الأربعاء، ديسمبر 05، 2007

هل آن أوان الحوار النقدي؟....


د. هيثم مناع
أرّخت وفاة الجنرال حافظ الأسد لبداية حركة سياسية ومدنية في سورية أكثر نشاطا وأكثر اتساعا من الأشكال التي عارضت نظامه منذ مجزرة حماه. وكان ما سمي ربيع دمشق فرصة لاكتشاف أقلام نضجت في السجن وشخصيات غيبها العسف والقمع ومبادرات ماتت في مهدها أو وراء القضبان، كذلك انتقالات هادئة أو صاخبة من مؤيد إلى معارض. فكل حاكم جديد، ولو كان ابن أبيه، يهمه وضع بصماته الخاصة وما ينسجم مع شخصيته وطريقته. وكل فترة انتقال تفتح الشهية لإعادة بناء الخارطة السياسية والمدنية. لقد لعب الثلاثي الحزبي مصطفى طلاس وعبد الحليم خدام وعبد الله الأحمر دورا في النظرية والتطبيق لضرورة وجود رئيس شاب يحفظ الاستقرار والاستمرار وتواصل الأجيال. وبرزت عصبية عائلية حول الرئيس الجديد تذّكر بتلك التي بناها الأسد الأب حوله (بسرايا الدفاع وسرايا الصراع آنذاك).
ابتعد النائب رياض سيف عن السياسة الرسمية بالتدريج في ظل منتدى الحوار الوطني. وتشكل منتدى جمال الأتاسي للحوار الديمقراطي بمبادرة من التجمع الوطني الديمقراطي وحزب الاتحاد الاشتراكي الديمقراطي العربي. كذلك شكلت لجان إحياء المجتمع المدني محاولة جدية لعمل مدني يتجاوز حانوت العائلة أو الشلة التي تتحدث في الحقوق المدنية وكأنها ميراث عائلي أو شخصي. وشعر أكثر من نائب بإمكانية بناء مشروع خاص أو هوية أكثر تمايزا عن الجبهة الحاكمة. برزت في الوقت نفسه مطالبات لطيفة في توسيع هامش التعبير لغير البعثيين في الجبهة الوطنية التقدمية. وباختصار بدأت سورية تعيش حقبة جديدة يمكن القول أن العلنية هي القاسم المشترك الأعظم فيها للمهتمين في الشأن العام السوري، في نقلة نوعية من السرية، التي تسهل كل التصرفات والممارسات غير الديمقراطية، إلى العلنية باعتبارها الوسيلة الأفضل للشفافية والصراحة والبساطة الضرورية لأوسع علاقة بالناس. بدأت مخاضات انتقال الحزب الشيوعي (المكتب السياسي) إلى حزب حديث التصور يجمع بين الديمقرطية والعدالة الاجتماعية تأخذ شكلها. كما وباشرت حركة الإخوان المسلمين مراجعات سياسية مركزية أنجبت مشروع الدولة المدنية باعتباره في صميم مشروع الحركة الإسلامية. كذلك شهدت الحركة الناصرية عملية تعميق لدور الديمقراطية في المشروع الوحدوي. وكان المهم في هذه الظواهر، على اختلافها في الأصول والنضج، فكرة أن التغيير أصبح ضرورة عند الحاكم والمحكوم والظالم والمظلوم.
من الضروري القول أن هذه التغييرات كانت من صلب المجتمع السوري وبآلياته الداخلية، لا ضغط خارجي، ولا ثورة برتقالية مددجة بالدولارات الأمريكية، ولا منظمات غير حكومية متخمة بالتمويل الخارجي، ولا أحزاب سياسية تدور في فلك قوى إقليمية أو دولية. لذا كانت تحمل التلقائية والسذاجة والطيبة، تكسر مسلمات الماضي وضبابيات الحاضر، التجربة والخطأ. وبهذا المعنى، فقد انقضّت أجهزة الأمن في خريف دمشق (آب/أيلول 2001) على الوطن عندما انقضت على نخبة اعتبرت المواطنة في صلب تعريفه . هل من الضروري التذكير أن اعتقال عارف دليلة قد سبق أحداث 11 سبتمبر بيومين، أي أن قرار الاعتقالات لعشرة من الناشطين آنذاك قد سبق التغييرات الدولية التي أحدثت زلزالا عميقا في المنطقة؟ وأن القرار كان يشمل أكثر من 37 اسما وصلتنا قائمة بهم لولا الحملة الكبيرة التي حرصنا على هيكلها العربي للخصوصيات السورية المعروفة من فكرة التدخل الدولي، والتي أجبرت السلطة على وقف موجة الاعتقالات.
مع 11 سبتمبر، بدأت المعارضة السورية، بتعبيريها السياسي والحقوقي، أصعب امتحان لها منذ مجزرة تدمر. فهي تحمل ميراثا وطنيا في بلد دستر القومية العربية والديمقراطية الشعبية والاشتراكية وقيادة حزب البعث للدولة والمجتمع. كما وتعيش حالة فصام بين مشروع ديمقراطي يعني بالضرورة الانفتاح على الليبرالية الكوسموبوليتية والحركة الإسلامية السياسية والإطروحات القومية الكردية، من جهة. ومن جهة ثانية أهمية مفهوم السيادة في استرجاع أرض محتلة، والدفاع عن قوى انتاج وتبادل في فضاء محدود، والقدرة على بناء دولة قوية بعد اختزال الكلمة في سلطة أممت مؤسسات إدارة العدل والتشريع والإعلام والانتاج الصناعي والنضال السياسي والثقافي.
ففي قرابة نصف قرن، ارتبطت الدولة بالقومية الأحادية وإنكار وجود الأقليات ورفض فكرة شرعية المعارضة السياسية واعتبار الخطاب الرسمي مقدس الطابع، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه. هذا الوضع أحدث حالة طلاق فعلية بين المواطن والدولة، وجعل أفكارا مثل الهجرة النهائية، عدم الانتماء الوطني لسورية، اعتبار السياسة مغامرة طائشة، مسائل لا تنسجم العقوبة فيها مع حجم الجرم. لم يخلق غياب المساءلة والنقد والمحاسبة فقط تغييبا عن سابق قصد وتصميم لحقوق المواطن، بل وضع الأسس لمنظومة فساد معممة ومتغلغلة على مختلف مستويات الهرم المجتمعي. أصبح الكثير من نخب المعارضة يجدون في حفلات استقبال السفارات الغربية وسيلة حماية من أجهزة أمن ألغت وسائل الحماية الوطنية للأشخاص. أوليس من المفارقات أن أكثر الأقلام جرأة في تشريح سياسة الهيمنة الأمريكية والأوربية تعتبر حضور هذا السفير أو ذاك لمحاكمته انتصارا كبيرا يشار له أكثر من أي مراقب دولي أو عربي مشهود له بالنزاهة؟
لقد تحطم مفهوم الوطنية على صخرة القمع اليومي لسلطة بدت شرعيتها الوحيدة في خطابها الوطني. لكن هل المجتمع السوري قابل، في فترة الاضطراب التي يمر بها، لفكرة تهافت رموز حقوقية أو سياسية على مؤتمر تنظمه مؤسسة نيوليبرالية هنا أو تدعو إليه مؤسسة معروفة بولائها لإسرائيل هناك؟ هل يقبل بناء علاقات وثيقة بما يعرف بالسماسرة الإقليميين من السليمانية إلى بيروت؟ هل أن الحركة السياسية السورية من القوة بحيث يكون لها مكان مؤثر في كل منبر، لا أن تكون مادة احتواء وتوظيف وتعامل على هذا الأساس؟ لقد مررنا بامتحانات صعبة وعسيرة. فقد وجهت المفوضية الأوربية في لحظة الهيجان الأمريكية، وكذلك منظمة ألمانية نيوليبرالية، دعوة لأحد محارم الكلينكس التي أنتجها رامسفيلد وطلب منا الحضور (كذا). يومها ظهر مدى ضعف وهشاشة معارضي "تهافت التهافت" الذين لم يستطيعوا القول بأن الحضور مع أشخاص كهؤلاء هو مساواة بين مناضل ومرتزق، وأننا نستحق أكثر من ذلك. "تهافت التهافت" كان في بعض القيادات السياسية في المنفى التي تطوعت لوحدها لمقابلة هؤلاء!
لقد ظهر للعيان أن المعارضة السورية تشبه في "فترة السماح بالسفر" أهل الكهف. لذا كانت من السذاجة بمكان بحيث يسهل توريطها. كذلك أصّل غياب المقالات النقدية الصريحة في صفوف المعارضة، بدعوى أن النقد يخدم النظام، لثقافة بائسة اسمها سيادة العقلية التآمرية. فهذا يكتب ليزكي سرا، وذاك يعلن أن الأمن بالتأكيد هو مدير غرفة عمليات هذه المنظمة أو تلك، وثالث يفبرك رسائل متبادلة مع أجهزة الأمن أو الوزراء، ورابع يضع سيناريو انضمام خصمه السياسي لجبهة السلطة. وباختصار، لقد انتقلت عدوى "الإشاعة الأمنية"، التي تشكل أهم أبواق النظم التسلطية، إلى صفوف المعارضة، واستعملت ليس فقط من السفهاء بل من بعض "الزعماء"..
الأسوأ من ذلك، أن أية ضحية لهذا الإسلوب الرخيص، أصبحت موضوع شماتة، إن لم نقل ترويج من العديد ممن يختلفون بالرأي مع هذه الضحية. فيوزعون بالتالي الشتيمة والتهمة، وينشرون الخبر وشبه الخبر باعتبار العنعنة فيه (عن فلان وعن علان)، أوثق من عنعنة الأحاديث النبوية. وكأن إضعاف رجل السياسة أو الرمز الحقوقي جزء لا يتجزأ من خلاص الوطن. وهو بأقل التقديرات، تعزيز للمواقع الذاتية ! للأسف نجد هذه الآفة عند العلمانيين والإسلاميين سواء بسواء. وكم كنا نتمنى أن ينتقل الحوار إلى البحث عن مناهج عمل أرقى وتحالفات أكثر صلابة وتخوم أكثر وضوحا ومشاريع أكثر مدنية وتيارات نقدية جديرة بالتسمية.
التقيت بالصدفة في فندق باسطنبول بشاعر صديق من قيادة حركة الإخوان المسلمين في سورية. لم نتواصل منذ تحالف الحركة مع السيد عبد الحليم خدام. ومنذ بداية الحديث، شرح لي أنه يتفهم موقفي الذي يعود لعلاقاتي الوثيقة بالسيد فاروق الشرع العدو اللدود لخدام. كانت الصدمة للحقيقة من مثل هذا الكلام مثل الرصاصة التي تصيب الجسد. لا يشعر المرء بألمها إلا عندما يختلي لنفسه ويسأل: هل يحتاج مناضل سياسي من أجل فهم موقفي إلى ربطي بعلاقة مع أحد الأقارب، الذي اجمعت الصدفة مع مأساة الغربة، أن لا أراه ولا أكلمه في حياتي؟ أليس من السخف أن يختزل الموقف السياسي من أحد أعمدة نظام الجنرال الأسد (خدام) في ابن عم أمي التي شاهدتها ثلاث مرات في ثلاثين عاما؟
فهمت لماذا لم ترد عليّ جبهة الخلاص عندما قلت "من يعوّل على من؟" وأنها ولدت ميتة. فقد قلت وحللت وطالبت بمقاطعة هذا المشروع غير الديمقراطي من أجل عيون فاروق الشرع، على ما يبدو. وما هذه إلا ترهة من ترهات غياب الحوار النقدي الذي يفتح كل قروح تجربتنا. لكنه بنفس الوقت يعطي الجيل القادم أسلحة حقيقية لا أسلحة خشبية لمناهضة منتجة وفاعلة للدكتاتورية.
---------------
مفكر عربي من سورية يعيش في باريس
شام برس

ليست هناك تعليقات: