الأحد، فبراير 08، 2009

انطباعات عن شخصية آسيوية استثنائية

د. عبدالله المدني

حينما قادني سعادة السفير التايلاندي لدى مملكة البحرين السيد " سوفات تشيترانوكروه " إلى جناح الدكتور سوريت بيتسوان الأمين العام لمنظمة أمم جنوب شرق آسيا المعروفة اختصارا باسم آسيان في فندق الريتز كارلتون بالمنامة لإجراء حوار صحفي معه، وجدت نفسي أمام شخصية لولا تقاسيم وجهها لما خلته تايلانديا. فقامته المديدة وبنيته الجسمانية القوية وصوته الجهوري وانجليزيته الفصيحة غير المشبعة بلكنة شعوب جنوب شرق آسيا، كانت كلها توحي بوجودي في حضرة دبلوماسي استثنائي من خارج منطقة شرق آسيا.

أول لقاء يعقد في الخليج

والرجل الذي حل ضيفا على البحرين يومي الثامن والعشرين والتاسع والعشرين من يناير/ كانون الثاني الماضي، جاء خصيصا للتباحث مع المسئولين في الخارجية البحرينية حول ترتيبات عقد أول اجتماع على مستوى وزراء الخارجية ما بين دول آسيان العشر ودول مجلس التعاون الخليجي الست ( من المقرر أن تستضيفه المنامة في مايو/ أيار المقبل) من بعد أن كان مثل هذا الاجتماع يعقد على نفس المستوى لكن على هامش الاجتماعات السنوية للجمعية العامة للأمم المتحدة في نيويورك. وهذا في حد ذاته أمر يعكس مدى التطور الذي وصلت إليه العلاقات البينية سواء ما بين دول جنوب شرق آسيا و دول الخليج أو ما بين التكتلين الخليجي والآسيوي، بل ويعكس أيضا مدى ما توليه أقطار دول مجلس التعاون من أهمية للتعاون مع الأمم الآسيوية الناهضة والاستفادة من تجاربها في مختلف الحقول والميادين، وهو ما أشاد به السيد بيتسوان وعزاه إلى جملة من العوامل المتشابكة مثل: ظاهرة العولمة، والمتغيرات الدولية في مرحلة ما بعد الحرب الباردة وانهيار الاتحاد السوفيتي وسقوط حلف وارسو، واكتشاف كل طرف لما عند الطرف الآخر من إمكانيات يمكن الاستفادة منها في رفد خطط التنمية المستدامة وتعزيز الأمن والاستقرار الإقليمي والدولي.

سنوات طويلة من الإقامة في أمريكا

في المقابلة التي لم تستغرق – للأسف – سوى نصف ساعة بسبب ارتباط الضيف بجدول حافل من اللقاءات، فضل الأخير أن نتحدث بالإنجليزية رغم إجادته للغة العربية التي تعلمها في مصر يوم أن كان طالبا في الجامعة الأمريكية بالقاهرة ضمن برامج الزمالة الأكاديمية الممنوحة من صندوق روكفيلير بالتعاون مع جامعة هارفارد العريقة. ولعل الشق الأخير من الجملة السابقة، معطوفا على سنوات من الإقامة الطويلة في الولايات المتحدة الأمريكية كطالب علوم سياسية في كلية كليرمونت في كاليفورنيا ثم كباحث وطالب دكتوراه في كلية الآداب بجامعة هارفارد، ثم كمدرس للعلاقات الدولية في الجامعة الأمريكية في واشنطون، يوضح أسباب تمكن الرجل من الإنجليزية ونطقها بسلاسة غير معهودة عند مواطنيه.

شخصية مركبة متعددة المواهب

على أن السيد بيتسوان فوق هذا كله من الشخصيات المركبة، أي تلك التي وهبها الله ملكات متعددة فحفرت اسمها في أكثر من حقل ومحفل على مدى أكثر من أربعة عقود. فهو سياسي من الطراز الأول، و مشرع و دبلوماسي و كاتب صحفي وأكاديمي ومستشار و نائب وزير ووزير، ناهيك عن انه باحث في الشئون الإسلامية بفضل تتلمذه على يد عدد من علماء الدين المعروفين في المجلس الأعلى للشئون الإسلامية في مصر في منتصف السبعينات. وهذه الأمور تحتاج كلها إلى المزيد من الشرح والتفصيل على النحو التالي:

• بعد عودته من الولايات المتحدة إلى تايلاند في عام 1982 ، نجح بيتسوان في عام 1986 في الوصول إلى مقاعد البرلمان ممثلا لمسقط رأسه - دائرة "ناخون سي تامارات " الجنوبية التي ولد فيها في الثامن والعشرين من أكتوبر/ تشرين الأول 1949 لعائلة تنحدر أصلا من الملايو ، بل أهله هذا الفوز للمنافسة على منصب سكرتارية مجلس النواب الذي حصل عليه بالفعل.
• وفي عام 1988 عينته الحكومة كمساعد لوزير الداخلية، وما بين عامي 1992 و1995 عين كمساعد لوزير الخارجية، وذلك قبل أن يتولى ما بين عامي 1997 و 2001 منصب وزير الخارجية في حكومة رئيس الوزراء الأسبق " تشوان ليكباي" الذي شهد عهده حدوث الأزمة النقدية الآسيوية (أزمة 1997)، وكذلك الخروج من تلك الأزمة ومحو آثارها بنجاح منقطع النظير وفي زمن قياسي بشهادة صندوق النقد الدولي.
• وما بين عامي 1999 و 2000 تولى بيتسوان سكرتارية منظمة آسيان لأول مرة قبل أن يصادق زعماء آسيان في قمتهم الثالثة عشر المنعقدة في سنغافورة في نوفمبر 2007 على تعيينه مجددا في هذا المنصب ولمدة خمس سنوات ابتداء من الأول من يناير/ كانون الثاني 2008 خلفا للسنغافوري " اونغ كينغ يونغ ". وكان قد سبق هذا الإجراء موافقة مجلس الوزراء التايلاندي بالإجماع في جلسة له بتاريخ 18 يونيو/ حزيران 2007 على ترشيحه للمنصب، وموافقة وزراء خارجية آسيان في لقائهم الأربعين في مانيلا في يوليو/ تموز 2007 على ذلك الترشيح.
• أثناء أدائه لوظائفه السياسية والوزارية والتشريعية، حرص الرجل أن يقوم إلى جانب ذلك بالتدريس الأكاديمي العالي، واختار لذلك جامعة من اشهر جامعات البلاد وهي جامعة تاماسات التي تولى فيها أولا عمادة كلية العلوم السياسية و لاحقا منصب نائب الرئيس للشئون الأكاديمية، كما حرص على الكتابة اليومية في صحيفتي بانكوك الرئيسيتين ( بانكوك بوست و ذ ناشيون) ما بين عامي 1980 و1992 .
• وحينما حل عام 1983 جاءت للرجل مرة أخرى فرصة العودة إلى الولايات المتحدة لقضاء عام كامل في أروقة الكونغرس الأمريكي، فلم يتردد في قبولها طمعا في تعزيز وإثراء تجربته السياسية والعلمية.
• وكان من الطبيعي لشخصية متعددة المواهب والتجارب كهذه أن يمنح لاحقا مناصب استشارية في العديد من المنظمات واللجان الدولية مثل المفوضية الدولية المختصة بسيادة الدول والمفوضية العالمية المختصة بالجوانب الاجتماعية للعولمة والمفوضية الدولية الخاصة بالأمن الإنساني.

إشادة بتجربة البحرين ومجلس التعاون

في لقائي مع السيد بيتسوان، استوقفتني إشادته بتجربة مملكة البحرين التي وصفها بالمتميزة والمختلفة عن غيرها من التجارب في منطقة الخليج لأسباب تاريخية وجغرافية واجتماعية وثقافية عديدة، الأمر الذي دفع العديد من دول تكتل آسيان – حسب قوله - إلى المراهنة على هذه الجزيرة الصغيرة المتسامحة كبوابة لها نحو بقية دول المنطقة سواء لأغراض التصدير أو الاستثمار أو إقامة المشاريع المشتركة. كما استوقفتني إشارته إلى مجلس التعاون الخليجي كبوابة للأمل وكطريق للأجيال الخليجية القادمة نحو تحقيق أحلامها في السلام والتعايش والتعاون والازدهار، وهذا هو نفس ما طمحت إليه منظومة آسيان يوم أن تم تدشينها في الثامن أغسطس/ آب عام 1967 من قبل وزراء خارجية الدول الخمس المؤسسة ( اندونيسيا وماليزيا والفلبين و تايلاند وسنغافورة ) فصارت اليوم وبعد أربعين عاما حقيقة ملموسة وماثلة للعيان. وهذا هو أيضا ما عاد السيد بيتسوان إلى التأكيد عليه في كلمة له في حفل تنصيبه كأمين عام لمنظومة آسيان في السابع من يناير/كانون الثاني 2008 حينما قال: " بعد أربعين عاما، لا تزال رؤاهم وأحلامهم (رؤى وأحلام وزراء خارجية الدول الأعضاء) تنبض بالحياة و الوضوح والثقة والأمل في تجميع الجهود وتوحيدها بكفاءة اكبر وبتنسيق أشمل من اجل تقدم أمم جنوب شرق آسيا، مواطنين وحكومات وشركاء، بل من اجل توطيد مبادئنا وتحسين شروط وجودنا في العالم كقوى منافسة وتسريع عملية النهوض للتصدي لكل التحديات والاحتمالات القادمة".

مكافحة وباء العصر

وفي اللقاء كانت هناك أشياء أخرى تم تناولها، من قبيل الحديث عن مدى التعاون المتحقق ما بين كتلتي آسيان ومجلس التعاون في مجال مكافحة داء العصر ألا وهو الإرهاب والتطرف الذي تعاني منه المنطقتان على حد سواء. وإزاء هذا الموضوع تحديدا طالت إجابة الرجل نظرا لمعرفته الدقيقة لأهداف الحركات والمنظمات الإرهابية المتشددة والمستترة خلف الإسلام من تلك التي تنشط في دول مثل تايلاند والفلبين واندونيسيا " وتروج لأفكار ومباديء وسلوكيات لم أتعلمها أثناء دراستي الإسلامية في مصر".

غياب التعاون الثقافي والعلمي

كما كانت في اللقاء أشياء أخرى من قبيل لماذا ظل التعاون الخليجي – الآسيوي محصورا دائما في الشق الاقتصادي والتجاري دون الالتفات بنفس الدرجة إلى التعاون العلمي والثقافي والأكاديمي والتربوي – أو على الأقل الالتفات إلى التعاون الثقافي باعتبار أن الثقافة جسر يقرب ما بين الشعوب ويوطد علاقاتها ويسهل بالتالي تعاونها - وماهية الدور الذي يمكن لمنظومة آسيان أن تقوم به لجهة تطبيع العلاقات ما بين بانكوك والرياض وإزالة التعقيدات الموجودة بينهما منذ ثمانينات القرن المنصرم والتي قد تنعكس سلبا على تعاون الطرفين الخليجي والآسيوي خصوصا وان هناك حديث يدور حول قرب توقيع اتفاقية لتحرير التجارة وإقامة المنطقة الجمركية الحرة بين الطرفين، وكيف أن منظومة آسيان صارت اليوم في مقام الأمم المتحدة لكن بنسخة آسيوية بدليل إرسال بعض الدول لدبلوماسيين يمثلونها لدى المنظمة في مقرها الرئيسي بالعاصمة الاندونيسية ( جاكرتا)، ومدى الإصلاح السياسي الذي تحقق في بورما بعد قبول الأخيرة بحماس كعضو كامل في آسيان، أملا في أن يؤدي ذلك إلى تشجيع حكام رانغون العسكريين على الانفتاح والأخذ بالخيار الديمقراطي وإيقاف مسلسل قمع واضطهاد شعوبهم.

إجابات شفافة و جريئة

ويمكنني القول بثقة أن إجابات هذا الدبلوماسي المحنك اتصفت جميعها بالشفافية والجرأة والانفتاح، ولا سيما فيما يتعلق بالسؤال الأخير الذي رد عليه بطريقة مختلفة عن الطريقة المعتادة عند معظم الدبلوماسيين. فقد فاجأني بالقول " للأسف لم يتحقق أي شيء في هذا المجال لأن دول المنظومة في علاقاتها مع النظام العسكري البورمي تحركها الأهداف المتضاربة والمصالح الخاصة، الأمر الذي يعيق قيامها بالضغوط القوية المطلوبة على نظام رانغون، فضلا عن أن أي جهد للتغيير السليم والمحكم يجب أن ينبع من الداخل بحسب ما علمتنا التجارب ".

د. عبدالله المدني
*باحث ومحاضر أكاديمي في الشئون الآسيوية من البحرين
تاريخ المادة : فبراير 2009
الايميل: elmadani@batelco.com.bh


ليست هناك تعليقات: