الفلسطينيات الماجدات منذ فجر التاريخ أبدعن ملابسهن الزاهية ومطرزاتهن الفنية الراقية المنتجة من طبيعة فلسطين الخلابة، تلك الثياب التي مازالت تنتج يدويا حتى وقتنا الحاضر، والتي خلبت قلوب السائحين، وحيرت عقول الباحثين.. تلك الثياب التي حافظت على الهوية الفلسطينية قرونا طويلة، وأكثر من ذلك حين كان الثوب يرمز إلى وطن الفلسطيني أينما سافر، وأينما حل.. المكان الفلسطيني كان له دلالته الواضحة في ثوب المرأة الفلسطينية، فكانت تعرف المرأة الفلسطينية من أي قرية أو مدينة هي من خلال ثوبها وزخرفته ولونه، وكانت تعرف أيضا إن كانت متزوجة أم غير ذلك.. وحتى الرجال أيضا كانوا يتميزون بذلك فيعرف الرجل أو الشاب إن كان متزوجا أم لا من خلال لباسه وطريقة تفصيله، وكذلك يدل على قريته أو مدينته.. كنا نتوقع من قاضي غزة الشيخ أن يعيد لتراثنا رونقه وبهجته وإحياؤه، لكنه للأسف راح يفرض الحجاب السعودي أو الأفغاني، على الماجدات المناضلات اللواتي نتوسم بهن الخير في العدل والمساواة.. كما جاء في وثيقة الاستقلال التي لم يقرأها القاضي، أو لم يقتنع بها ونقتبس منها الفقرة : " إن دولة فلسطين هي للفلسطينيين أينما كانوا فيها يطورون هويتهم الوطنية والثقافية، ويتمتعون بالمساواة الكاملة في الحقوق، تصان فيها معتقداتهم الدينية والسياسية وكرامتهم الإنسانية، في ظل نظام ديمقراطي برلماني يقوم على أساس حرية الرأي وحرية تكوين الأحزاب ورعاية الأغلبية حقوق الأقلية واحترام الأقلية قرارات الأغلبية، وعلى العدل الاجتماعي والمساواة وعدم التمييز في الحقوق العامة على أساس العرق أو الدين أو اللون أو بين المرأة والرجل، في ظل دستور يؤمن بسيادة القانون والقضاء المستقل وعلى أساس الوفاء الكامل لتراث فلسطين الروحي والحضاري في التسامح والتعايش السمح بين الأديان عبر القرون." كنا نتوقع من القاضي الشيخ أن يطالب الاحتلال بإعادة تراثنا المنهوب، أو يبحث في القانون الدولي حسب اختصاصه ويتقدم إلى المنظمات الحقوقية الدولية بمعاقبة الاحتلال على سرقة هويتنا وتراثنا المغتصب...
القرار الذي أصدره القاضي الشيخ رئيس المحكمة العليا بغزة بضرورة كساء المحاميات الفلسطينيات بالحجاب في المحكمة ليس له معنى، ولا يقدم شيئاً لقضيتنا، ولا يخفف شيئاً من أعباء ومعاناة شعبنا القاسية، ولا يوافق دستورنا الذي اعتمد على النظام الديمقراطي البرلماني الذي يحفظ للإنسان حريته والعيش بأمان في وطنه... وهذا القرار لا بد أنه يعبر عن ( مازوشية ) الرجل الذي لن يستطيع ضبط عواطفه وأحاسيسه أمام المرأة خصوصا إذا توفر فيها جاذبية قاهرة تهزم إرادة الرجل المتمتعة، وتحيل دوره إلى دور سلبي خاضع لا خيار له، ولا يملك إلا أن ينقاد لجاذبيتها.. إحدى النساء المطلقات في غزة قالت لي: إن أحد القضاة الشرعيين في غزة رفض تزويجها من شاب اتفقت معه على الزواج، وبعدها اتصل بها القاضي ليتغزل بها ويطلب منها الزواج..!
يا شيخ! نذكرك بحديث رسولنا الكريم e عندما دخل على زينب فقضى حاجته وخرج، فقال: " إن المرأة إذا أقبلت أقبلت في صورة شيطان، فإذا رأى أحدكم امرأة فأعجبته فليأت أهله، فإنها معها مثل الذي معها" (سنن الترمذي، باب ما جاء في الرجل يرى المرأة تعجبه) هنا.. هل تعتقد أيها القاضي أن الرسول e قد رأى المرأة التي دفعته بأن يأت أهله، هل كانت تلك المرأة مكشوفة، أم محجبة؟؟ وإن كانت محجبة؛ فلماذا أثارت غرائزه؟؟ من يقنعني أن الشيخ أو أي رجل آخر في هذا العصر لم يجلس أمام الفضائيات، وأي الفضائيات تخلو من صور النساء وأصواتهن؟؟ ولو فرضنا أن المحامية قد حجبت فتنتها عن الرجال في المحكمة، فكيف ستحجب صوتها؟ خصوصا إذا كان في صوتها شجو يثير الرجال أيضا..؟ إن هذا القرار قد فتح المجال واسعا أمام المخبولين والمكبوتين والمتخلفين ليقوموا بتكسير وتخريب وتدمير ممتلكات المواطنين ومنجزاتهم، كما حدث مؤخرا لمحلات عرض الأزياء في غزة..؟! أهذا ما يريده القاضي؟؟ لماذا لم يأمر القاضي بملاحقة هؤلاء وتقديمهم للمحاكمة؟؟
إن هذا القرار يرجعنا إلى عصور بائدة ومستبدة في اضطهاد الإنسان ويشعرنا بسلطة الاحتلال القمعية، ويعكس ما في باطن الرجل وما يعانيه من قمع سياسي واقتصادي وثقافي.. يقول العالم ـ ولهام رايش، في كتابه علم النفس الاجتماعي الفاشي 1970The Mass Psychology of Fascism :"إن الوظيفة النفسية لاضطهاد النساء التي تمكن الرجل من تفجير ما يعانيه من قمع سياسي واقتصادي وثقافي، بصب عدوانيته على رفيقته، أقل بروزا من الجانب الاقتصادي لهذا الاضطهاد، ولكن مؤثراتها بالغة الضرر.." وأظهر الانتباه إلى وظائف الأسرة الأبوية في مجتمع يعاني من أزمة، فأشار إلى كون الحرية الاقتصادية تتواكب و(اختفاء المؤسسات القديمة) خاصة منها التي تتحكم في (السياسات الجنسية)، وأن الرجال الذين يعانون من القمع يميلون أقل من غيرهم إلى الثورة ضد الاستغلال الاقتصادي.. وهذا يعني: أن قمع الحاجات المادية بشكل فطن لا يمارس التأثير نفسه الذي يمارسه قمع الحاجات الجنسية، فالقمع الأول يؤدي إلى الثورة، أما الثاني فإنه يحول دون الثورة في إطار تواجد هذين الشكلين من القمع، بما أنه يكبت المتطلبات الجنسية ويخضعها للوعي، ويتجذر داخليا كشكل للدفاع الأخلاقي. وعلينا أن نلاحظ: أن منع الثورة هو نفسه غير واع، والرجل المتوسط الذي يفتقر إلى الوعي السياسي لا يشعر البتة بمبادئها الأولية..
إن الرجل المكبوت جنسيا ينشغل برموز كـ (الطهارة) و (الشرف) تبعا لقواعد المجتمع وبالتالي تبعا لقواعده الخاصة.. يضيف ولهام رايش: "إن الرجل الذي أرضي تناسليا إنسان شريف واع بواجبه، شجاع ومنتظم دون إثارة للضجيج وكل هذه المميزات ترتبط عضويا في شخصيته، والفرد الذي يعاني من ضعف تناسلي والذي تحفل بنيته الجنسية بالمتناقضات، يكون حذرا باستمرار حتى يتحكم في حياته الجنسية، وينقذ شرفه ويناضل بشجاعة ضد المغريات.." إلى هنا.. هل عرفنا لماذا نحارب التمييز بين الجنسين؟ وعلى أصحاب القرار أن يراجعوا حساباتهم عندما يتخذون القرارات الظالمة بحق شعبنا.. لألا نقول ما قاله، عمر ابن عبد العزيز قبل خلافته: "الحجاج بالعراق، والوليد بالشام، وقرة بمصر، وعثمان بالمدينة، وخالد بمكة.. اللهم قد امتلأت الدنيا ظلما وجورا، فأرح الناس!."
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق