الأربعاء، فبراير 18، 2009

لماذا العروبة أولا؟

محمد علي الحسيني

يثير طرح موضوع العروبة إشکاليات و حساسيات متعددة الابعاد و الجوانب و باتت في نظر العديد من الشرائح الفکرية و الاجتماعية العربية موضوعا قد أکل عليه الدهر و شرب و انه ليس لا يخدم الواقع العربي بشئ وإنما يساهم أيضا في تخلفه و إدخاله في معمعات و متاهاة هو في غنى عنها. ولئن کنا في المجلس الاسلامي العربي في لبنان قد أکدنا مرارا و تکرارا على هذا الموضوع و أعتبرناه بمثابة الجوهر و العمود الفقري الذي يستند عليه المجلس و السبب الاساسي و الاهم لإنبثاقه، لکننا في نفس الوقت لسنا نبغي من وراء مفهوم العروبة الدعوة الى عرقية بغيضة تقوم على اساس من إقصاء الآخر أو رفضه و تهميشه لإعتبارات غيرشرعية و انسانية و قانونية.

العروبة التي دعونا و ندعو إليها ليست دثارا نتلحف به طمعا في إکتساب عطف و رضا و تإييد الجماهير العربية مثلما إنها لن تکون مجرد شعار حماسي القصد الاساسي من طرحه إشغال الجماهير به من أجل تمرير أجندة حزبية أو سياسية ضيقة الافق لاتخدم واقع و طموحات و أماني الغالبية الساحقة من الجماهير العربية، کما انها ليست بضاعة معروضة في دکاکين النخاسة السياسية تکون من نصيب الذي يدفع أکثر، بل أن العروبة التي ندعو إليها هي ذات العروبة التي أحبها النبي العربي الهاشمي و تفاخر بها وهي ذات العروبة التي تنبض في أعماق کل عربي أصيل يؤمن بمبادئ النخوة و الشهامة و المروءة و الشجاعة و الانسانية، عروبتنا هي بناء معروف بأساسه و مشهور بأعمدته التي ترتکز عليها وإنها تعتمد على مبدأ الجمع و التوحيد و نبذ التفرقة و التشتت و التهميش و الإنغلاق.

ان ترکيزنا على العروبة و الدعوة الملحة لها و منحنا إياها أولوية قصوى وتفضيلها على خيارات قطرية ضيقة، يعود اساسا لإيماننا العميق بأنها المخرج الوحيد الذي لابد للعرب المرور من خلاله للتغلب على المصاعب و التحديات التي تواجه حاضرهم و تهدد مستقبلهم، وان الخطر عندما يداهم العرب فإنه ليس بالامکان حصره بقطر عربي محدد وإنما يهدد الاقطار العربية الاخرى و يجعلها ضمن الهدف، وقطعا فإن العروبة التي ندعو إليها ليست بتلك القياسات و الابعاد الحزبية الضيقة وليست أيضا بتلك الصيغ المشوهة و الناقصة و العرجاء التي تدفع المواطن العربي لسياقات ضالة و مضللة وإنما هي بنفس القياسات و الابعاد التي إبتدعتها العقلية العربية منذ غابر الازمان و جاء الاسلام ليمنحه عزا و شرفا و مجدا و رفعة لتکون نموذجا و مثلا أعلى لکافة الامم و الشعوب في کل أرجاء المعمورة.

وعندما نقول ان العروبة التي ندعو إليها هي بنفس قياسات و أبعاد العقلية العربية السحيقة فإننا نرکز هنا على البعد الاخلاقي المميز للشخصية العربية و محتواها الانساني المشرئب بروح النخوة و الشهامة و نصرة الظلوم و مساعدة الضعيف و رفض الظلم و الطغيان و ماإليها من خصال حميدة يجدها المرء مجسدا في التراث العربي عبر مختلف العصور و الازمنة وهنا تتجسد مسألة الاصالة بعمقها التأريخي الحضاري لتنير لنا قوة الاساس الاجتماعي للعروبة ولکون العروبة(حالها حال أي من السنن التأريخية) کانت معرضة لمراحل سلبية تفتقد خلالها بعضا من جوانبها الاساسية، فقد شرف الله سبحانه و تعالى امة العرب بدين الاسلام الذي صار ظهيرا و سندا قويا للعروبة بعد أن هذب و نقح الاصول الاخلاقية لها و جعلها أکثر شمولية و تسامحا، فإن العروبة قد خرجت من القوقعة التأريخية المحددة بزمن أو فترة أو مرحلة معينة وإکتسبت عمقا معاصرا جعلها تتمکن من مواکبة کل العصور و المراحل التأريخية المختلفة، ومن هنا فإن العروبة التي ندعو إليها(وهي العروبة الحقة و الاصيلة لأجدادنا)تتميز بالاصالة و المعاصرة، أصالة قومية و معاصرة ذات بعد ديني أخلاقي و تعتبر الخيار القومي ـ الاخلاقي ـ الديني الاساس و المعيار الاهم في التفاضل ومن هنا، فإننا نرى أن العروبة بهذا المفهوم، لاتفضل قطرا عربيا على آخرا و لاتمنح الاولوية لأي دولة عربية مشرقية کانت أم غيرها، على دولة عربية أخرى بل لکل منها خصائصها و مميزاتها المحددة لکن کل الاقطار العربية بالاماکن جمعها و صهرها في بوتقة واحدة هي العروبة التي من الممکن إعتبارها صمام أمان لکل الاقطار.

ولقد کان الخطأ الاکبر الذي وقعت فيه الاحزاب و التنظيمات و الجمعيات العربية ذات الانتماء القومي، إنها أخذت جانبا محددا من العروبة، جانب يخدم أهدافها القصيرة المدى متصورة بأن مربط الفرس يکمن في إزاحة النظم العربية الحاکمة و التشکيك بالقادة و الزعماء العرب وهي بذلك أهملت واجبها الاساسي بتربية و صقل الذات العربية التي تعرضت و تتعرض لهجمات عدوانية شرسة من قبل أعدائها المختلفين وبدلا من إعداد الاسس الکفيلة بتوفير الضمانة الاساسية لأمن قومي عربي حديدي من خلال بناء الشخصية العربية و إعادة الاعتبار الذي منحه الله سبحانه و تعالى لها، فإن تلك الاحزاب و المنظمات و الجمعيات شغلت الناس عن قصد أو دون قصد بمعارك وهمية و جانبية مع النظم العربية الحاکمة لتساهم بذلك في إضعاف هذه الانظمة بدلا من تقويتها و إسنادها، أما أعداء العروبة و المتربصين شرا بها، فإنهم کانوا لايريدون خيرا لأي من الطرفين، أي انهم کانوا يعادون الانظمة العربية الحاکمة بنفس الدرجة التي کانوا يعادون بها تلك القوى السياسية المعادية لحکامها وهم بذلك حققوا هدفا مهما و حيويا بإختراق الامن القومي العربي و نخر جانبين أساسيين منه يتجليان في العمق الجاهيري و النخبة القيادية، وعليه، فإن العروبة التي دعت إليه تلك الاحزاب لم تفلح في إقناع الشخصية العربية وإن کانت قد ألهبت حماسه و أثارت مکامنه الغرائزية، إذ انها لم تنجح في کسب عقله الباطن ليصل الى درجة الايمان اليقيني بها، رغـم اننا نرفض تلك الدعاوي التي تقول بأن العروبة قد سقطت بسقوط تجارب و مبادئ تلك القوى السياسية العربية لإيماننا الراسخ بأن العروبة کمفهوم متکامل الجوانب من المستحيل سقوطه(حاله حال أية قيم و مبادئ حضارية ذات محتوى إنساني)وان الذي سقط هو مفهوم و رؤية تلك الاحزاب للعروبة. وان تلك الاحزاب و التنظيمات التي کانت ترفع عقيرتها ليل نهار بالدفاع عن الامة العربية نست أو تناست إنها بحملتها الشعواء ضد النظام العربي الرسمي و ضد الزعماء و القادة العرب قد ساهمت في تشتيت الشارع العربي و تجزئته بما يخدم مصالح و أهداف و أجندة معادية للعرب و بدلا من أن ينتبهوا لحقيقة مهمة و إستراتيجية تتجلى في أن الامن القومي العربي يجب أن يکون محصورا بيد الزعماء و القادة العرب، فإنهم إستداروا على هذه الحقيقة و شوهوها أيما تشويه و طرحوا بدائل غير منطقية و بعيدة کل البعد عن الواقع بحيث لم يصادف أن تم مثل هکذا طرح في أية بقعة أخرى أخرى من العالم، واننا نرى لو أن تلك الاحزاب عملت من أجل تعبأة الشارع العربي و توجيهه ضد العدو الحقيقي وليس الانشغال ببعضهم البعض لکان واقع العرب في الوقت الحاضر مختلفا أيما إختلاف عن الذي نعيشه.

اننا نعطي الاولوية للعروبة من أجل رص الصفوف العربية و توحيدها بأساس فکري و أخلاقي جامع ينير دروبها أمام کل المنعطفات و الدياجير المظلمة مما يؤهلها للإنتباه لأعدائها الحقيقيين و توجيه الشارع العربي للإلتفاف حول زعمائهم و قادتهم لإفراغ المؤامرات و الدسائس و الفتن المختلفة من محتوياتها الخبيثة التي ترکز على تهميش دور الزعامة العربية و جعلها منفصلة عن الامة لکي يتصيدون مايشاؤون في المياه العکرة، واننا في المجلس الاسلامي العربي في لبنان رأينا و نرى أن أهم واجب قومي ينتظر الامة العربية هو أن تقوم بتعبأة نفسها لتصبح ظهيرا و سندا قويا و متينا للزعامة العربية کي تقوم بإنجاز مهامها و واجباتها التأريخية بخصوص صيانة الامن القومي العربي و حفظه من کل خطر أجنبي داهم مهما کان مصدره أو مضمونه.

* الامين العام للمجلس الاسلامي العربي في لبنان.

ليست هناك تعليقات: