الأربعاء، ديسمبر 12، 2007

شارل دي فوكو (2)

رشا أرنست
اقتدى بيسوع الناصري ... فبذل حياته من اجل أحبائه


التفكير بشخص قد يستغرق على الأكثر ساعات، والتفكير بحب شخص قد يستغرق سنوات، وبحياة شارل دي فوكو استغرق التفكير في يسوع المسيح والقرب منه والعيش في غمرة حبه، سنوات عمره كلها منذ أن سأله "يا رب إن كنت موجوداً هبني أن أعرفك"، فأنفتح قلبه منذ تلك اللحظة لاستقبال ملك الحب والرحمة. وكانت البداية لحبه اللامحدود لله: " ما إن آمنت بالله .... أدركت أنني لا أستطيع العيش إلا لسواه".
قضى الأخ شارل دي فوكو حياته المليئة بالصلاة والتأمل في صمت هادئ متأملا محبة الله في كل من حوله مسلماً حياته كلياً إلى الله. وبحياة شارل دي فوكو الراهب الفرنسي محطات كثيرة هامة نتوقف عندها.

طريق الناصرة ... طريق الرجاء

"أخذ يسوع المكان الأخير حتى انه لم يستطع أحد أن يسلبه منه أبداً" تلك العبارة التي سمعها شارل على لسان الأب هوفلان في إحدى مواعظه اخترقت وجدانه، وكانت بمثابة الدافع لانطلاقه إلى الناصرة. ترك شارل كل شيء و مضى، يقوده قلبه حيث يسوع الذي يرغب في لقائه. فوصل إلى فلسطين أواخر عام 1888م. ذهب إلى الناصرة وهناك اكتشف كما كتب في إحدى رسائله إلى لويس دي فوكو: "الحياة المتواضعة والخفيّة التي عاشها الرب يسوع كعامل في الناصرة".
لم يتعطش شارل بشيء في حياته أكثر من تعطشه لحياة العامل الفقير اقتداء بيسوع الناصري: "إنني متعطش كثيراً لكي أعيش حياة ابحث عنها منذ سبعة سنوات، حياة لمحتها واكتشفتها حينما كنتُ أسير في أزقة الناصرة التي داستها أقدام الرب يسوع".
عندما ترك شارل الناصرة حملها في قلبه سائراً في مسيرته نحو الله. فكانت الناصرة مرتكزة في كيانه بثبات كبير تضعه أمام محبة الله العظيمة ورجاءه الذي انطلق فينا بقيامته. فعاش بهذه المحبة وهذا الرجاء في كل مكان وطأته قدماه إلى أن استقر في صحراء بني عباس. صارت حياته تعكس بشفافيتها يسوع الناصري، الخادم، الفقير، المتأهب لاستقبال كل إنسان.
كتب عنه رئيس أساقفة ميونيخ الكاردينال راتزنجر "البابا بنيدكتوس السادس عشر" في كتابة {إله يسوع المسيح}: "أكتُشف سرّ الناصرة الحقيقي بطريقة جديدة في محتواه الأعمق من خلال الأخ شارل دي فوكو الذي في سعيه للمكان الأخير التقى بالناصرة ، فعندما ذهب إلى الأراضي المقدسة تأثر أكبر تأثر بالناصرة ، لم يكن يرى نفسه مدعو لإتباع يسوع في حياته العلنية ، إنما الناصرة أخذت بمجامع قلبه، أراد أن يتبع يسوع الصامت، الفقير، العامل، أراد أن يحيا بكلمة يسوع بمعناها الحرفي ( إذا دعيت فامض إلى المقعد الأخير وأجلس في. لو 14 / 10)
إن شارل دي فوكو في مسيرته على دروب أسرار حياة يسوع، التقى بيسوع الحقيقي التاريخي وبدخوله في خبرة الناصرة تعلّم الكثير ...فالتأمل الحي بيسوع يفتح طريق جديد للكنيسة" .

طريق الصلاة

كان شارل دي فوكو رجل صلاة حتى نهاية حياته. كانت صلاته دائمة متجددة مفعمة بالفرح، ذائبة في الانسحاق أمام يسوع المسيح. زُرعت روح الصلاة في نفس شارل منذ طفولته. فرغم وفاة والديه وهو في السادسة من عمره إلا أنهما استطاعا أن يعلماه الصلاة في هذه السنوات القليلة. وكلما تعمقنا في حياة شارل اكتشفنا أن تعلقه بالصلاة متعلق بطفولته.
كان دائم الإصغاء إلى كلمة الله بالكتاب المقدس، كان يشبه الطفل الصغير في طريقة تعامله مع الإنجيل، فهو ما أن يسمع الكلمة حتى يفضَّلها عن أي شيء سواها ويمضي في تطبيقها.
كما كان دائم النظر والتأمل بسرّ القربان المقدس. فقد وجد في القربان المقدس من كان يبحث عنه، وجد من اسلم ذاته من اجله. فكان يقضي ساعات في السجود أمام القربان. عاش سرّ الافخارستيا حتى أصبح هو ذاته قربانا لأخوته باذلا ذاته من اجلهم. "عليّ ألا أصلي لأجلي وحدي، بل لاجتهدنّ في أن أتضرع من اجل جميع الناس، من اجلنا جميعا نحن أبناءه الأحباء، وقد فدانا بدمه". حياته كانت صلاة إنسان مهداة إلى الله لأجل جميع الناس.

اختباره مع المسلمين

لم تكن خبرة شارل دي فوكو سهلة بالعيش في صحراء المغرب وسط قبائل مسلمة. كانت مغامرة غير مدروسة منه، لكنه أحس بروح الله تقوده إلى هناك. حمل في قلبه يسوع الناصري الذي جاء من اجل جميع البشر، وانطلق وفي ذاكرته {كلما صنعتم شيئاً لواحدٍ من إخوتي هؤلاء الصغار فلي قد صنعتموه}. عاش شارل متضامناً مع هؤلاء الفقراء والعبيد البؤساء المنتشرين في صحراء بنيّ عباس، وسط أهل الطوارق الذين عرفوه إنسان بسيط فاتحاً قلبه وعقله للجميع بالحب والسلام. كان شارل دي فوكو ومازال مثال حيّ للإنسان الذي يحيا في سلام مع من حوله مهما اختلفوا عنه. أعطى شارل دي فوكو بحياته مثال المسيح الخادم، مانح السلام. أعطى حب مجاني بلا حدود لكل من حوله.
يقول عنه الكاتب علي مراد في كتابه (شارل دي فوكو في نظر الإسلام) بالإنكليزية، وترجمة علي مقلِّد (بالعربية): "بفعل فضيلة قدوته، ساهم شارل دي فوكو، في أعين المسلمين، بتقويم سلَّم القيم في حقيقة معناه. فلا تتجلَّى التقوى فقط في حياة التأمل أو الالتزام بالشعائر. إنها في أساسها فاعلة ومشعة، خلاَّقة للسعادة وملهِمة الخير لبني البشر".
وكتب لطفي حداد في مقال بعنوان اختبار من عمق الإسلام: "إن شارل دي فوكو استطاع أن يكسب ثقة الطوارق واحترامهم – هذا الشعب الأبي القاسي والصعب المراس، المستعصي على المؤالفة. إن حسن معشره، ولطف كلامه، وبرَّه وتقواه، قد فتحت له الكثير من القلوب. واستقامتُه وحسُّه بالعدالة قد مكَّناه من أن يُحتكَم إليه في بعض الأحيان".
عاش شارل دي فوكو السلام الذي نحتاجه في يومنا هذا أكثر من أي شيء، السلام الذي يعلو كل فهم، ويفوق كل تصور. السلام الذي يرجوه كل مؤمن، يؤمن بقوة الحبّ وفعل الحبّ.

إبداع شارل دي فوكو

جزء هام من حياة شارل دي فوكو يجهله الكثيرون. ألا وهو إبداعه وموهبته العالية في الكتابة. ولعلّ من قرأ كتابات شارل دي فوكو أدرك حسه المرهف وأسلوبه البسيط في سرده للأحداث وقدرته على تصوير الواقع بشكل في إتقان عالٍ. أمضى شارل في رحلته الاستكشافية إلى الجزائر وبلاد المغرب عدة سنوات، بعد أن ترك خدمته العسكرية بالجيش الفرنسي. وكانت رحلته مليئة بالأخطار لكنه كان مصراً على استكشاف هذه الحياة التي أدهشته وسط الأرجاء الصحراوية الشاسعة. فسجل رحلته في مذكرات أصبحت فيما بعد من أهم المؤلفات الاستكشافية عن المغرب. يقول الباحث جمال حيمر في بحث له بعنوان (الكتابات التاريخية حول مغرب القرن19)، " شارل دي فوكو زار المغرب وكتب " التعرف على المغرب" « Reconnaissance du Maroc ». الذي يعد نموذجا للمؤلفات الاستكشافية.
ويمكن القول بصفة عامة إن هذا التأليف الأجنبي اهتم بكل أشكال التنظيم الاجتماعي وبجميع مظاهر الحياة الدينية وبأهم المؤسسات المغربية.
كما كتب الأخ شارل صلوات كثيرة، أكثرهم انتشاراً صلاة "تسليم الذات"، وكتب عشرات النصائح المسيحية، التي نُشرت فيما بعد بعدة كتب كأقوال له.

حياة شارل دي فوكو بها الكثير الذي يمكننا أن نتحدث فيها أو نكتب عنها. فحياة مثل هذا الرجل مليئة بالأحداث والكلمات التي تقودنا إلى تفكير عميق عن سرّ محبة الله لنا. وسرّ تواجده بشكل حقيقي وفعّال بيننا. هذا السرّ الذي بحث عنه شارل ووجده في أعماقه يتغلغل ويقوده إلى محبة حية عاشها بكل تواضع وإماتة حتى استشهد بين من عاش بوسطهم، معلناً إيمانه وحبه لله القدير. بذل شارل حياته على مثال يسوع المسيح الناصري من اجل كل الذين أحبوه.

ليست هناك تعليقات: