الجمعة، يونيو 05، 2009

خمسة حزيران

عدنان الظاهر


1ـ خمسة حزيران 1967

2ـ خمسة حزيران 1972

3ـ خمسة حزيران 1972

ثلاث خمسات لثلاثة حزيرانات فيا سبحانَ الذي جمعهنَّ من دون ميعاد !

الخمسة الحزيرانية الأولى معروفةٌ للجميع . لقد كانت كارثةً سوف لن تنساها الأجيالُ . كنتُ وقتها ما زلتُ طالبَ دراسات عليا في جامعة موسكو فجاء النباءُ صدمةً كبرى أنستني دراستي وأبحاثي فتركتُ مختبراتي وهمتُ في الشوارع على وجهي أبكي مرةً وأغني أغانيَ حزينةً مرّاتِ . كنا قبل الخامس من ذاك الحزيران المشؤوم متفائيلين واثقين أنَّ النصرَ على العدو أكيدٌ بل قابَ قوسين أو أدنى . زار موسكو قبيل الحربَ محافظُ الإسكندرية واجتمع بالطلبة العرب بحضور السفير المصري فشاعت أجواء التفاؤل والثقة بالنفس رغم توتر الأوضاع هناك وخاصةً بعد إغلاق مضايق تيرانَ بوجه الملاحة وكانت مخالفةً دولية وخطاً جسيماَ إقترفه المرحومُ عبدُ الناصر وما كان السوفييات مرتاحين من تلك الخطوة. أتذكّرُ النقاشات الحادّة التي كانت تدور بين الطلبة العرب وبين عناصرَ من اليهود السوفيات المناصرة لإسرائيل . إنقسمَ هؤلاء بخبث وذكاءٍ إلى فريقين ، فريقٌ يُدافعُ عَلَناً وبحرارةٍ عن حق إسرائيل في النصر وإحتلال أراضي العرب دفاعاً عن نفسها ، وفريق أكثر خبثاً ودهاءً يدافع عن السياسة السوفياتية ويبرر وقوفها موقفاً شبهَ محايدٍ من الحرب خاصةً والصراع عامةً وأنَّ الإتحادَ السوفياتي لم يتدخلْ عسكرياً إلى جانب " صديقه " عبد الناصر . كانوا يقولون إنَّ عبدَ الناصر ليس حليفاً للإتحاد السوفياتي وإنَّ مصرَ ليست عضواً في حلفِ وارشو وهذا بالطبع صحيح . كما كان هناك إنقسام أقلَّ حدةً وأقل وضوحاً بين الروس أنفسهم من غير اليهود ، بل وحتى بين الشيوعيين أعضاء الحزب الشيوعي السوفياتي . أخذ ـ على سبيل المثال ـ الخلاف الشخصي والتنافس الشخصي / العلمي بين باحثتين علميتين في قسم الكيمياء الشعاعية التابع لكلية الكيمياء في جامعة موسكو ... أخذ هذا الخلاف طريقه للسياسة فانحازت واحدةُ إلى جانب العرب وانحازت الأخرى لجانب إسرائيل . كيف عرفتُ ذلك ؟ طلبت الأولى مني تقديمَ محاضرةٍ في القسم عن هذه المسألة وحددتْ زمانَها وفعلتُ ما طلبت مني . حضرَ جمهورٌ كبير من منتسبي القسم أساتذةً وعمالاً وطلبةً وفنيين وباحثين وكان لقاءً حميماً ونقاشات لم تكنْ لتخلو من بعض الحدّة فكانت الباحثةُ صديقةُ إسرائيلَ إياها من أشدِّ المعارضين لي ولمحاضرتي وأكثر الجميع صراحةً وصفاقةً في تأييدها لإسرائيل . عرفتُ فيما بعدُ أنَّ أمّها ، أمها فقط ، يهودية !! نشطت بعد حرب الأيام الستة عام 1967 في موسكو وسواها من مدن الإتحاد السوفياتي عصابات صهيونية فمارست ملاحقة وإستفزاز الطلبة العرب والإعتداء على بعضهم بل وقتلوا عدداً منهم . كانت أياماً وظروفاً صعبةً مُعقدَّةً خاصةً وكنا مجردَ طلبةٍ أجانب لا حولَ لنا ولا قوّة . لا يعرفُ طعمَ مرارةِ الذل والهزيمة والإحباط إلا مَن جرّبها ومَن عاناها . يردسْ حيلْ الماضايكها ! [ الكابتُ الهمَّ أضعافاً يُعانيهِ ... ]] . وكحملةٍ تضامنية مع مصر المنكوبة عمل الطلبةُ العربُ عمّالَ بناءٍ والتبرع بما يأتيهم من أجور لمصرَ ومجهودها الحربي لإعادة بناء القوات المسلحة المصرية .

وماذا عن خمسة حزيران الثانية والثالثة ؟ ولماذا التوافق بين خمستين لحزيرانين في عام واحد هو1972 ؟ سؤال وجيه وجوابي هو : إنه توافقٌ مشؤومٌ حصل فيه حدثان كبيران وفقَ كافة المقاييس والمعايير الإنسانية والسياسية . ففي 05.06.1972 توعّكت صحةُ والدتي ثم غابت عن الوعي إثر ذبحة صدرية خطيرة . وفي هذا اليوم ، وقبل توعّك الوالدة ، كان قرارُ تأميم نفط حقولِ كركوك فكيف اجتمعَ هذان الحَدثان الكبيران المتناقضان في يومٍ واحدِ ؟! فرحةٌ وتظاهراتٌ جماهيرية صاخبةٌ في شوارع بغدادَ وأسىً وحزنٌ ونكبةٌ في بيتي في شارع المغرب بجوار مستشفى الطبيب العسكري وليد الخيّال . أطاحُ اللهُ حظّكَ يا زمان ! أطاحَ اللهُ حظك ! كيف جمعتَ النقيضين في زمن واحدٍ : فرحةٌ وإحتفالاتٌ في الشوارع ومناحةٌ في بيتي ؟ رقصٌ وفرحٌ وهلاهل في الشوارع وظلامٌ وبكاءٌ في بيتي حيث كنتُ وطفلي أمثل ( أقلَّ من عامين من عمره ) محيطين بالوالدة التي كانت تُحتَضرُ . أيُّ زمانٍ هذا ، أيُّ زمان ؟ بعد تأميم حقول نفط كركوكَ بدأت مأساة العراق والعراقيين مع البعث ونظام حكمه في نهج التبعيث على مراحل مُخططة بدقة وأناة كما يلي :

1ـ الإغراء ـ الإقتاع ( فترة سيطرة أحمد حسن البكر )

2ـ الإغراء ـ الضغط ( فترة بدايات صعود نجم صدام حسين / فترة التوازن القلق والإصطفافات الحزبية في قيادات حزب البعث والمساومات الشاقّة العلنية والخفيّة على الهيمنة المُطلقة بين البكر وصدام . زوال خطر الحركة القومية الكردية وتوقيع إتفاقية آذار 1975 بين صدام حسين وشاه إيران في الجزائر ) .

3ـ الإغراء ـ التهديد الصريح ( حُقبةُ هيمنة صدام المطلقة على حزب البعث والجيش والحكومة والدولة العراقية وبوجود البكر رئيساً للجمهورية وأميناً لسرِّ القيادة القطرية في العراق ثم بعد تنحيته وفرض الإقامةِ الجبريةِ عليه وصعود صدام حسين رئيساً للجمهوية وحاكم العراق المطلق وزعيمَ حزب البعث العربي الإشتراكي ) .

وهكذا وجدَ أغلبُ العراقيين أنفسهم على مَرِّ الأعوام تدريجاً ورويداً رويداً ويوماً بعد يومٍ أعضاءَ في حزب البعث أو أصدقاءَ ومناصرين أو ـ لشديد الأسف ـ كتبة تقارير وشرطة أمن ومخابرات ومخبرين متطوعين أو مأجورين يراقبون الجيران وأهل بيوتهم ويسجلون الصغيرةَ والكبيرةَ . فلا من غرابةٍ إنْ رأينا العراقَ ـ كما كان مُتوَقّعاً ـ يسقط خُلُقياً وسياسياً واجتماعياً وعقائدياً من ثم جاءه السقوط الحتميُّ المُنتَظرُ الأكبرُ فالحياةُ تفاعلٌ مُتسّلسلٌ وفعلٌ وردُّ فعلٍ وسببٌ ونتيجةٌ . النهايات تحددها البدايات ، وقد تحدّدَ مصيرُ العراق مّذْ أنْ جاءَ حزبُ البعث للسلطة ثانيةً صيف عام 1968 وما جرى للعراقيين من مصائبَ وكوارثَ وويلاتٍ بعد ذلك خلال مرِّ السنين العِجاف المريرة .

ليست هناك تعليقات: