الأحد، ديسمبر 23، 2007

رسالة مفتوحة إلى جالياتنا العربية في المغتربات

د. غسَّـان شـحـرور
تنتشر جالياتنا العربية في كثير من بلدان العالم لا سيما في أوربا والأمريكيتين، وهي تمثل امتداداً حياً للوطن الأم بكل أبعاده الإنسانية والاجتماعية والثقافية والدينية، وفي كثير من الأحيان، تحمل هذه التجمعات أجمل خصال هذه الأمة وأنبلها، وتنبض بآلامها وآمالها.
وفي خلال أسفاري العديدة للمشاركة في لقاءات علمية وثقافية وإنسانية في مختلف أنحاء العالم، كنت أحرص على زيارة هذه التجمعات الاغترابية وهيئاتها، وجمعياتها، والتعّرف إلى أعضائها، لأنها ببساطة، تبعث العزيمة في نفسي، وتجدد الأمل فيها، رغم حالة الإحباط والإخفاق التي نعيش منذ زمن بعيد.
ومازلت أذكر اللقاء الذي جمعني باتحاد الأطباء والصيادلة العرب النمساويين، والجالية العربية في النمسا، حيث دعيت لتقديم محاضرة عن آثار مخلفات الحروب في أطفالنا العرب، هؤلاء الأطفال الذين يعيشون جحيما لا يطاق، وألما لا يحتمل، بعد أن ُسلبت طفولتهم منهم، لاسيما في العراق، وفلسطين، ولبنان، وقد صدق شاعر الشهداء في وصف هذه الطفولة حين قال:
أطفال ما عرفوا يوماً طفولتهم
ظلماً فلا فرحوا يوماً ولا لعبوا‏
وفي خلال هذا اللقاء في فيينا، شعرت بسعادة غامرة، وأنا ألتقي الحضور من الجالية العربية، فأجدهم عائلة واحدة لم أستطع أن أميز البلاد العربية التي جاؤوا منها، أمن العراق أم بلاد الشام، من مصر أم بلاد المغرب؟ .. لقد شعرت أن هذا المركز الصغير قد جمع أبناء فلسطين واليمن والسودان وكل بقاع الوطن من الخليج إلى المحيط، حقاً إنهم يتابعون أخباره، فيفرحون لفرحه، ويحزنون لحزنه، شانهم في ذلك شأن العديد من أبناء الوطن الأوفياء:
إذا ألمّـت بـوادي النيـلِ نازلـةٌ
باتت لها راسياتُ الشامِ تضطربُ
وإن دعا في ثـرى الأهـرامِ ذو ألمٍ
أجـابهُ في ذرى لبنـانَ منتحبُ
وليس لي هنا إلا أن أوجه هذه الرسالة إلى أبناء جالياتنا العربية في المغتربات، أفرادا وجماعات وجمعيات لأقول لهم:
واصلوا انتماءكم الكبير الواسع، فقد أعمتنا انتماءاتنا الصغيرة الضيقة، لقد وقفت جالياتكم مواقف العز والسؤدد في زمن الهوان والتردي، فلا تجعلوا الزمن العربي الرديء، وتهاون الحكام وهوان الأنظمة، ينال من عزيمتكم وانتمائكم، فيصدق فيكم قول الشاعر:
ما هزها أن العروبة طأطأت
هاماتها وسيوفها خشب‏
ما صوت معتصماه يوقظها
كلا ولا أصوات من غصبوا‏
ولا تجعلوا الجماهير العربية المُجَهّلة والمضّللة تبعث الشك في نفوسكم، واليأس في قلوبكم. لا تجعلوا هذه الجماهير في خنوعها وضعفها وتفرقها، تنال من بصيرتكم، كما يقول الخطيب:
أكاد أومن من شك ومن عجب،
هذي الجماهير ليست أمة العرب
واصلوا نجاحاتكم وإنجازاتكم، الإنسانية والاجتماعية في مجتمعاتكم الجديدة، وواصلوا رسالتكم الحضارية، فنحن نزهو بكم ونكبر، فما أحوجنا إلى هذه النجاحات في زمن الفشل الرديء هذا الذي نعيش، شاركوا في الحياة الثقافية والإنسانية والاجتماعية والسياسية، ولم لا فأنتم أبناء حضارة أوغلت جذورها القوية عميقاً في التاريخ.
لنا مدنيّةُ سَلفَت سنُحييها وإن دُثِرت
ولو في وجهنا وقفت دهاةُ الإنسِِ والجانِ
إنكم أفراداً وجماعات، رغم تبعثركم هنا وهناك، قد حققتم في بلاد الاغتراب الكثير الكثير، وتستطيعون تحقيق الأكثر رغم حياة الاغتراب بعيداً عن الأهل والوطن، فهنيئا لكم ما قاله شاعر النيل:
ما عابهم أنَّهم في الأرضِ قد نُثـروا
فالشُّهب منثورةٌ مذ كانتِ الشهبُ
رادوا المناهلَ في الدنيا ولو وجـدوا
إلى المجرّةِ ركباً صاعـداً ركبـوا
نعم .. واصلوا بناء جسور العلم والثقافة والعمل مع الأهل والوطن في كل مكان، واصلوا بناء المحبة والانتماء، وليظلًّ شعارنا الذي نؤمن به، ويجمعنا عبر الزًّمن شاعرنا البارودي:
بلادُ العُربِ أوطاني من الشامِ لبغدان
ومن نجدٍ إلى يمنٍ إلى مصرً فتطوانِ

د.غسان شحرور، طبيب وكاتب في المجالات الصحية والاجتماعية، رئيس الرابطة السورية للمعلوماتية الطبية. دمشق ص.ب 14189 Email:
ghassan.dr@gmail.com

ليست هناك تعليقات: