الاثنين، فبراير 23، 2009

مصر.. ليست أمي



أنطوني ولسن
«مصر ليست أمي» اسم او عنوان الكتاب الذي صدر حديثا في القاهرة وعرض في معرض الكتاب في شهر يناير الماضي.
شد انتباهي ذلك العنوان واخذت افكر فيما قد يكون مؤلف الكتاب يريد قوله للناس متبرأ من مصر ولا يشرفه انتمائه لها، ولذا أنكر امومة مصر له. فاذا صدق حسي هذا فهي في الحقيقة مصيبة المصائب التي حلت على الشعب المصري.
يستطيع الانسان ان ينكر كل شيء.. الا الامومة، لانها اصدق شيء في حياة البشر. انكر اباك.. وقد تكون محقا في ذلك.. لكن لا يمكن ان تنكر امك حتى لو كانت بغيا، ولا اظن ابدا ان مصر أم الدنيا قد صارت بغيا تبيع نفسها لمن يدفع لها.
اما الجانب الآخر لتفسيري الشخصي للعنوان.. ان الكاتب يشعر بتأنيب الضمير لما فعله هو واخوته واخواته من ابناء وبنات امه مصر. فأراد ان يبعد عنها وزر ما وصلت اليه احوال مصر معبرا انه لا يستحق شرف الانتماء لهذه الأم العظيمة التي عبرت باولادها وبناتها صعاب الأيام والاحداث والتاريخ يشهد لها بذلك.
لكني لم اكن مقتنعا بهذا التفسير. لان ابناء مصر هذه الايام تكبروا ولا يمكن لاي منهم ان يعترف بأي خطأ ارتكبه في حق امه مصر عن قصد او بدون قصد. فقررت ان ارسل في طلب الكتاب وشراءه.. وفعلت ذلك، لكنني أخبرت بان الكتاب قد تم سحبه من الأسواق.
وعندما استفسرت عن ذلك قالوا لي ان الجهات المعنية طلبت من المؤلف اجراء بعض التعديلات على مضمون الكتاب، بعدها سيتم طباعته من جديد واعادته الى الاسواق ليقرأه كل من يريد قرأته.
تعجبت من أمرين.. الأول يتعلق بحرية الرأي والقلم التي نسمع انها تطبق في مصر. والثاني كيف يتم طباعة ونشر الكتاب وعرضه في معرض دولي للكتاب في القاهرة وفي الاسواق ويعلن عنه في الصحف والفضائيات.. ثم يتم سحبه دون ابداء الاسباب التي دفعت بالمسؤولين الى قرار سحبه ومطالبة المؤلف والناشر اجراء تعديلات؟.
وهذا الفعل من الجهات المسؤولة يدفع على الأقل المثقفون في مصر والعالم العربي وغير العربي الى التعجب للتخبط الذي يعيشه الشعب المصري.
اردت ان ابتعد عن هذا الأمر وقلت لنفسي انا هنا في استراليا، احمد الله على عدم وجود تخبطات تؤثر على الحياة العامة للشعب الاسترالي.. المثقف منه وغير المثقف.
توجهت الى كرسيّ «الهزاز» وجلست فوقه محاولا الاسترخاء، والابتعاد عن مشاكل الكتاب وما يحتويه الكتاب من معنى يتفق او لا يتفق مع ما فكرت فيه بالنسبة لعنوانه «مصر ليست أمي».
غفت عيناي.. ولم اعرف كم من الوقت قد مضى على غفوتي عندما شعرت بيد تربت بحنان على كتفي لتوقظني.
فتحت عيناي وتطللعت صوب اليد التي ربتت على كتفي فهالني أن أرى امرأة جميلة يشع من وجهها نور سماوي وفوق رأسها تاج مرصع بالماس والاحجار الكريمة، ابتسامتها رقيقة وإن طلت من عينيها نظرة حزن.. وكانت متشحة بالسواد.. ما زاد من بهائها بهاء.
قبل ان تفتح فمها بالكلام.. اشرت لها بيدي ان تعطيني فرصة لافكر من تكون.
لم تمضِ سوى ثوان قليلة ووجدت نفسي أشير اليها بأصبع يدي لأقول لها انت امي مصر.. ولكنها قبل ان انطق بالكلمة كانت قد قرأت ما اريد ان انطق به وأومأت برأسها مؤكدة لي صدق حسي.
ركعت عند قدميها.. أمسكت بيدي وقالت لي: انهض يا ولدي.
- قلت لها: انا لا استحق ان اكون ولدك.. لقد تركتك وهربت.. ردت علي: انت لم تهرب.. بل غيرت المكان، غيرت الأرض بأرض اخرى وكلها ارض الله.. لكنك لم تشرك في قلبك حبا آخرا.. ولا أعني يا ولدي انك تحبني أنا ولا تحب استراليا.. أعرف ولاءك لأستراليا، احترمه، لكن حبك لامك مصر وما يحدث لها جعلك دائم التفكير في امك مصر على الرغم من طول سني غربتك وبعد المسافات.
تنهدت تنهيدة ان دلت على شيء، فانما تدل على حزن واسى دفينين في اعماقها ووجدانها.. ورأيت الدمع يترقرق في مقلتيها.
فكانت اجمل من افروديت إلهة الحب والجمال على الرغم من حزنها الدفين.
- قلت لها: بالله عليك يا أمي خبريني عن سبب او أسباب حزنك!! ردت علي قائلة: ما آلت اليه احوال ابنائي ألا يحزن؟!!
- بالطبع يحزن.. لكن هذا الامر ليس بجديد عليكي او علينا..
- في كل مرة عندما تصل الأمور الى مثل هذا الحد.. كان يخرج من وسط ابنائي من يرشدكم وينصحكم محاولا اصلاح الامر، وكانت الحكومات في اغلب الاحوال تستجيب له او لهم. اما الآن فالأمر جد مختلف.
- سامحيني أمي.. لكن الآن مساحة الحرية قد اتسعت ولدينا فضائيات وتكنولوجيا حديثة وصحف قومية ومعارضة وكل شيء يتحدثون عنه بكل جرأة وشجاعة قد تصل احيانا الى حد الوقاحة.
- مأساة الشعوب العربية انها تتكلم كثيرا واصبحت حياتهم مجرد كلام في كلام.. ولا مكان للعمل أو الاهتمام.
ماتت طموحاتهم وتحولت احلامهم الى كوابيس فتحاشوا النوم وقلبوا نهارهم ليلا وليلهم نهار. تبلدوا ودفنوا عقولهم في جبانات المخدرات واللهو والسكر.. واللامبالاة، وغابوا عن الوعي ولم يعد يهمهم من يلومون او من يحترمون، لانهم كانوا يوما عاملين محترمين فجاءهم من حكامهم من غيبهم وابعدهم وانكر عليهم حق العمل وحق الحياة الحرة الكريمة.
- انت محقة في كل ما تفضلتي وتكلمتي به. فأنا عن نفسي احد المحبطين الذين رأوا ان التيار جد شديد وقوي ومدمر للغير وفضلت الابتعاد والعيش على الأمل في ان يعبر اخوتي وأخواتي يوما ما يحدث لهم عن طريق من يستطيع صد ذلك التيار الرافض للغير، لكن اعتقد ان الامل قد تبدد. وعلى الرغم من ابتعادنا وقبولنا للغربة الا انهم ما زالوا يطاردوننا ويتهموننا نحن اقباط المهجر بالخيانة.
- ماذا تقصد بكلمة اقباط المهجر؟ هل تقصد المسيحيين؟!
- نعم.
- لا.. هذا قول خاطيء.. انا ما جئتك لانك مسيحي.. انما لانني ام لكل المصريين. وكما تعرف ان كلمة قبطي تعني مصري. وانما جئتك لانك واحد من ملايين الاقباط مسلمين ومسيحيين ما زالوا يحبونني كأم لهم.
- انهم يحاولون محو اسمك الغالي وانكار امومتك للشعب المصري.
- اعلم هذا.. واعلم من قال عني قولا سيئا «طوز في مصر»، بل وأضاف ان المسلم من اي بلد مسلم أقرب اليه من «القبطي» الذي يعيش معه على نفس الأرض.. أرضي.. أرض مصر. وهو بهذا القول قد اساء اليّ وانكرني وأساء الى ابني القبطي الذي يدين بالمسيحية وانكره وفضل عليه انسان آخر لمجرد انه مسلم مثله.
- شوفتي.. هذا ما ارمي اليه عندما قلت.. نحن أقباط المهجر..
- دعني اقول لك عندما هاجرتم جميعا مسلمين ومسيحيين عُرفتم باقباط المهجر.. لان العالم كله والانسان المثقف عرف معنى قبطي.. اي مصري فالمسلم قبطي والمسيحي قبطي يكفي هذا الارتباط بي أنا امكم مصر.
- لا شك انك تعرفين ما يحدث لاولادك المسيحيين!..
- نعم اعرف.. واعرف ما يحدث لاولادي المسلمين الذين ما زالوا يحبون امهم مصر ولا يقبلون غيرها بديلا.
- أمي الكيل قد زاد وطفح وكل يوم نسمع ونقرأ ونشاهد ما يواجهه اولادك المسيحيين من اضطهادات ومضايقات، مثلا في مركز ابو قرقاص في صعيد مصر تمزيق ملابس المحامية ميرفت راجي اسكندر وضربها بالعصي والتحرش بها جنسيا لمنعها من ممارسة عملها كمحامية، كما ادلت شقيقتها مريم راجي بعد نقل المحامية ميرفت الى مستشفى الفكرية للعلاج بهذا الحديث ان المحامين المسلمين لهم محاولات عديدة لاسلمتهم واحراق منزلهم، هذه الاحداث تحدث كل يوم وفي اماكن متعددة من ارضك يا أمي مصر.
- أعرف ذلك ايضا.. وهذا يقلقني، فقد انتزع الحب من قلوب اولادي، وحل محله الكره والحقد ورفض الآخر.. الكذب اصبح كلمة السر للوصول الى هدفك.. لا الكره ولا الكذب يرضى عنهما رب العباد مرسل الرسل والانبياء..
اعرف ايضا يا ولدي ما وصلت اليه حال الاسرة المصرية التي تحاول الخروج من دائرة الفقر ببيع بناتهن لمن يدفع ثمن متعته تحت ستار الزواج الشرعي، ثم يرميها بعد ذلك ويطلقها.. ولا تهتم الاسرة بما مرت به ابنتهم من مهانة واهدار لكرامتها وأدميتها. المهم ان الوالدين قبضا ثمن عهر ابنتهما المغلف باسم الزواج الشرعي والذي اجبرت الابنة على قبوله، وليس من المهم ان كانت الابنة قاصرا ام لا. اولادي المصريين اصبحوا غير مرغوب فيهم للعمل في دول النفط، وفضلوا عليهم ابناء جنسيات اخرى غير عربية، مع العلم انهم يتشدقون بعروبتهم وقد نسوا او تناسوا ان اولادي هم الذين علموهم واخرجوهم من حالة البداوة التي كانوا عليها الى نور العلم والثقافة والحضارة. اعرف كل هذا واكثر.. واعرف ان المد الوهابي اصبح يشكل خطرا حقيقيا على مصر. واخشى ان اقول انه تملك تماما على الحياة في بلدي من جميع النواحي، لانه قد تم تقريبا غسل مخ اجيال واجيال كانت صغيرة وكبرت الآن.. والغسيل مستمر ولا احد يهتم بي وبأولادي.
والعجيب في الأمر ان السعودية تحاول الخروج من القوة الوهابية، وذلك بتعيين اول امرأة وكيلة لوزير التلعيم. في الوقت الذي يحجم فيه المد الوهابي بناتي ويمنعهن من ممارسة حقوقهن المشروعة.
- وتعرفين ايضا يا امي ما حدث في مجلس الشعب عندما تقدمت العضوة الاستاذة ابتسام حبيب المسيحية بمشروع قانون خاص بالزواج العرفي ورد احد الاعضاء المسلمين الذين تم غسل مخه وطلب منها عدم التدخل في هذا الشأن الاسلامي لانها مسيحية.
- اعلم يا ولدي هذا واكثر فكل شيء يحدث امامي وكاد صبري ان ينفذ واتبرأ من اولادي الذين تشرفت بهم وكنت دائما فخورة بأعمالهم وانجازاتهم. ولم يكن الدين يوما دافعا لهم ليصلوا الى ما وصلوا اليه.
في نفس اللحظة التي انهت حديثها معي بدأت تبتعد وتبتعد في الفضاء وهي تقول..
- لا تخاف من اخوتك المسلمين فسوف يخرج من بينهم من يعيد لي كرامتي ويعيد الحب بينكم.. ولن يكون بمفرده.. بل سيكون معه اخوه المسيحي ليعيدا الأمن والأمان لابنائي.. وتذكر دائما انه لا يضيع حق وراءه مطالب.
صرخت بأعلى صوتي.. تحيا مصر.. تحيا مصر.. تحياامي وأم كل المصريين مصر.
فجأة شعرت بيد قوية تهزني لتوقظني. وعندما استيقظت وجدت نفسي في فراشي وليس فوق الكرسي الهزاز.. فليس عندي كرسي هزاز!!.

ليست هناك تعليقات: