الثلاثاء، ديسمبر 11، 2007

اربعون عاما على انطلاقة جبهة"حكيم الثورة الفلسطينية"..!

د. صلاح عودة الله

تمرعلينا الذكرى الأربعون لانطلاقة الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين وشعبنا تعصف به حالة من الانقسام والتشرذم لم يشهد لها مثيلا منذ انتصاب الكيان الصهيوني.
المؤسس:
الدكتور جورج حبش: مناضل فلسطيني كرّس حياته للعمل الدؤوب والمتواصل من أجل القضية الفلسطينية والصراع العربي الإسرائيلي ومستقبل أفضل للأمة العربية. طبيباً تحول إلى طريق النضال ليعالج جراح شعبه ويعيش هموم أمته، مؤمناً بالهوية العربية وبحتمية الانتصار وهزيمة المشروع الصهيوني على الأرض العربية. عندما بدأت الاتصالات السرية بين القيادة الفلسطينية وإسرائيل بإشراف ورعاية أمريكية بعد مؤتمر مدريد عام 1991 ونتج عنها اتفاق أوسلو عام 1993 عارض الدكتور حبش بشدة تلك الاتفاقيات التي أدت إلى إلغاء الميثاق الوطني الفلسطيني في مرحلة لاحقة، إيماناً منه أن هذه الاتفاقيات لم تلب الحد الأدنى من طموحات الشعب الفلسطيني في إقامة دولة فلسطينية كاملة السيادة فوق تراب فلسطين وعودة اللاجئين إلى وطنهم. بعد قيام "السلطة الفلسطينية" وعودة الكثير من القيادات الفلسطينية إلى أراضي السلطة الفلسطينية، ربط الدكتور حبش عودته إلى تلك المناطق بعودة جميع اللاجئين الفلسطينيين، رغم المناشدات والرسائل الكثيرة التي وجهت له، رافضاً التخلي عن اللاجئين. لقد مثل هذا القائد عشقه للوطن والثورة في سياق رده على مناقشة أتفاق السلام مع العدو الذي قال عنه الشهيد ياسر عرفات "إن هذا الاتفاق هو الممكن" فرد عليه حبش "إن الثورة الفلسطينية قامت لتحقق المستحيل لا الممكن". من اقواله: "تستطيع طائرات العدو أن تقصف مدننا ومخيماتنا وتقتل الاطفال والشيوخ والنساء ولكن لا تستطيع قتل إرادة القتال فينا". "لا تستوحشوا طريق الحق لقلة السائرين فيه". "أنا مسيحي الديانة ، اسلامي التربية، اشتراكي الفكر". "لا عذر لمن أدرك الفكرة وتخلى عنها". الاستقالة : عام 2000 قدم استقالته من منصب الأمين العام للجبهة في المؤتمر السادس، فاتحاً بذلك فرصة لرفاق آخرين، معطياً بذلك المثل والنموذج للتخلي الطوعي عن المسؤولية الأولى، رغم تزامن هذه الاستقالة مع عدم رضاه على بعض المواقف السياسية التي اتخذتها الهيئات القيادية للجبهة آنذاك, وبذلك يكون قد حرص على تنفيذ قاعدة لم نعهدها في التاريخ العربي والتي تقول بانه لا يجوز للقيادات ان تبقي في مواقعها الي أن "يأخذ الله امانته" منها فأعطى جورج حبش مثالا حيا علي هذا المفهوم. استمر الدكتور حبش بتأدية دوره الوطني والسياسي، فالاستقالة من الأمانة العامة للجبهة لم تكن تعني أبداً التخلي عن النضال السياسي الذي أمضى ما يزيد عن خمسين عاماً مكرساً حياته من أجله، فاستمر في تأدية هذا الدور، وخاصة في ظل الانتفاضة الثانية والمتواصلة، وبقي على تواصل دائم مع الهيئات القيادية للجبهة ومع كافة الفصائل الوطنية والمؤسسات والفعاليات الوطنية الفلسطينية والعربية، الرسمية منها والشعبية. في زمن كهذا قل أن تجد إنسان ملتزم بمبادئه ولا يحيد عنها قيد أنملة..هذا هو الحكيم الذي عرفناه عن قرب,جبل المبادئ قد رسى ... فطأطأت التلال رؤوسا...!
من بيان انطلاقة الجبهة: "أيها المناضلون في كل مكان على الأرض الفلسطينية..أيها العمال والفلاحون ..يا فقراء شعبنا ونازحيه .. أيها الطلاب المثقفون .. أيها الموظفون والتجار: هذه هي البداية ترفع فيها جبهتكم الشعبية رايات الفداء والصمود والتحدي . ونحن من على أرض الكفاح المسلح لا نعدكم بالأحلام الوردية ، ولكن بمزيد من القتال ، من الصمود ، من التعبئة السياسية ، من الدفاع عن الجماهير العزلاء ضد الإنتقام بكل طاقاته فالقتال الذي نخوض خطواته اليوم طويل وقاسي ومرير ، وأنتم قيادته ومادته وأصحاب الفعل الحقيقي فيه ، إن معركتنا هذه ليست بالمعركة السهلة أو السريعة ولكنها معركة مصير ووجود تحتاج إلى نفس طويل وقدرة على الإستمرار والصمود". في سياق الانعطافات المتتابعة في فروع حركة القوميين العرب في الأقطار العربية التي تواجدت فيها، وبروز البدايات العملية للمقاومة الفلسطينية على يد قوى أو أطر أو مجموعات بعضها منافس للحركة. تم عقد مؤتمر نيسان/أبريل 1963 في بيروت، والتأسيس لانطلاقة الجناح العسكري الفلسطيني من رحم الحركة بمشاركة بعض المجموعات الفلسطينية، في الوقت الذي تسارعت فيه مفاعيل الدخول القوي لتنظيم اقليم فلسطين في حركة القوميين العرب بعد حرب 1967 ونتائجها الكارثية، فأعلن الدكتور جورج حبش قيام الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين في 11/12/1967، عبر بيانها التأسيسي الموجه للشعب الفلسطيني والأمة العربية، والداعي "لاعلان الكفاح المسلح والاستمرار فيه بالرغم من كل الصعاب"، والى اعتماد "لغة العنف الثوري ضد الاحتلال"، مركزاً على أهمية العمل في الداخل الفلسطيني، وعلى تكريس "شعارنموت ولا نهاجر"، ومؤكداً على ضرورة مصارحة الجماهير، فطرحت الجبهة الشعبية شعار: "كل الحقيقة للجماهير".
وفي الخلفية التاريخية، كانت قيادة حركة القوميين العرب قد اتخذت قرارها عام 1960 بـتكوين جهاز فلسطيني خاص عرف باسم "إقليم فلسطين"، حيث تم الأمر عام 1964 من خلال فرز كادرات هذا الإقليم من الفلسطينيين المنتمين للحركة من مختلف مناطق تواجدهم، وتم بعد ذلك عقد مؤتمر لإقليم فلسطين في منطقة غور الجفتلك، وكان من أبرز حضوره كل من الشهيدين الدكتور وديع حداد، وأبوعلي مصطفى، وتم البدء العملي باتخاذ خطوات الإعداد للعمل الفدائي المسلح.
الانضباط في الجبهة:
أن أي تصريح يصدر يكون وفق المتعارف عليه تنظيمياً وحزبياً ترجمة لموقف المكتب السياسي أو اللجنة المركزية للجبهة الشعبية ولا يخرج عن نطاقها ، بعيداً عن الاجتهادات الشخصية للقادة التي لا مكان لها في ظل الانضباط الداخلي في الجبهة الشعبية ، والتي لا زالت تحتكم إليه في عملها الحزبي والسياسي ، وأي خروج عن هذا الانضباط يعرض صاحبه لأقسى العقوبات الحزبية والتي تصل في بعض الأحيان للفصل أو الطرد ،وهنا تستحضرني مقولة القائد الفذ -( والذي اطلق عليه الشهيد عرفات لقب"حكيم الثورة")- جورج حبش الشهيرة "إما وديع، وإما الانضباط" والتي قالها في اعقاب قرار الجبهة ايقاف اختطاف الطائرات والعمل العسكري الخارجي لانه استنفذ, ولكن وديع حداد رفض ذلك واتخذ قرار بفصله بالرغم من انه كان الرجل الثاني في الجبهة.. وانتصر الانضباط واستشهد وديع وحيداً لأنه لم يمتثل للإنضباط رغم عدالة موقفه الكفاحي، فلم يخرج تيار" وديعي"، ولم تستل السيوف لتمزيق الجثة كما يحصل في تنظيمات وحركات اخرى.
الجبهة اليوم: كثيرا ما يتساءل الناس استغرابا عن أسباب هذه الفجوة الواسعة بين حجم الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين وامتدادها الجماهيري من جهة، وبين حضورها السياسي والثقافي والاجتماعي وتأثيرها المباشر في صياغة وتحديد مسارات العمل السياسي الفلسطيني على مدى ما يقارب الأربعين عاما الماضية من جهة أخرى.
هذه المساهمة التي جعلت الجبهة الشعبية الفصيل الثاني في منظمة التحرير الفلسطينية رغم الفرق الهائل في الرصيد العددي والإمكانيات المالية بينها وبين الفصيل الأول (فتح). علما بأن حضور وتأثير الجبهة زمنيا لا يرتبط بلحظة الإعلان عن انطلاقتها، بل يسبق ذلك إلى منتصف القرن الماضي مع بزوغ حركة القوميين العرب التي تفرعت عنها الجبهة كتعبير فكري سياسي تنظيمي مختلف ولكنه لا يقطع جذريا مع أصوله.
مياه كثيرة جرت من تحت جسر الجبهة الشعبية وحركة التحرر الوطني الفلسطيني ولم تعد المرحلة تحتمل ترف التنظير أو الاتكاء علي الخطاب التقليدي السابق من دون أخذ المتغيرات العاصفة بل والمذهلة التي طرأت علي القضية الفلسطينية وعلي النظام العربي بشكل عام وعلي موازين القوي التي ما زالت ماثلة بقوة لصالح "اسرائيل" ولا يبدو في الافق العربي الراهن ان محاولة جادة حقيقية ذات رؤي ورؤيا قومية ستجد فرصتها بعد ان وصلت الانظمة العربية الراهنة الي قناعات بأنها تختار السلام كخيار استراتيجي من دون ان تتحدد ملامح هذا السلام أو تحصل من" اسرائيل" علي مفهوم للسلام يقارب الحد الادني من الحقوق العربية.
ربما تكون الجبهة الشعبية هي الفصيل الفلسطيني الذي لم يتعرض خلال اكثر من ثلاثة عقود لانشقاقات بنيوية عميقة كما حدث مع الفصائل الاخري التي وصلت الي مرحلة مزرية من التشظي ووجدت نفسها في النهاية ملحقا هامشيا لا حول له ولا قوة. التقليل من حجم الانشقاقات الافقية والعامودية داخل الجبهة الشعبية لا يعني انها لم تؤثر في دورها ولم تربك قيادتها بل ان الهدف هو القول ان المتغيرات التي حدثت ابقت علي تماسك الجبهة رغم التباين الواضح في قراءات قيادتها لاستحقاقات المرحلة وبخاصة تلك التي تلت حرب الخليج وبدء مؤتمر مدريد والمواقف من الوفد الفلسطيني المفاوض (الذي جاء من الداخل) ثم ما حدث بعد ذلك من فتح قناة اوسلو وتسلم قيادة منظمة التحرير مهمات التفاوض مع"اسرائيل".
ان القوى اليسارية والديموقراطية الفلسطينية قد اسهمت بشكل اساسي وفعال في قيادة نضال الشعب الفلسطيني في كافة المراحل, وقدمت تضحيات كبيرة في خضم نضالها الدؤوب لتحقيق اهداف شعبنا, الا انها اخفقت في توحيد مكوناتها وفي بناء تيار وطني ديموقراطي قادرعلى الاستجابة لاستحقاقات المرحلة الجديدة مما همش دورها كقوى منفصلة او حتى مجتمعة.ان الجبهة الشعبية مطالبة مع غيرها من القوى اليسارية والديموقراطية الفلسطينية بدعم وانجاح مشروع التيار الوطني الديموقراطي الجاري..تيار يتسع للاختلاف على قاعدة الاتفاق على اهداف النضال الوطني الديموقراطي.
إذا أرادت الجبهة الشعبية الا تنتقل من مرحلة "الاختباء" إلى مرحلة "الاختفاء" فإن المسؤولية التاريخية تلح عليها بالكف عن هدر تاريخها، والخروج فورا وبلا تلكؤ إلى حيز الحوار مع الشمس الحارقة. عاشت الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين.. نعم لحق العودة, فالعودة حق والحق هو العودة..الحرية للرفيق الامين العام احمد سعدات وكل اسرانا..المجد والخلود لشهدائنا الأبرار..وانها لثورة مستمرة حتى تحرير الأرض والانسان..!
القدس المحتلة

ليست هناك تعليقات: