السبت، أغسطس 08، 2009

فتح: المرحلة الرمادية مستمرة

نقولا ناصر

المؤتمر السادس لفتح استحقاق طال انتظاره عقدين من الزمن من أجل الحسم السياسي، والمساءلة التنظيمية، والبت في ملفات أهمها ملفي استشهاد مؤسس الحركة وقائدها الراحل ياسر عرفات والفساد، وتحديد الخط الفاصل بين الحركة وبين سلطة الحكم الذاتي ومن منهما يقود الآخر، وتجديد القيادة -- سياسة لا أسماء أو أجيالا – إلخ.، لكن المؤشرات ترجح بأن الحركة ستكون بعد المؤتمر كما كانت قبله، معلقة في المنطقة الرمادية بين المقاومة اللفظية وبين خيار التفاوض العقيم، بين حرب لا تندلع وبين سلام لا يتحقق، بين "مشروع وطني" تقول إن المجتمع الدولي مجمع عليه لكن الانقسام الوطني الراهن يحول دونه وبين انقسام وطني يمنع كل مشروع وطني من الانطلاق مقاوما كان أم مفاوضا، بين معرفة الجاني في جريمة تصفية عرفات وبين الامتناع عن التحقيق الجاد فيها خشية المضاعفات على "عملية السلام" نتيجة توجيه الاتهام الرسمي إلى شريك السلام الإسرائيلي من ناحية وخشية مضاعفات هكذا تحقيق على الوحدة الهلامية الداخلية للحركة من ناحية ثانية، بين الفساد المستشري التي تحدد الأطراف المتصارعة في الحركة عناوينه بالأسماء وبين التحقيق الجاد فيه واستئصاله، إلخ، لتظل الحركة مجمدة في وضع تعجز فيه عن القيادة بنفسها لكنها في الوقت نفسه تمنع غيرها من القيادة.

وربما لهذه الأسباب تمنى أستاذ العلوم السياسية والكاتب القطري محمد المسفر الفشل للمؤتمر أو عدم انعقاده، غير أنه لهذه الأسباب تحديدا كان يجب عقد المؤتمر، لأن الشعب الذي منح ثقته للحركة كي تقوده طوال حوالي أربعين عاما لم يعد له ثقة في موقفها الرمادي، بدليل منحه هذه الثقة لحركة حماس المنافسة في الشارع أولا ثم في الانتخابات التشريعية الأخيرة لسلطة الحكم الذاتي، ولأن استمرار هذا الموقف الرمادي بنتائجه العكسية والسلبية بات يهدد الوحدة الوطنية والقضية الفلسطينية نفسها.

لكن المؤتمر كما يبدو يتجه نحو طي صفحة الماضي دون أي محاسبة سياسية أو مالية أو تنظيمية، وما وصفه الناطق باسم المؤتمر نبيل عمرو بالجدل "العاصف" حول عدم تقديم اللجنة المركزية للحركة تقريرها عن عشرين عاما منصرمة تجري محاولة احتوائه بالتوجه نحو تسوية للجدل تعتمد الخطاب الافتتاحي لرئيس الحركة محمود عباس بديلا للتقرير المطلوب، مضافا إليه ما قال عمرو إنه توصيات المؤتمر التي ستصاغ في تقرير سياسي يصدر عن المؤتمر وتحاسب فتح على أساسه في المرحلة المقبلة، وعفا الله عما سلف!

والمؤشرات ترجح أن ينتهي مؤتمر فتح في المنطقة الرمادية ذاتها التي بدأ منها، فالحسم غير الرمادي الوحيد الذي يكاد يكون مؤكدا هو باتجاه إقرار مواصلة السير في النهج الرمادي ذاته الذي سارت فيه قيادة الحركة طوال العشرين عاما المنصرمة دون رقابة المؤتمر ومساءلته، لكن في هذه المرة بمباركة المؤتمر نفسه. وربما للخروج بنتيجة كهذه تسرعت قيادة الحركة في عقد المؤتمر قبل أن يفصح الرئيس الأميركي الجديد باراك أوباما عن خطته الجديدة ل"عملية السلام" التي قال عباس في خطاب افتتاحه إنها ما زالت تمنحه "بصيص أمل" لإقامة الدويلة الفلسطينية الموعودة التي يضيف بأن قيامها أصبح "مسألة وقت" بسبب الإجماع الدولي عليها، وكان الأجدى انعقاد المؤتمر بعد الإفصاح عنها، لا قبل ذلك، وبخاصة بعد أن أفصح "شريك السلام" الإسرائيلي عن رؤيته لهذه العملية، فذلك كان سيتيح للمؤتمر حقائق سياسية ملموسه تتيح له بدورها الخروج من المنطقة الرمادية، التي يوجد كما يبدو تصميم لدى منظمي المؤتمر على إبقائه في أسرها، حيث مازالت "الروح العامة توافقية" في المؤتمر كما قال عمرو، فالتوافق على التوفيق المستحيل بين تناقضات الوضع الفلسطيني الراهن هو الضمانة الأكيدة لاستمرار الموقف الرمادي الذي يفاقم من هذه التناقضات.

وكان لافتا للنظر تصريح عمرو "بأن هناك قوى كثيرة تريد إفشال" المؤتمر، في ضوء التسهيلات التي قدمتها دولة الاحتلال لانعقاد المؤتمر حد أن يتمكن الرئيس عباس من إعلان ضمانته الشخصية لسلامة أعضاء المؤتمر القادمين من الخارج والمطلوبين لها، وفي ضوء الإجماع الدولي على "حل الدولتين" وهو إجماع أيضا على تمكين الرئاسة الفلسطينية من عقد المؤتمر ومن إنجاحه من أجل تعزيز شرعية عباس وتوفير رافعة شعبية لاستئناف عملية سلام يدرك هذا الإجماع بأنها مرفوضة شعبيا، وهذا الرفض الشعبي والانقسام الفلسطيني هما القوتان الرئيسيتان لإفشال تبني المؤتمر للنهج الفاشل إياه، بينما كل القوى الدولية والإقليمية الأخرى تسعى إلى إنجاح المؤتمر بتبنيه لهذا النهج.

إن من يراقب كيف تحولت "معركة" تمثيل تنظيم حركة فتح في قطاع غزة المحاصر في المؤتمر إلى ساتر دخاني غطى على المعارك الوطنية الحقيقية التي كان ينبغي على المؤتمر أن يتصدى لها -- وحصار القطاع ليس أولها وتهويد القدس ليس آخرها -- وغطى على القضايا الحركية الأهم التي كان ينبغي على المؤتمر بحثها -- وعلاقة الحركة المتداخلة تداخلا لا فكاك منه بالسلطة ليس أولها والفساد المستشري في الحركة وفي السلطة معا ليس آخرها -- ومن يراقب كذلك كيف استثمرت القيادة التي نظمت المؤتمر الانقسام الفلسطيني كمشجب تعلق عليه ليس فشلها في تحقيق أية نتائج سياسية تفاوضية بل وفشل "عملية السلام" نفسها، ناهيك عن النتائج العكسية للعملية التفاوضية ذاتها كما يجسدها فوق الأرض المحتلة تضاعف أعداد المستعمرات اليهودية ومستوطنيها، في بيت المقدس بخاصة .. إن من يراقب ذلك وغيره لا يسعه إلا الاستنتاج بأن الانقسام الفلسطيني لو لم يكن واقعا لكان في مصلحة الحريصين على إعادة ترتيب البيت الفلسطيني بما يتفق مع ذاك النهج أن يخلقوا انقساما كهذا يفتح لهم الثغرة المناسبة لتمرير برنامجهم السياسي.

وهكذا، مثلا، انشغل أو أشغل المؤتمر ب"حصة" قطاع غزة فيه، وقضى وقتا من المفترض انه ثمين في الجدل حول القبول أو رفض مبدأ "المحاصصة" نفسه، بينما ما زالت القدس تستغيث باحثة لها عن موطئ قدم بين أقدام المتزاحمين على حصة مهما كانت متواضعة من كعكة المانحين لسلطة الحكم الذاتي فلا تحصل على ما يسد الرمق، مما دفع الوزير المسؤول عن ملف القدس في حكومة رام الله والمسؤول عن هذا الملف في الحركة وعضو المؤتمر السادس حاتم عبد القادر إلى الاحتجاج مؤخرا بتقديم استقالته من الحكومة قبل أن يطفح الكيل به في الأول من الشهر الجاري ليدعو إلى بلورة تحالف استراتيجي بين فتح وبين إيران وإلى تصويب العلاقة بين الجانبين في ضوء المستجدات السياسية في المنطقة ووصول المفاوضات مع دولة الاحتلال الإسرائيلي إلى طريق مسدود، لتذكر استقالته باستقالة مماثلة من المسؤولية عن ملف القدس في حكومة السلطة عام 2002 لعضو اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية والأمين العام لجبهة النضال الشعبي د. سمير غوشة بسبب "غياب المرجعية وعدم الجدية في العمل" من أجل المدينة المقدسة المحتلة ليظل رافضا للأسباب نفسها تسلم هذه المسؤولية حتى انتقل إلى رحمة الله في الثالث من الشهر الجاري.

وبالرغم من كل ذلك، وغيره، فإن المقاومة فرضت نفسها على المؤتمر، من حيث المبدأ في الأقل، وكواحد من الخيارات التي لا يتم التخلي عنها، لفظيا كحد أدنى، بالرغم من منح الأولوية للتفاوض كخيار أول، وبالتالي إنتقاء ما ينسجم مع التفاوض من أشكالها، وهذه الحقيقة تؤكد من ناحية أن المقاومة ما زالت ضاربة جذورها في أعماق الشعب الفلسطيني بحيث لا يستطيع تجاهلها حتى من اختاروا ووقعوا على اتفاقيات لتسوية سياسية تفاوضية مع الاحتلال كخيار استراتيجي وحيد، وتؤكد من ناحية ثانية أن قيادة الحركة التي قادت عملية التفاوض ووقعت تلك الاتفاقيات لا تستطع حتى الآن تقديم الحد الأدنى من النتائج الذي يكفي لإقناع مؤتمر للحركة ينعقد بشروطها بإعلان طلاق بائن بينونة كبرى مع إرث الحركة النضالي في الثورة والمقاومة، ومن هنا كان شعار المقاومة الذي رفعه عباس في خطابه الافتتاحي "حمال أوجه"، بقوله "إن المقاومة المشروعة دوليا حق للفلسطينيين" دون أن يوضح بأن المقاومة التي مارسها وعايشها ويفهمها ويريدها المؤتمرون لم تعد "مشروعة دوليا" بل إنها مدانة باعتبارها "إرهابا"، لا بل إنها لم تعد حتى مشروعة فلسطينيا لدى سلطة الحكم الذاتي الفلسطيني في رام الله بعد المرسوم الرئاسي التي أدان أصحابها وسلاحها باعتبارهم "خارجين على القانون"، وبالتالي فإن المرحلة الرمادية مستمرة.

*كاتب عربي من فلسطين
nicolanasser@yahoo.com*

ليست هناك تعليقات: