الخميس، أغسطس 20، 2009

تساؤلات حول ظاهرة التطرّف العنفي

صبحي غندور

مقولتان تتقابلان في محاولة تفسير أسباب ظاهرة التطرّف العنفي الذي يحصل باسم "جماعات إسلامية":

المقولة الأولى، وهي في معظم مصادرها غير عربية وغير إسلامية، تحاول ربط هذه الظاهرة المعروفة الآن باسم "الإرهاب"، بأسباب محدّدة فقط بغياب الديمقراطية في المجتمعات العربية والإسلامية، وبالفقر الاجتماعي أيضاً وانعدام فرص العمل في هذه المجتمعات.

المقولة الأخرى، وهي في معظم الأحيان من مصادر عربية وإسلامية، تعيد في تفسيرها لظاهرة التطرّف العنفي الأسباب فقط، إلى مسؤولية الغرب عموماً، وأميركا وإسرائيل خصوصاً، عن اضطرار هذه الجماعات لاستخدام أسلوب العنف المسلّح ضدّ المدنيين والأبرياء، وهذا مضمون كلمة "الإرهاب" الآن.

وفي المقولتين إجحاف لكل لحقيقة، وقصور عن الرؤية الشاملة للواقع.

فالمقولة الأولى "الغربية" تحاول أن تنفي مسؤولية الغرب عن "ظاهرة الإرهاب" وتعيد المشكلة فقط إلى الأوضاع الداخلية في الدول العربية والإسلامية، بل إنّها لا تشير إلى مسؤوليتها حتى في هذا الجانب "الداخلي" بالرغم من حقيقة هذا الأمر عملياً منذ مطلع القرن العشرين، وما قامت به الدول الاستعمارية الأوروبية ثمّ أميركا من إعداد ورعاية لهذا الواقع الداخلي العربي والإسلامي وفي كلّ مجالاته الجغرافية والدستورية والاقتصادية.

فكيف يفسّر أصحاب هذه المقولة "الغربية" ما حدث في ولاية أوكلاهوما الأميركية (عام 1995) من عملٍ إرهابي كانت خلفه جماعات إرهابية أميركية رغم وجود الديمقراطية في أميركا ؟!

وكيف يفسّر الأوروبيون ما كان يحدث في بريطانيا وفرنسا وألمانيا واليابان وأسبانيا من عمليات إرهابية يقوم بها أتباع لجماعات متطرّفة، وبعضها كان يمارس العنف المسلّح بطابع "وطني تحرّري" مثل "الجيش الجمهوري الأيرلندي" في بريطانيا وجماعات "الباسك" في أسبانيا؟!

أمّا المقولة الأخرى "الشرقية"، فهي أيضاً تحاول التملّص من مسؤولية الذات العربية والإسلامية عن بروز ظاهرة التطرف و"الإرهاب"، وترفض الاعتراف بالأزمات الفكرية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية القائمة في هذه المجتمعات. إذ كيف تفسّر هذه المقولة ما حدث في أفغانستان عقب سقوط النظام الشيوعي في كابول وانسحاب القوات الروسية منها، حيث شهدت أفغانستان أعنف المعارك وأقصى درجات "الإرهاب" على المدنيين حصيلة الصراع على السلطة بين الجماعات المسلّحة التي كانت في السابق تقاوم ضدّ النظام الشيوعي؟

إنّ هذا ما حدث ويحدث أيضاً في الصومال منذ عقدين من الزمن، وما حدث بين اللبنانيين أنفسهم خلال سنوات الحرب الأهلية، وهو ما يحدث الآن في العراق بأشكال مختلفة ..

فحينما تسقط الدولة في أيِّ وطن، يهوي الانتماء الوطني الواحد أيضاً لترتفع مكانه انتماءات أخرى هي أقلّ من نسيج الوطنية وأشدّ ارتباطاً بالخصوصيات التي يتكوّن منها أيّ مجتمع.

وقد ساهم الاحتلال الأمريكي مثلاً بتمزيق النسيج الوطني العراقي، وصاغ بدائل أخرى تقوم على خيوط طائفية ومذهبية وإثنية، مما شجّع على ظاهرة التطرّف العنفي داخل العراق، وأصبحت "عروبة" العراق هويّة فرز انقسامي داخلي حينما يتمّ فرز المسلمين بين سنَّة وشيعة، فيقال السنّة "العرب" والشيعة .. ولا يقال حتى الشيعة العرب!!

وجرى فرز المذهب الإسلامي السنّي في العراق إلى "أكراد" و"عرب"، فأصبح الأكراد قوّة منفصلة مخاصمة لمن يشاركونهم الدين والوطنية منذ مئات السنين.

فلا الوطنية العراقية، ولا الانتماء الثقافي العربي المشترك، ولا الدين الإسلامي عموماً، أو المذهبيّ خصوصاً، كافٍ أيّاً منهم لوقف التسميات المتعمّدة الآن في العراق: سنّة وشيعة وأكراد، وهم في حقيقة الأمر يشتركون كلّهم ليس بوطنية عراقية واحدة فقط بل أيضاً في دينٍ إسلاميٍّ واحد وثقافة عربية واحدة تتناقض أصولها وطبيعتها مع العنصرية الأثنية.

أيضاً، إنّ ما قامت به أميركا من قتل جماعي لعشرات الألوف من المدنيين الأبرياء، حين استخدمت لأوّل مرّة في التاريخ القنابل النووية ضدّ شعب اليابان لإجباره على الاستسلام في الحرب العالمية الثانية، وكذلك ممارسات المستعمر الأوروبي وبعض الإدارات الأميركية السابقة، والاحتلال الإسرائيلي ماضياً وحاضراً .. كلّها أعمال ينطبق عليها مفهوم "الإرهاب" وتستحقّ الإدانة، لكن هل يجوز دينياً وإنسانياً استخدام الأساليب نفسها تحت حجّة "توازن الرعب".. أم إنّ ذلك الأمر في حقيقته هو "توازن الخطيئة" بكلّ المعايير؟!.

ثم كيف نفسّر أيضاً نجاح التجربة الفيتنامية في النصف الثاني من القرن الماضي بمقاومة الاحتلال الأميركي لفيتنام، وقبله الاحتلال الفرنسي، دون أن تنقل عملياتها العسكرية إلى داخل أميركا أو أوروبا، ودون الخلط بين المقاومة ضدّ الاحتلال وبين الإرهاب ضدّ المدنيين الأبرياء حتى ولو كانوا من أتباع جنسيات الطرف المحتل؟!

إنّ التمييز مطلوب بين حالاتٍ ثلاث: التطرّف، العنف المسلّح، والإرهاب. فالتطرّف الفكري والسياسي قد يكون حقّاً مشروعاً لمن يشاء السير فيه من أقصى اليمين إلى أقصى الشمال .. أمّا العنف المسلّح، فهو محكوم بضوابط دينية وأخلاقية وقانونية على مستوى الدول والجماعات والأفراد، ولا يعني مخالفة طرفٍ لهذه الضوابط أنّ استخدامها بات مشروعاً لدى أيِّ طرفٍ آخر.

وهناك بلا شك مسؤولية "غربية" وأميركية وإسرائيلية عن بروز ظاهرة الإرهاب بأسماء "إسلامية"، لكنّ ذلك عنصر واحد من جملة عناصر أسهمت في تكوين وانتشار هذه الظاهرة.

ولعلّ العنصر الأهمّ والأساس هو العامل الفكري/العقيدي حيث تتوارث أجيال في المنطقة العربية والعالم الإسلامي مجموعةً من المفاهيم التي يتعارض بعضها مع أصول الدعوة الإسلامية، ومع خلاصة التجربة الإسلامية الأولى منذ فترة الهجرة النبوية إلى المدينة وصولاً إلى نهاية عهد الخلفاء الراشدين.

ولقد ساهمت الحقبة العثمانية، ثمّ فترة الاستعمار الأوروبي من بعدها، في محاصرة الاجتهاد الإسلامي وفي الابتعاد عن المضمون الحضاري الإسلامي، والاتجاه نحو "حكم العسكريتاريا" الذي بدأه العثمانيون بانقلاب الجيش الإنكشاري على الدولة العباسية.

أيضاً، كان للصراعات الدولية الكبرى إسهام واسع في تأجيج ظاهرة التطرّف المسلّح باسم الإسلام. حدث ذلك في كلّ حقبة الحرب الباردة بين موسكو وواشنطن، وكانت حرب "المجاهدين الأفغان" هي الخميرة التي صنعت لاحقاً جماعات "القاعدة" وأساليبها الإرهابية في أكثر من مكان وزمان.

هي كذلك أزمة فكرية في مسبّبات ظاهرة التطرّف المسلّح باسم الدين، حينما تضعف الانتماءات الوطنية وتسود بدلاً منها هويّات فئوية بمضامين طائفية ومذهبية ضيقة. ولعلّ بروز ظاهرة "التيّار الإسلامي" بما فيه من غثٍّ وسمين، وصالحٍ وطالح، في مطلع الثمانينات من القرن الماضي، ما كان ليحدث بهذا الشكل لو لم يكن هناك في المنطقة العربية حالة من "الانحدار القومي" ومن ضعف للهويّة العروبية، كحصيلة لطروحات وممارسات خاطئة جرت باسم القومية وباسم العروبة، فشوّهت المضمون ودفعت بالنّاس إلى بدائل أخرى بحثاً عن الهويّة وقوى الدفع اللازمة في معاركها السياسة والاجتماعية والوطنية.

ولعلّ ما ورد في سياق التساؤلات كلّها هو المسؤول عن وجود ظاهرة الإرهاب المسلح باسم الدين، لكنّ إصلاح الفكر سيبقى هو المقدّمة الأولى لبناء مستقبلٍ أفضل.

ليست هناك تعليقات: