الأربعاء، فبراير 17، 2010

أين العرب اليوم من تجربة الوحدة المصرية – السورية؟

صبحي غندور

في 22 شباط/فبراير من العام 1958، قامت في الشرق العربي دولة: "الجمهورية العربية المتحدة" التي جمعت بين مصر وسوريا واستمرت حتى يوم 28 أيلول/سبتمبر من العام 1961. هذه الدولة قال عنها قائدها آنذاك، جمال عبد الناصر: "لقد بزغ أمل جديد على أفق هذا الشرق، إنّ دولة جديدة تنبعث فى قلبه، لقد قامت دولة كبرى فى هذا الشرق ليست دخيلة فيه ولا غاصبة، ليست عادية عليه ولا مستعدية، دولة تحمي ولا تهدّد، تصون ولا تبدّد، تقوى ولا تضعف، توحّد ولا تفرّق، تسالم ولا تفرّط، تشدّ أزر الصديق، تردّ كيد العدو، لا تتحزّب ولا تتعصّب، لا تنحرف ولا تنحاز، تؤكّد العدل، تدعم السلام، توفّر الرخاء لها، لمن حولها، للبشر جميعاً، بقدر ما تتحمل وتطيق".

***

إنّ دولة الوحدة عام 1958 لم تكن حصيلة ضمٍّ قسري أو غزوٍ عسكري من دولة عربية على دولة عربية أخرى مجاورة. أيضاً، لم تكن وحدة مصر وسوريا بناءً على رغبةٍ أو طلبٍ من القاهرة جرى التجاوب معه من دمشق، بل كانت حالة معاكسة حيث كانت القيادة السورية برئاسة شكري القوتلي (والتي وصلت للحكم في سوريا نتيجة انتخابات شعبية) هي التي تلحّ في طلب الوحدة مع مصر بناءً على ضغوط شعبية سورية.

إذن، أين كان مكمن المشكلة في هذه التجربة الوحدوية العربية الفريدة، ولِمَ تعثّرت وحدث الانفصال بعد ثلاث سنوات؟

حتماً لم تكن المشكلة في المنطلقات والغايات، بل كانت في الأساليب التي اتّبعت خلال تجربة الوحدة. فكلّ عمل إنساني ناجح (على مستوى الأفراد والجماعات) يشترط تكاملاً سليماً بين "المنطلق والغاية والأسلوب"، وهذا ما لم يحدث في تجربة الوحدة بين مصر وسوريا، إذ أنّ المنطلق كان سليماً حيث حصلت الوحدة بإجماع شعبي في البلدين وبضغط شديد من الجانب السوري. كذلك كانت الغاية سليمة في كلّ أبعادها، لكن العطب كان في الأساليب التي استخدمت من أجل تحقيق الوحدة وفي سياق تطبيقها. فالوحدة الاندماجية الفورية بين بلدين لا تجمعهما أصلاً حدود مشتركة، وبينهما تباينات في البنى الاجتماعية والاقتصادية والتجارب السياسية، كانت خطأ ساعد على نموّ المشاعر السلبية بعد تطبيق الوحدة. أيضاً، وهذا هو الأهم، فإنّ إدارة الإقليم الشمالي (سوريا) كانت خاضعة لسلطة حاكم مصري (المشير عبد الحكيم عامر) الذي كانت أولوياته وأساليبه الأمنية والسياسية عناصر غير مشجّعة على الاندماج المطلوب آنذاك بين الشعبين.

فلو لم يكن هناك مناخ سلبي لدى الشعب السوري حصيلة ممارسات "الحاكم المصري" خلال تجربة الوحدة، لما نجح الانفصاليون السوريون في انقلابهم، ولخرج الشعب السوري إلى الشوارع يومياً لإحباط مؤامرة الانفصال.

لقد كان ذلك درساً قاسياً لجمال عبد الناصر، وقد امتنع عن استخدام القوة العسكرية للحفاظ على تجربة الوحدة رغم أنّ ذلك كان متاحاً من الناحية القانونية وممكناً عسكرياً. لكن ناصر اختار أن تبقى سوريا واحدة على أن تبقى سوريا في الجمهورية العربية المتحدة. فقد أدرك أنّ تدخّله ضدّ الانفصاليين سيؤدّي إلى حرب أهلية سورية إضافةً إلى صراع دموي سوري/مصري في كلّ الأحوال. وقد قال آنذاك: "ليس المهم أن تبقى الجمهورية المتحدة، بل المهم أن تبقى سوريا".

هذا القيادي العربي التاريخي اختار الهزيمة السياسية لمشروع وحدوي مهم، وله شخصياً، من أجل الحفاظ على وحدة بلد عربي آخر، ولصيانة تجربة الوحدة من حرب أهلية، ولمنع إراقة الدم العربي حتى من أجل غاية عربية نبيلة.

ولعلّ انهيار تجربة الوحدة بين مصر وسوريا (عام 1961) شكّل أفضل مثال على مخاطر المزيج بين سلبيات البناء الداخلي وبين حجم التحدّيات الخارجية. فلم تكن جريمة الانفصال حصيلة مؤامرات خارجية فقط، إذ كانت هشاشة البناء الذي قامت عليه تجربة الوحدة هي العامل الأهم في حدوث هذا الانفصال.

لكن هزيمة العام 1967 كانت نقطة تحوّل كبيرة في التجربة الناصرية حيث أدتّ الهزيمة إلى تطهير الجسم السياسي والعسكري القيادي في مصر، ولإعادة البناء السليم للمؤسسة العسكرية، ولوضع أولويات المعركة ضدّ إسرائيل على حساب أي صراعات عربية أخرى، ثمّ بدء حرب استنزاف عسكرية على جبهة قناة السويس مهّدت عملياً لحرب العبور في أكتوبر عام 1973.

أيضاً، استفادت التجربة الناصرية من دروس الانفصال وانتكاسة دولة "الجمهورية العربية المتحدة"، إذ تبيّن أنَّ زخم المشاعر الشعبية لا يكفي وحده لتحقيق الوحدة، وأنَّ هناك حاجةً قصوى للبناء التدريجي السليم قبل تحقيق الاندماج بين بلدين عربيين أو أكثر. وهذا ما حرص عليه عبد الناصر عقب حرب 1967 حينما رفض المناشدة اللّيبية ثمَّ السودانية للوحدة مع مصر، واكتفى بخطوات تنسيق معهما رافضاً تكرار سلبيات الوحدة الفورية مع سوريا.

حقبة الخمسينات من القرن الماضي كانت حقبة تحرّر وطني وقومي ودعوة لتوحّد أقطار وشعوب الأمّة الواحدة. أمّا الآن فهاهي الأمّة العربية تعاني من انعدام التضامن العربي ومن الانقسامات والصراعات، ومن هشاشة البناء الداخلي وغياب الأوضاع الدستورية السليمة، مما سهّل ويسهّل الهيمنة الخارجية على بعض أوطانها ويدفع بالوضع العربي كلّه نحو مزيد من التأزّم والانقسام والسيطرة الأجنبية.

إنّ استعراض صورة الواقع العربي الراهن تؤدّي للأسف إلى نتيجةٍ سلبية، وإلى اليأس ربّما والقنوط عند البعض، بسبب الشرخ الخطير داخل الشعب الواحد في كلّ بلدٍ عربي.

وأسئلة كثيرة تدور الآن عن غايات وأبعاد الطروحات والممارسات الطائفية والمذهبية أو العرقية التي تسود عدّة بلدان عربية بشكلٍ لم يسبق له مثيل في التاريخ العربي الحديث.

ويكبر حجم الأسئلة حينما نرى مثلاً هذا التركيز الإعلامي والسياسي في المنطقة، على تفسير أي حدثٍ فيها بشكلٍ طائفي أو مذهبي ثمّ توزيع المناطق والمنظمات والحركات السياسية على قوالب طائفية ومذهبية.

إنّ المغامرة التي يقودها البعض في بلدان عربية متعددة من أجل تحويل الطوائف والمذاهب والأقليّات العرقية إلى كياناتٍ سياسية منعزلة لن يكون مصيرها إلا نحر الطائفة أو المذهب أو الأقليّة العرقية... وشواهد التاريخ على ذلك عديدة.

إنّ استمرار التداعي في الانقسام عربياً ومواصلة الفرز الطائفي أو العرقي بين مجموعات الشعب الواحد في كلّ بلد عربي، هو مسؤولية عامة تشمل المجتمع ككل، ويحمل أيضاً المخاطر للأجيال المقبلة.

إنّ إعفاء النّفس العربيّة من المسؤوليّة هو مغالطة كبيرة تساهم في خدمة الطّامعين بهذه الأمّة والعاملين على شرذمتها، فعدم الاعتراف بالمسؤوليّة العربيّة المباشرة فيه تثبيت لعناصر الخلل والضّعف وللمفاهيم التي تغذّي الصّراعات والانقسامات.

إنَّ الهويَّة الوطنية لا يجب أن تتعارض مع الدعوة للانتماء القومي، بل إنَّ تعزيزها (أي الهويَّة الوطنية) يساهم في إذابة الانقسامات القائمة داخل البلاد العربيَّة على أساس طائفيٍّ أو قبليٍّ أو عرقيّ، حيث تصبح الوحدة الوطنية داخل كلِّ وطنٍ عربي هي أساس الدعوة للوحدة العربيَّة، وحيث يكون الولاء للوطن الواحد أرفع درجةً من الولاء للطائفة أو القبيلة أو العشيرة.

وبهذا تكون دولة "الولايات المتحدة العربيَّة" المنشودة هي حصيلة تكامل "الوطنيات" العربيَّة وليست نتيجة سيطرة إقليمية على إقليميةٍ أخرى..

ليست هناك تعليقات: