفي هذه الأثناء كان مرتبطا سياسيا ب"كيم يونغ سام" المدافع الشرس عن الديمقراطية والحريات و الذي صار لاحقا أول رئيس لكوريا الجنوبية بعد زوال حكم العسكر المختفي بثياب مدنية. لكنه انفصل عن الأخير في عام 1992 احتجاجا على ما أعتبره مهادنة كيم يونغ سام للسلطة المحافظة الفاسدة.


وقد انعكس انفصال الرئيس الكوري المنتحر سياسيا عن الرئيس الأسبق "كيم يونغ سام " في خسارة الأول لمقعده النيابي في انتخابات العام 1992 وعدم الفوز في انتخابات أخرى لاختيار عمدة لمدينة بوسان , قبل أن يفوز مجددا بعضوية الجمعية الوطنية في انتخابات عام 1998 كمرشح عن حزب الألفية الديمقراطي حديث التشكيل بقيادة "كيم داي جونغ ". وهكذا, فبعيدا عن عضوية البرلمان لدورتين غير متتاليتين ومنصب وزير الشئون البحرية وصيد الأسماك لمدة ثمانية أشهر ما بين 2000 – 2001 لم يمتلك روه وقت دخوله البيت الرئاسي الأزرق تجارب كبيرة في السياسة والإدارة. هذا ناهيك عن قلة معرفته بالخارج كونه لم يغادر بلاده إلا نادرا , بل لم يزر حتى الولايات المتحدة الأمريكية التي هي عادة محجة كل النخب و الساسة في كوريا الجنوبية.

والاختلاف ما بين روه و سلفه امتد إلى الشق العائلي في سيرتيهما. فعلى العكس من" كيم داي جونغ" المقترن بسيدة تجري في عروقها الدماء الزرقاء, اختار روه شريكة حياته قبل ثلاثين عاما من مسقط رأسه الفقير , فتزوج بابنة فلاح هي "كوون يانغ سوك " التي أنجبت له الابن "روه جيون هو" ( 29 عاما) والابنة "جونغ يون" ( 27 عاما). وعلى حين ثبت لاحقا بالدليل مدى عشق أبناء " كيم داي جونغ " للثروة والنفوذ , بدا أبناء روه مصممين على مواصلة حياتهم كمواطنين عاديين بعيدا عن البيت الأزرق ورفاهيته وخدماته وبروتوكولاته. فالابن المتخرج من جامعة يونسي ظل يعمل كمسئول عن البرمجة والمعلوماتية في شركة ال جي الشهيرة لصناعة الأجهزة المنزلية والإلكترونية مفضلا مواصلة حياته على ذلك النحو. أما الابنة المتخرجة من جامعة هونغيك والحاملة لشهادة في التاريخ فاضطرت إلى تغيير مكان عملها في السفارة البريطانية في سيئول بمجرد فوز والدها بالرئاسة بعدما صار من غير الملائم أن تعمل ابنة رئيس البلاد في سفارة دولة أجنبية. لكن أمهما، السيدة الأولى، بدت مختلفة. إذ قادها طموحها إلى الاثراء السريع إلى استغلال موقعها كزوجة لرئيس البلاد في الحصول على الرشاوي والصفقات فبذرت بذلك بذرة السؤ التي ستلطخ سمعة زوجها وأسرتها إلى الأبد. وهناك من يقول أن الرشوة التي تورطت فيها هذه السيدة يفوق مبلغها 6 ملايين دولار،بل هناك من يزعم أن أموالا أخرى قدمت من صاحب شركة الأحذية المذكور أعلاه "بارك يوونغ تشا" إلى ابنها وابنتها، هذا ناهيك عن أن شقيقا للرئيس المنتحر كان قد اتهم سابقا بقبض عمولات ورشاوي من الشركة ذاتها مقابل تعيين أحد أقارب صاحب الأخيرة في وظيفة عليا بمصلحة الضرائب.

وهكذا أصبح الرئيس الذي وصف في وقت من الأوقات بأبراهام لينكولن كوريا في إشارة إلى نضاله الطويل من اجل العدالة والمساواة والشفافية والنزاهة ودفاعه عن حقوق المظلومين والمضطهدين ودعوته المتكررة إلى تحقيق توزيع أفضل للثروة ومحاربة البطالة المتزايدة والفساد المتفشي وإصلاح سلطات الرئاسة، ناهيك عن عمله الدؤوب من اجل إبعاد شبح الحرب عن شبه الجزيرة الكورية عن طريق مواصلة ما بدأه سلفه من انفتاح على بيونغيانغ من خلال ما عرف بسياسة "الشمس المشرقة" .. أصبح صاحب سيرة ملطخة، ولم ينفعه كل ما قدمه لبلاده وشعبه من جهود ومواقف، وخصوصا جهوده لجهة الحيلولة دون وقوع تصادم عسكري ما بين واشنطون وبيونغيانغ تكون كوريا الجنوبية ساحته، وذلك حينما وصلت علاقات العاصمتين إلى مرحلة حرجة في السنوات الأخيرة بسبب إصرار الولايات المتحدة الأمريكية على أن تجمد كوريا الشمالية قدراتها وبرامجها النووية , وإصرار الأخيرة على أنها لن تفعل ذلك قبل وقف الأميركيين للغة التهديد والعودة الى التفاوض .

إزاء هذا الوضع، لم يجد الرجل بدا من وضع نهاية لحياته فاختار أن يمحي التشويه والمهانة التي طالت صورته كرئيس نزيه ومدافع صلب عن العدالة و الشفافية بطريقة مأساوية محزنة هي الانتحار قفزا من تلة قريبة من منزله في مسقط رأسه في بوسان (الأمر الذي أدى إلى إصابته بإصابة قاتلة في الرأس) وذلك بعدما ترك رسالة على جهاز حاسوبه الخاص يقول فيها : "إني أدين للكثير من الأشخاص. أشخاص كثيرون عانوا بسببي وأنا لا أستطيع أن أتصور الآلام التي سيمرون بها في المستقبل"، وأضاف " لا يمكنني تخيل الآلام التي لا تحصى والتي ستواجهها بقية عائلتي". وفي فقرة أخرى قال الرئيس السابق المنتحر "لا تحزنوا. أليست الحياة والموت من الطبيعة.. لا تشعروا بالأسف ولا تلقوا باللوم على أي احد. هذا هو القدر. رجاء احرقوا جثماني، ورجاء ضعوا شاهدا صغيرا على قبري قرب منزلي. فكرت كثيرا في هذا الأمر".

إن المفارقة الماثلة أمامنا هي أن كل الزعماء الكوريين الخمسة الذين انتخبوا منذ العمل بالدستور الديمقراطي في عام 1987 وتعاقبوا على السلطة، دخلوا إلى البيت الأزرق وهم يحملون تاريخا ناصعا في البذل والعطاء والنضال أو وهم على قدر كبير من العلم والثقافة الرفيعة والتجربة الثرية، لكنهم خرجوا جميعا من السلطة بسمعة ملطخة بعار الفساد، الأمر الذي يضعنا أمام ظاهرة صعبة التفسير (وان عزاه المحلل السياسي الكوري " لي بيول تشول " زميل معهد السلام والتعاون في سيئول، وهو معهد استشاري محايد إلى ثقافة الفساد المتفشية في كل مفاصل الدولة والمجتمع حتى وصلت إلى السلطة التي يجب أن تكون في منأى تام عنه وتعاقب المتورطين فيه ألا وهي السلطة القضائية، فيما أرجعه الأكاديمي " كيم سونغ هاك " إلى الثقافة الكونفوشوسية التي تراعي الضمانات الاجتماعية غير المكتوبة، بمعنى أن رأس الحكم أو الإدارة مسئول شفاهة عن تقديم تسهيلات وضمانات للرعية مقابل قيام هؤلاء بدفع الثمن له في أشكال مختلفة مادية وغير مادية مثل الولاء والطاعة وتجنب الخيانة

و من ناحية أخرى علق محلل كوري آخر على الواقعة قائلا: "إذا كانت السلطة مفسدة، فان على الكوريين الجنوبيين أن يكونوا شاكرين لأن خمسة من رؤسائهم المنتخبين منذ ميلاد الديمقراطية في عام 1987 لم يمتلكوا من القوة والنفوذ المطلق ما يساعدهم على إخفاء فسادهم في بلاد اعتادت أن ينخرط مدراء شركاتها وأقاربهم وزوجاتهم وأبناؤهم وبناتهم في أعمال الفساد، كل بحسب ما تحت يديه من سلطات ونفوذ وصلاحيات، بل في بلاد اعتادت صحافتها أن تشير إلى مثل هذه القضايا قبل التأكد منها وتجعلها مادة دسمة للقيل والقال".

وهذا صحيح، فالأموال التي يقال أن روه وزوجته قد تلقوها من رجل الأعمال "بارك" على سبيل الرشوة مقابل تعيين أسماء معينة في مناصب رفيعة، لا تقارن من حيث الضخامة بمئات الملايين من الدولارات التي استولى عليها الرئيس العسكري الأسبق " تشون دو هوان " في أعقاب اغتيال باني نهضة كوريا الجنوبية الصناعية الديكتاتور " بارك تشونغ هي ".

وحينما جاء الرئيس "روه تاو وو " (الذي وضع البلاد على طريق الديمقراطية تحت ضغط احتجاجات الطلبة ومظاهراتهم في يونيو 1987 ) إلى سدة الرئاسة خلفا لزميله في الكلية العسكرية " تشون دو هوان " قيل أنه حال دون ملاحقة الأخير بتهم الفساد مقابل حصوله منه على بلايين الدولارات.

وكما هو معروف فان كلا الرئيسين ( تشون دو هوان وخلفه المباشر روه تاو وو) أجريت لهما محاكمة في ديسمبر عام 1992 أثناء عهد أول رئيس مدني منتخب منذ زوال الديكتاتورية العسكرية، ونعني بذلك عهد الرئيس "كيم يونغ سام"، لكن المحاكمة لم تكن ذات علاقة بفسادهما ونهبهما للمال العام، وإنما حول طريقة تعاملهما القمعي المفرط مع حركة الاحتجاجات الطلابية في جامعة "كوانغجو"والتي أدت إلى مقتل ما لا يقل عن مائتي طالب وطالبة بالرصاص الحي.

وقد حاول الرئيس "كيم يونغ سام " في عهده أن يظهر بمظهر الرئيس الحازم، صاحب الإدارة النظيفة والكف غير الملوث والسمعة الحميدة في اجتثاث الفساد والمفسدين من خلال جلبهم إلى القضاء، غير أن ما شجع الكثيرين على الاستخفاف به وبقراراته وبالتالي التمادي في الفساد والإفساد هو تورط ابنه "كيم هيون تشول" في فضيحة تلقي رشاوي من إحدى الشركات الصناعية العملاقة، وعدم قيام الرئيس بمحاسبته، ناهيك عن الأنباء التي شاعت حول قيام الرئيس نفسه بقبض رشاوي من مجموعة " كيا " العملاقة لصناعة المركبات وغيرها من الشركات مقابل دعوتهم لحفلات العشاء في القصر الرئاسي.

بعد ذلك جاء عهد الرئيس "كيم داي جونغ " الذي اعتبر علامة فارقة في تاريخ كوريا الجنوبية، ليس لأنه صاحب قدرات ومواهب سياسية وإدارية لم يحظ بها أسلافه فقط، لكن أيضا لأن سيرته كانت خالية تماما مما قد يمس ذمته، على العكس من كل أسلافه. غير أن الرجل كما أسلفنا غادر البيت الأزرق وسمعته أيضا ملطخة كنتيجة لانغماس أولاده الثلاثة في الفساد واستغلالهم لاسم والدهم في الاثراء غير المشروع. وحينما كان الرجل يستعد لمغادرة منصبه في عام 2003 كان الأولاد الثلاثة قد وجدوا مذنبون من قبل المحكمة العليا بتلقي الرشاوي بصورة أو بأخرى. بعيدا عن فساد الأبناء، شاع أن الرئيس "كيم داي جونغ " نفسه دفع رشوة بمقدار نصف مليار دولار إلى الزعيم الكوري الشمالي "كيم جونغ ايل" من اجل أن يبعث الأخير إليه دعوة رسمية لزيارة بيونغيانغ، وكي يحفظ الرجل ماء وجهه أما شعبه فلا يبدو كالمتوسل إلى ديكتاتور الشطر الشمالي بغية الترحيب به في بيونغيانغ.

د. عبدالله المدني
*باحث ومحاضر أكاديمي في الشئون الآسيوية من البحرين
تاريخ المادة: يونيو 2009
الايميل:

ليست هناك تعليقات: