الاثنين، فبراير 23، 2009

علمانية للتنوير .. وعلموية للتقوقع

د. ميرا جميل

النقاش حول العلمانية ، ورديفها ، توأمها.. العولمة ، في الفكر العربي ينحرف نحو ربط الظاهرة بالدين ، وبالخطر على الهوية من الثقافة الغربية الدخيلة ، في الوقت الذي نستعمل منجزات حضارة الغرب في كل مليمتر من حياتنا، وتسحرنا فنون الغرب وثقافته وعلومه وتقنياته الحديثة ، ولا مجال أمام طلابنا للتقدم العلمي الا بالانتساب لجامعات الغرب العلماني ، وحتى صلواتنا نطلقها للباري عبر انجازات نستوردها من الغرب العلماني ، وفتاوينا ننشرها عبر شبكات انترنيتية زودنا بها "الكافر ابن الكافر" العلماني بيل غيتس ، ولم تعد صلاتنا وخطبنا الدينية تنفع دون الشبكات التلفزيونية الفضائية ، التي ابتدعها الغرب الصليبي ، ويعتبر زبائن العالم العربي من أكثر مستهلكي المواقع الاباحية التي ينشرها الغرب .. أي حتى الفساد نستورده ونغذي به فسادنا . ومع ذلك ، رغم اننا نتنفس من منجزات العولمة ، صالحها وطالحها ، ونأكل من خيراتها ، ونتمتع ببدعها الساحرة واتصالاتها ومواصلاتها وعلومها واقتصادها وبرمجياتها الادارية ، دون ان نساهم فيها الا بالإستهلاك ، ومع ذلك موقفنا الرسمي والمعلن عنه عبر منجزات الدول العلمانية المتعولمة الضالة ، بأننا ضد علمانيتها وضد تيار العولمة الذي صرنا حلقة غير منتجة من حلقاته . ولا نتردد بانتاج برامج " تثقيفية " نبثها بمنجزات الكفار ، لنثبت ضلالهم وفقرهم الفكري وجهنم التي ستشوي أجسادهم الكافره .

ولا بد من ملاحظة ، بأن الحياة ورقيها أقوى مما نتمسك به من مقولات نثرثر بها ولا نعمل بها.وادعاءنا اننا نرفض حضارة الغرب هي هرطقة وكذب. هل يعقل ان نرفض التلفاز والانترنت والسينما والسيارة والطائرة والغسالة والجلاية والميكرو ووسائل التبريد والتدفئة والإضاءة والمنازل الحديثة ،والملابس الغربية و"ما بداخلها" من سحر لم تتعوده أعيننا في بلاد الخيام السوداء المتحركة .. وان نبقى حيث كنا قبل قبل 6 قرون او 14 قرنا ، بنفس "المنجزات" ونفس وسائل الاتصالات والسكن والنقل ، منتظرين "الدكاترة" زغلول النجار ان ينتهي من الكشف عن علومنا وتقنياتنا وتحويلها لعجلة الانتاج .. ربما بعد خمسة قرون ، اذا مد الله في عمره ؟

أقول بوضوح ان رفضنا شكلي وله بواعث لا تتعلق بالمنطق والعقل والمصلحة الوطنية ، بل بصيانة المصالح الذاتية الذي يوفره هذا الواقع لبعض التجار المنتفعين ، بغض النظر عن نوع تجارتهم ، وعن شرعيتها وصلاحيتها ، ومن المؤكد ان موعد تسويقها قد انتهى زمنه منذ قرون طويلة .

ان محاولات طمس ميل الانسان الفطري ، بغض النظر عن دينه او قوميته ، الى الرقي والتطور ، وترهيبه ، وكأن الاستقامة والورع تعني الحفاظ على الجمود العقلي ، والتمسك حرفيا وببغاويا بنصوص خارج حدود الزمان والمكان التي نزلت فيها، وفي حالتنا أيضا نشهد محاولات لالغاء خصوصية المثقف العربي والثقافة العربية ، دون أن يُقدم أي تفسير واضح وعقلاني حول هذه التبريرات . وهو منهج ليس جديدا على المجتمعات العربية والاسلامية. وما يثير الاستهجان ، هو الفهم الخاطئ بأن كل عملية تنطوي على احداث نقلة نوعية في حياة المواطن العربي ورفاهيته ، واقتصاديات المجتمعات العربية ورقيها العلمي والتكنلوجي، تُرفض عشوائيا وبانغلاق ،حتى لو كان جوهرها يتماثل مع التجارب الانسانية لمختلف الشعوب.. بل ويتماثل مع تاريخ حضارتنا في عصورها الزاهرة.

ان الدفاع عن رفض العولمة والعلمانية ينطلق من أن الغرب يحاول التذرع بها في مسعاه للسيطرة على العالم وفرض النظام العالمي الجديد أو فرض طروحات ثقافة العولمة ورديفها العلمانية بالقوة ، على حساب قيم ومعتقدات تشكل هويتنا أو تميزنا ، رغم أني لا أعرف ما نتميز به اليوم الا كوننا في قاع سلم التطور العالمي. . ومتجاهلين الحقيقة اننا لا نستطيع الدعاية ضد الغرب نفسه الا بأدواته ومنتجاته التي أنجزت بعد ان صارت المفاهيم العلمانية ( من علم وعالم ) القاعدة الدستورية للأنظمة الغربية.

هل استوعب المعارضون معنى ثقافة العولمة ؟ تأثيرها على الاقتصاد والرقي العلمي والحضاري ..؟

هل قارنوا بين واقع الانسان العربي في مجتمعاتنا ، الحائر بين احتياجاته المتزايدة لمنجزات العولمة ، والذي يعيش في أنظمة بلا مؤسسات دولة مستقلة ، تحكمها أنظمة قبلية ، او عائلية استبدادية ، وتسودها دوافع متزايدة للعودة بتفكيره الى عصور سابقة لعصر التنوير والنهضة بمئات السنين. وبين أنظمة المجتمعات العلمانية ، التي تسودها الدمقراطية والحريات وما أقرته من حقوق الانسان والمواطنة والمساواة بين الأجناس وبين القوميات والديانات ؟ وما أقرته من ضمانات اجتماعية وصحية وثقافية وتعليمية ؟

هنا المعيار الأساسي وليس في الترويج لثقافة الكراهية والتنشئة عليها والدفاع عن واقع وجودنا بأدنى سلم التطور.

بعض المتثاقفين يتذرعون بالسلوك الاجتماعي في رفض العولمة ، هل سلوكنا الاجتماعي أكثر رقيا من سلوك العلمانيين او مروجي العولمة؟ وما هي مقاييس السلوك الاجتماعي ؟ هل من مقاييس جاهزة عابرة للتاريخ ؟ أم ان المقاييس تخضع لعوامل متعددة من التطور الفكري والاقتصادي والعلمي والسياسي أيضا؟

ما هي مميزات سلوكنا الاجتماعي التي نبرر بها وضعنا ؟

اذا بدأت في اعطاء نماذج " منورة " لسلوكنا الاجتماعي ، سأتهم بأني عدوة لشعبي وثقافتي ونفسي !!

عشرات أنواع من الزواج .. من زواج العرفي الى زواج المسيار الى زواج المتعة الى زواج الفرند الى زواج السياحة ، والقائمة طويلة ... هل هذا سلوك اجتماعي نفاخر به أم زنا مغلف ؟

هل اضطهاد المرأة واعتبارها ضلعا قاصرا ، ومجرد بضاعة يملكها رجلها ، واخضاعها لمحرم لا تحرك لها بدونه ، هو سلوك اجتماعي يجب حمايته من العولمة؟

هل حرمان شعوبنا العربية من حقوقها الدمقراطية ، وابقاء نسب كبيرة من الأجيال الناشئة خارج المدارس ( بعض التقديرات تتحدث عن 10 ملايين فتى وفتاة خارج سلك التعليم ) ، وغياب الفصل بين السلطات واستشراء الفساد ، هو سلوك اجتماعي ننافس به واقع دول العولمة وعلمانيتها ؟

هل استمرارالحديث عن العلاج بالحجامة وبول الإبل وحبة البركة ، هو سلوك اجتماعي وعلمي ، نتفوق فيه على دول العولمة ، حيث يعالجون بالهندسة الوراثية والطب الذري ويقرأون الخريطة الجينية؟

ما زلنا حتى هذه اللحظة غير متفقين على تحديد بدايات الشهور الهجرية فلكياً بينما دول العولمة غزت الفضاء الكوني وتهبط على سطح القمر وترتاد المريخ ويراقبون أصغر جسم يتحرك على سطح الأرض من خلال أقمارهم الصناعية.

اذا عجزوا عن محاورتك ، واذا عجزوا عن تفسير تخلف علومهم ومجتمعاتهم ، يلجأون لهرطقات الاعجاز العلمي في القرآن ، التي سبق وأن تناولتها في السابق.ويجيئني بهذه المناسبة ، الحوار الذي خاضته الكاتبة والمفكرة الاسلامية المصرية الجريئة الدكتورة بنت الشاطئ ضد هرطقة مصطفى محمود ، على صفحات الأهرام في وقته ( سنوات السبعين ) ، حيث شبهت دعاة الإعجاز العلمي بالحواة وأنهم نصابون متاجرون بمشاعر المسلمين المتعطشين لأى تفوق أو إنتصار علمي فى عصر هم فيه فى مؤخرة العالم . واليوم صارت الأهرام ساحة مفتوحة لدكتور الهرطقيين زغلول النجار !!

لا اتجاهل ان اليسار وقوى ثورية مختلفة ترفض العولمة من وجهة نظر فكرية ، وهي لا تلتقي مع وجهة النظر التي يروجها حواة باسم الاسلام .بل وبين المعسكرين خطان متوازيان لا يلتقيان ( "الا باذنه تعالى" ، كما جاء في كتاب سعودي لتدريس الهندسة) . ومع ذلك ربما نتفهم معارضة اليسار الثوري في اوروبا للعولمة ، ونجد مسارات للحوار والتلاقي ، فهم لا يرفضون العلم ولا يدعون ان كتبهم المقدسة تشمل العلوم ، كما كان حال الكنيسة في العصور الوسطى .. حتى الامام محمدة عبدة حذر من هذه الهرطقة ، بقولة : "ان في القرآن كل ما يلزم امور الدين وليس الدنيا". ان رافضي العولمة في الغرب لهم منطلقاتهم الفكرية التي تنشد صيانة حقوق الانسان ورفع شأنه الاجتماعي .. ورفض تحويل العولمة الى المزيد من الاثراء للقوى المتحكمة في عالمنا ، من دول وشركات .. على حساب الدول الضعيفة .

والسؤال التلقائي حتى متى نبقى في أسر هذا التوجس واضعين الدين ، والأصح القول ما يلصق بدون حق بالدين.. حجر عثرة في طريق تغيير واقعنا المتردي من حضيض الى حضيض أكثر قسوة؟

لن أدخل في نقاش حول صحة أو خطأ استعمال الدين كحاجز يمنع دخول العرب الى التاريخ الحديث .. ويحافظ عليهم خارج التاريخ البشري. هناك الكثير من الطروحات التي ترى المحفزات الحقيقية في الدين نحو طلب العلم والرقي .. حتى في دراسة معروف الرصافي لشخصية الرسول ودعوته أكد على ظاهرة مهمة جدا وعقلانية جدا وفيها الكثير الكثير من المنطق ، بان الهدف من الدعوة لم يكن دينيا محضا ، انما احداث نهضة كبرى او موجة عربية كبرى تكون دينية اجتماعية سياسية وبناء الدولة العربية القوية ( كتاب: "الشخصية المحمدية " – معروف الرصافي / منشورات الجمل – المانيا – 2002 ) وعلية لم يفرض الاسلام على المسيحيين ( الضالين ) ولا حتى على المجوس ( عبدة النار ، الكفار ) .. لأن ما كان يهمه تحصيل الجزية لميزانية الدولة العربية الاسلامية.



في البحث عن دوافع نشوء العولمة لا بد ان نلاحظ ان تطور الوعي البشري في القرون الأخيرة ، أعطى البشرية أدوات وقدرات علمية وتكنلوجية ، ومساحات آخذة بالاتساع والتطور من الاتصالات ، ونهضة اقتصادية بنسب مرتفعة جدا سنويا.الأمر الذي اتاح للمرة الأولى تحقيق رفاهية كانت حلما بشريا في السابق. بالطبع ظلت الشعوب العربية محافظة على "سلوكياتها الاجتماعية " وتعاني من الجهل المنتشر والمتزايد ، والفقر المدقع والبطالة المدمرة.. والأنظمة القمعية ، وغياب نظام عربي دمقراطي ، واستمرار الحكم بقوانين طوارئ ، او بنزوات أجهزة السلطة التي باتت تتميز في معظم الوطن العربي ، بكونها سلطات قبلية عائلية دينية واستبدادية .

لا اريد ان يفهم كلامي ان الرفاهية أضحت حالة اجتماعية عامة في الغرب ، انما شملت أوساطا اجتماعية أكثر اتساعا وبازدياد دائم . ومقابلها نجد واقعا صعبا تعاني منه الفئات العاملة والفقيرة .. ولكن مقارنتها بالواقع العربي يظهر فجوة رهيبة بمقاييس الفقر العربي والفقر الغربي . بالطبع ليس لصالح العرب.

البعض يدعي ان الاستعمار هو سبب تخلف الشعوب ، ويتجاهلون ان الآستعمار كان من نصيب الدول المتخلفة ، ولم تستعمر أي دولة أو شعب متقدم اقتصاديا.ونحن نحافظ على موروثاتنا حتى لا تتناقض مع "سلوكياتنا الاجتماعية ". فهل نستهجن اننا بلا شخصية دولية.هناك قيمة لنفطنا ولا قيمة لمطالبنا. هناك قيمة لمن هم دوننا حجما ومساحة جغرافية بسب تطورهم العلمي وتطور اقتصادهم .. ونحن لا اعتبار لنا ؟ ..

رغم كل السلبيات التي رافقت النهضة العلمية والتكنلوجية والاقتصادية ، فقد بدأت تطرح مفاهيم الحرية والمساواة لكل سكان كوكبنا الأرضي.

العولمة أعطت قوة هائلة للأفراد والمنظمات وأصحاب الرساميل ، وللسياسين التابعين لهم . وأضحت السياسة مرتبطة تماما برأس المال. وما يعنيه ذلك من قدرة المتمولين على تحويل السيء الى جيد والعكس صحيح. وعمليا دمغت الفكرة الانسانية للعولمة ، بظواهر فاسدة وتحريف في توجيهها الى مضامين استغلالية وقمعية في الداخل والخارج.

ولكن هل يمكن النظر الى العولمة والحكم عليها ، حسب انعكاساتها ، وما تمثله هذه الانعكاسات على سائر سكان كوكبنا؟

العولمة التي انطلقت من ازدياد الوعي الانساني لا قيمة لها بدون استمرار تطور هذا الوعي ، واستمرار انعكاسه على النهضة العلمية والاقتصادية .

ان الرقي في مستوى الحياة ، ومستوى الخدمات هو الانعكاس الطبيعي لازدياد الوعي ، ونشوء ما يسمى بدول الرفاه الاجتماعي في اوروربا ، هو نتيجة حتمية لاستحالة الاستمرار بالنهج الذي أعقب العولمة ( عصر الرأسمالية الأول والثاني وصولا الى الاستعمار بصفته من مراحل التطور للرأسمالية ، ولكن ليس النهائية كما يُنظر البعض ).

هذا لا يعني ان الجميع يتمتع بنفس القدر من الرفاه . ولكن تطور الوعي يطور آليات تضع بيد المجتمع المدني قوة رقابية على حقوق الانسان ، وحقوق المواطن ، وتأميناته المختلفة.. الاجتماعية والصحية والخدماتية وحرياته الدمقراطية والثقافية والدينية والاثنية .

الانسان لم يعد هو نفسه ذلك الانسان عديم المعرفة . التعليم ازداد نظرا لضروات تفرضها النهضة والتطور التقني والعلمي والاقتصادي والحاجة الى علماء ومهندسين وتقنيين واداريين ومبرمجين وموظفين .. الخ .

ان النضال ضد ازدياد الفجوات في الدخل بين الأغنياء وسائر الفئات الاجتماعية ، لم يعد نضالا طبقيا فقط ، بل هو نضال من أجل انقاذ المجتمع المدني من الفساد وما يشكلة من خطورة تزايد الفجوات في الدخل ومستوى الحياة على الواقع الاجتماعي والسياسي ، وهذا ما زال صحيحا حتى اليوم ، وهو في صميم الفكر الذي يطرحة معارضي العولمة .

ان العولمة التي نريدها هي عولمة عادلة ، تتمتع بثمارها الانسانية كلها.. وليس عددا ضئيلا من الأقوياء.



لا يمكن تجاهل دمج العولمة بالعلمانية التي يفهمها الكثيرين خطأ بأنها لادينية. وترتبط العلمانية تاريخيا بعصر التنوير في أوروبا وتلعب العولمة اليوم دورا أساسيّاً في المجتمع الغربي كمرجع اوّل لهيكلة الدولة، وينسب الكثير من الباحثين وبحق ، ان المبادئ والأفكار الأولى التي مهّدت الطريق لعصر التنوير الأوروبي وللعلمانية في اوروربا ، تعود إلى فلسفة وكتابات ابن رشد الذي عمل على تكريس الفصل بين الفلسفة و الدين.



العولمة والعلمانية



في العلاقة بين العلمانية والعولمة يوجد ارباك شديد في الفهم .

اولا ، لا بد ان نميز بين علماني ( من علم ) وتعني القدرة على حل جميع المشاكل وتطبيق الطرق العلمية في جميع حقول المعرفة البشرية ، يستطيع العلم ان يعطي الانسان فلسفة شاملة عن الحياة.

ثانيا ، علمانية ( من عالم ) وتعريفها أشمل وأقدم لأنها اقترنت بالعالم ، أي بالمحيط البشري المترامي في هذا الكون الواسع..

لا يمكن ان نتجاهل ان التعريفين متقاربان . العالمية تعني العلمية ، اذ بدون العلم لا تتحقق العالمية . والعلمية والعالمية عنصران متفاعلان في الانتصار للعلم ومقولات المنطق والعقل .

بالطبع هناك تعبير آخر " اللائكية" مشتق من نفس المصادر الكلاسيكية للعلمانية والعولمة، ويعني الناس غير الخاضعين للفكر الديني ( والقصد الفكر الكاثوليكي ) وهو مبدأ عقلاني بجوهره يرفض تدخل الكنيسة في شؤون الدولة. ويدعو الى الفصل بين البعد الديني والقضاء الوضعي. وان الدين لا يهم الا صاحبه ، وكان الفيلسوف البريطاني برتراند راسل من اللائكيين ، فكتب مفسرا: " اللائكية هي ان يكون الانسان سيد لنفسه "

اذن مفهومها لا يعني العداء للدين ، بل التحرر من الدين والحرية للدين .

العلمانية ، كما أسلفنا .. جائت على صعيد عصر النهضة الاوروربي ، الذي قاد اوروبا بعيدا عن سيطرة الكهنوت الكنسي. ولكن العلمانية لم تطرح نهاية الدين ، بل طرحت الحرية للدين والحرية من الدين.والدولة العلمانية لا تقمع المتدينين ، ولا تميز ضدهم ، بل تصون حقوقهم ربما أفضل من صونها لحقوق غير المتدينين . مثلا الدولة الفنلندية توفر الأموال لبناء المساجد في فنلندا. وهناك من يقول ان القانون العلماني يخدم الدين من تدخل الدولة ، كما هو الحال في القانون الأمريكي مثلا .( طبعا بغض النظر عن اشكاليات العمليات الارهابية وما جرته من مضايقات على المواطنين المسلمين. )

يمكن اعتبار نظام هارون الرشيد وابنية الأمين والمأمون ، نوعا من العلمانية المبكرة ، فقد كان عصرا منفتحا على العلوم والنقل والترجمة والموسيقى والفلك والطب وغيرها. وساهم المسيحيون والفرس وابناء قوميات وديانات أخرى في احداث نهضة علمية عربية اسلامية واسعة . وحتى عندما احتج رجل دين على ترجمة كتاب ما يتناقض مع مباديء الدين امام الخليفة الأمين ، قال له الأمين: " نترجمه ونقرأه ولا نعمل به ".

المثير للملاحظة هنا ان الموسيقى كانت تعتبر في الاسلام من الفسق. ولكن فترة الرشيد والامين والمأمون شهدت نهضة موسيقية هائلة.بل وطور الأطباء العرب طريقة العلاج بالموسيقى كما فعل الرازي وابن سينا والخوارزمي وغيرهم ، وكانوا موسيقيين الى جانب كونهم أطباء.فهل كانت موسيقاهم نوع من الفسق ؟ وهل العلاج بالموسيقى الذي يعتبر اليوم من الاساليب الجديدة في العلاج الطبي والنفسي هو أمر مرفوض دينيا ، لأن صيغة ما قيلت في ظروف لم تعد قائمة ؟

ما دمنا ضد العولمة لماذا نستعمل التلفاز ، والانترنت والبلفونات والتلفونات والفاكسات والطائرات والسيارات وكلها أدوات تطورت كانعكاس للنهضة وبدء عصر العلمانية وما تلاها من ثورة صناعية ثم ثورات تكنلوجية وعلمية ؟

وهل سنظل نبحث في موروثاتنا لايجاد اشارة نجعل منها موضوعا يخدم ايماننا العلموي ؟

العلموية ليست اكتشافا جديدا ، وهي تعني ايمان غير علمي في جوهره ، يتوهم القدرة العلمية الخارقة بذاته اولا وبقدرته على تأويل نصوص لم تطرح أصلا كنصوص علمية. لأن للعلم ميدانا خاصا في النشاط البشري ، ومحكوم بصيغة اجتماعية.

لا بد اليوم من نهج تنويري في كل مجالات حياتنا . لا يمكن الاستمرار بالانغلاق في أي فكر كان ، لأن الانغلاق يعني الموت البطيء واستمرار الاندفاع الى خارج التاريخ .

د. ميرا جميل – باحثة اجتماعية وكاتبة - نيقوسيا

meara.jameal@gmail.com

ليست هناك تعليقات: