الاثنين، أغسطس 31، 2009

تترجون الاتصالات، وتتوجعون من البلديات

د. فايز أبو شمالة
في مقاله المتزن: "الحجاب العلماني يحجب الحقيقة" وضع الكاتب المقدسي نقولا ناصر ـ اسمه يشي أنه مسيحي ـ وضع أصبعه على حبر بعض الأقلام التي تاهت عن مصلحة الوطن، وأعماها التحزب، والتعصب التنظيمي عن رؤية شمولية للواقع، فراحت تهاجم حماس من خلال الحجاب، فجاء المقال كاشفاً للذرائع التي ابتعدت في تعبيرها عن أصل الصراع في غزة، وغلبت الثانوي على الرئيسي، ليقول الكاتب "نقولا ناصر": قلة قليلة ذات صوت نشاز مرتفع ما زالت بوعي أو دون وعي تصر على أن تختزل الصراع من أجل الوجود الإنساني والوطني في القطاع، وعذابات أهل غزة في قضية الحجاب المفتعلة". نعم؛ هي قضية مفتعلة حقاً، وليست مدار نقاس، أو حوار، أو اهتمام من أهل غزة المحافظين.
ضمن هذا المنطق الذي يعتمد الهجوم، والتشهير دون مراعاة، جاء مقال السيد مازن حمدونة تحت عنوان: "المواطن بين مطرقة شرطة حماس، وسنديان بلدياتها" وأحسب أن هذا المقال سيتم تناوله، والتركيز عليه، وتداوله على المواقع الالكترونية باعتباره صيد ثمين من أدغال حماس، وما أكثر المنتظرين! ولكن لو ناقشنا كاتب المقال نقاش العقل فيما جاء فيه من اتهام، وسألناه: هل أنت مع الانفلات والفوضى؟ وهل أنت مع حركة السيارات في شوارع غزة دون رخصة، وترخيص؟ ألا يشكل ذلك خطراً على أولادك؟ وهل تعرف أن كثيراً من السائقين يحمل رتبة ملازم وما فوق، ويتقاضى راتباً من رام الله، ويعمل على الخط سائقاً؟ وهل تعلم أن كثيراً من المحلات التجارية، والأفران، والبسط، يقوم عليها موظفو حكومة رام الله بعد أن ملّوا القعود في البيت، ليجدوا فرصتهم في عمل إضافي؟
وكيف تستكثر على بلدية تقوم بتنظيف باب بيتك كل صباح، كيف تستكثر على عاملها أن يطالب صاحب المحل بالحصول على رخصة حرفة؟ وكيف ستواصل البلديات تزويد بيتكم بالماء، وسحب الصرف الصحي، وتنظيف الشارع إن لم يدفع المواطن بعض ما عليه، هل وجدت طبيباً يعالج موظف البلدية في عيادته مجاناً؟ وهل يدرس الطالب في الجامعة دون دفع الرسوم الجامعية؟ وهل هنالك من يوزع غاز الطهي مجاناً على عمال البلدية؟
لا شك أن وضع بعض الناس حرج، وحالهم صعب، ويجب مراعاة ظروفهم، ولاسيما أولئك المزارعون، والعمال، ولكن هل وضع مدير مدرسة في الأنروا، ووضع زوجته المدرسة لا يسمح لهما بدفع فاتورة البلدية؟ ولماذا يقف موظف السلطة، وموظف المؤسسة الدولية، وموظف الأونروا، والتاجر بالطابور أمام شركة الاتصالات، ويأخذ رقماً، وينتظر عدة ساعات ليدفع فاتورة الكلام خشية أن تقطع عن بيته الخدمة!؟. فأيهما أهم للمواطن، رغوة الكلام أم الماء والكهرباء والنظافة؟ إن غزة التي لا يتعدى سكانها مليون ونصف، صار فيها مئات آلاف أرقام الجولات، حتى صار في البيت الواحد أكثر من جوال، ولو افترضنا أن كل جوال سيكلف صاحبة خمسين شيكلاً فقط، ألا يدلل هذا على وجود ما يكفي من المال لدى البعض ليدفع مقابل النظافة، ورخصة المحل؟
أنا مع كل مهاجم لحماس، ومع كل من ينفش شعر رأس حكومتها، وسيفي يسبق سيوفكم لجز عنقها إن كشفت عن عورتها، أو اختلت سراً مع غاصبها، أو بان عليها الحمل غير الشرعي من إسرائيل، وسنقف على مفارق الطرق، ونصرخ بأعلى أصواتنا ضد حماس. ولكن يا حبذا لو تمت مهاجمة الخصم بما فيه، كي لا نفتعل حرباً ليست في مكانها.
fshamala@yahoo.com

الشفافية في الاسلام

السيد محمد علي الحسيني

قولوا لااله الا الله تفلحوا، نداء أطلقه نبي الرحمة والسلام المصطفى {ص}في بدايات دعوته المبارکة لدينه الحنيف، هذا النداء الذي جسد واحد من أهم أصول الديانة الاسلامية (التوحيد)، برغم ماکان يحمله من مضمون عميق المعاني والاهداف، لکنه في نفس الوقت طرح وبصورة بالغة الروعة لمفهوم الشفافية في الاسلام.

قولوا لااله الا الله تفلحوا، جملة قصيرة وواضحة ما ان يستمع اليها المرء حتى ويجد شئ ما في أعماقه يتجاوب مع هذا النداء السماوي ويتفاعل مع معانيه الاخلاقية والفلسفية الحميدة التي تقوده الى دروب التکامل والوصول الى مفترق الرضا الالهي.

لم يطرح الرسول الاکرم وهو الذي(ماينطق عن هوى)نداءا معقدا يحتوي على غريب وحوشي الالفاظ وانما خاطب قومه والانسانية المعذبة من خلفهم بکلمات غاية في الشفافية والوضوح ولم يکن هدفه من وراء ذلك سوى بلوغ شغاف القلوب وأعماق النفوس والعقول وبهذه الجملة البسيطة المتکونة من بضعة کلمات زلزل عروش الملوك والاباطرة وأسس لحضارة عربية اسلامية ساهمت في إغناء الفکر الانساني وتشذيبه بأفضل الصور وأجملها.

اليوم، ونحن أمام مفترق بالغ التعقيد والضبابية حيث باتت الامور تلتبس احيانا حتى على أناس من أهل الذکر، نجد أن العلة الاساسية تکمن في نقطة هامة وحساسة وهي ان الخطاب العام الموجه هو خطاب نخبوي يتضمن نبرة ومضمونا ليس في وسع أي کان أن يفهمه ويستوعبه، وهو امر للأسف ساعد على غياب الوعي الديني بمفهومه الحقيقي الناصع وساهم في تواجد وحتى تعشعش أفکار ومفاهيم غريبة وبعيدة أشد البعد عن روح الاسلام وجوهره إذ بدلا من الدعوة الاسلامية السمحاء العقلانية المنطقية الهادئة للعالم، طغت دعوة همجية متطرفة سوداء هدامة تتسربل في ظاهرها بدثار الاسلام فيما تخفي في بواطنها کل أسس ومعاني معاداة ومحاربة الاسلام.

ان هذا الدين متين فأوغلوا فيه برفق. حديث نبوي شريف يحمل أسمى المعاني وانبلها ويبين حقيقة مهمة جدا يجب علينا دوما الانتباه والوقوف عندها، إذ يأمرنا خير الانبياء والرسل بأن نتمهل في التفقه بديننا الحنيف وهو لعمري امر يحمل في طياته الکثير من الاهداف والغايات السامية، حيث انه إضافة الى حثه المسلم أو المسلمة على عدم الاستعجال في طلب العلم وضرورة أن يستوعب مايتلى أو يطرح عليه، فإنه يطرح هدفا آخرا يتجلى في ضرورة ان يتحاشى المتفقه من الانجرار خلف مفاهيم وأفکار تکون أحيانا أکبر من مستوى وطاقة تفکيره بل وحتى لو تمادى في التوغل بالدين( سيما من دون مرشد أو هادي)، فقد يصاب بما يشبه بسوفان فکري يدفعه في فضائات ومطبات هو في غنى عنها تماما فيضيع و يضيَّع غيره بإلتباس الامور على فهمه وادراکه.

اننا اليوم بحاجة لخطاب ديني واضح وشفاف وسمح بإمکان أي مواطن بسيط أن يفهم مضامينه وخطوطه العامة ولسنا أبدا بحاجة الى خطاب مرکز نخبوي يجده المرء العادي امرا لايعنيه وغير موجه إليه بتاتا، ومثلما تستغل الجماعات الارهابية المتطرفة الاسلوب الشفاف لجر وإستدرج البسطاء من الناس، فإننا مدعوون للعودة الى النهج المحمدي الاصيل بالوضوح والشفافية في مخاطبة الناس ولو عملنا بحرص وإخلاص وتفاني فإنه وبعون الله سبحانه وتعالى نتمکن من سد الطرق على تلك المجاميع التي تقوم بإستغلال الدين من أجل مآرب و أهداف مشبوهة.

*الامين العام للمجلس الاسلامي العربي في لبنان.
alsayedalhusseini@hotmail.com


التوحش والتوحش المضاد في المجتمع السعودي ـ1

وجيهـة الحويـدر

ليس من نزعة المبالغة حين يُـقال أن ثمة نسبة لا بأس بها من السعوديين من أكثر الناس اغتراباً عن أنفسهم، واشد الناس توحشاً تجاه الآخر سواء بسبب هويته أو عرقه او طائفته. لماذا ياترى وصل الأمر بالسعوديين الى هذا النفق المظلم من الإغتراب والتوحش والريبة؟

في البلدان التي تعنى بشؤون شعوبها تهتم كثيرا في إجراء الدراسات والبحوث الأكاديمية من اجل فهم الظواهر الاجتماعية السلبية التي تطفو على السطح وتطرح اقتراحات وتوصيات لحلها أو للتقليل من تبعاتها، وحيث أن ذلك لا يحدث في السعودية بالدرجة المرجوة، سنقوم بمحاولة لفهم الحال التوحشي السعودي الذي يعيشه فئة من الناس، ومعاينة التركيبة الاجتماعية التي ساهمت في تشكيل وتنمية ذهنية التوحش منذ ان هطلت على المجتمع السعودي أموال النفط الهائلة، وحتى تسلمت أفراده الأيادي المتصلبة دينيا من الطائفتين السنية والشيعية.

البحث في ظاهرة التوحش والتوحش المضاد التي ظهرت في اماكن مختلفة في داخل البلد وخارجه عبر العقود يحتاج أيضا إلى استيعاب للقوانين والأعراف القاسية وفهم آلية تدرجها وتشددها عبر الزمن، وحصر القوانين الأخرى الأكثر صلابة والتي اُستحدثت مع مرور السنين، وسُلطت على رقاب الناس من نساء ورجال واطفال، والتي تفسر الى حد بعيد مدى تغلغل التوحش في جميع مؤسسات المجتمع وبين سائر فئاته.

في الحقيقة أن الإنسان السعودي منذ الصغر يتجرع القسوة والتوحش جرعة تلو الاخرى الى ان يشب ويشتد عوده، فيتصلب قلبه، وتجف روحه، ويتجمد عقله، فإذا فلت وهو صغير من قسوة الأسرة، وتعسف الوالدين وانتهاك حقه في التعبير عن ذاته ومصادرة احلامه بحجة انه جاهل ولا يفقه، بالتأكيد لن يفلت من قسوة المدرسة والمسجد اللذين يحتضنان بين حيطانهم شتى أصناف الثقافات التي تعزز القهر والاستبداد. تتخرج أجيال من المدارس والجامعات والمساجد وهي لا تفهم سوى لغة التهديد والوعيد، ولا تتعامل سوى بسلوك التوحش والريبة.

السعودية بلد فسيح وفيه فئات وطوائف واعراق مختلفة، لكن لا يوجد مكان فيه لتعزيز الحوار الحقيقي البناء، ولا انشطة لغذاء الروح، ولا مساحة لتهذيب النفس وترويضها على قبول الآخرين واحترام معتقداتهم.

قسوة المناخ وقسوة الطبيعة تحالفتا على الناس مع قسوة التركيبة الاجتماعية والأعراف الموروثة والقوانين البدائية الفجة. من المؤكد ان القوانين والضوابط ازدادت صرامة خلال الثلاث العقود الماضية، فمنذ الثورة الإيرانية ونهوض الملالي في إيران وبالمقابل ظهور الجهاديين في أفغانستان هبت رياح التشدد على بلدان الشرق الأوسط وتفشى الفكر الاخواني والسلفية وتشيع ولاية الفقيه، وعلى وجه الخصوص في الجزيرة العربية وفي ايران وأتباعها.

الثمانينات في السعودية تميزت بالبطش في صفوف كل من هو ليس سلفيا أو اخوانيا أو جهاديا. اُختطفت مؤسسات التعليم والإعلام ولغمت بدعاة لا يحسنون سوى لغة العنف والزهد في الحياة. زادت الرقابة على الناس، ومُنعت سبل التواصل، وقُمعت مظاهر التقارب بين الطوائف، وتفاقمت قوانين الفصل العنصري بين الجنسين، وتضاعف قهر الاقليات والنساء.

ربما اعظم انجاز قام به دعاة الجهاد انذاك هو اجهاض التجربة الاولى للنهوض بالدولة السعودية من ظلام التخلف والرجعية، حيث ضربوا بيد صلبة افواج الخريجين السعوديين المتنورين الذين تلقوا تعليمهم في الخارج، وقدِموا الى بلدهم وهم يحملون معهم أحلاماً وآمالاً لتطوير المجتمع والدفع بحركة التقدم الى الامام. تربص المناهضون للتغيير بتلك الفئة المتعلمة، وقاموا بإبعادهم عن مراكز السلطة، وضيقوا عليهم في عيشهم، وأحبطوا جميع محاولاتهم للإصلاح والتغيير. دمروا خطط تطويرية صرفت الدولة عليها أموال طائلة تحت ذريعة تغريب المجتمع ونزع خصوصيته.

الجدير بالذكر هنا انه في حقبة الحرب الباردة تلك العالم الغربي وقف مساندا لتلك الفئات المتشددة بطريقة او بأخرى لصد اي تحرك فعلي للتحرر الوطني بحجة ايقاف الزحف الشيوعي.لم يكن تحالف العالم الغربي ضد الحركات التحررية مقتصرا على دول الشرق الاوسط، بل طال دول امريكا الجنوبية وبعض دول شرق اسيا.

الدولة السعودية وجدت من صالحها ان تنضم لصفوف ذلك التحالف الغربي، لذلك لم يكن يهمها كثيرا ما كان يجري آنذاك للفئات المختلفة من المجتمع، والتي تعرضت للقهر والإقصاء بشكل وحشي، بل على العكس بعض أجهزة الدولة ساهمت في تطبيق اجندة المتصلبين دينياً ممن يطلقون على أنفسهم بالصحويين، لأن أفعالهم كانت تصب في مصلحة الدولة، حيث مكنتها في الوقت نفسه من بسط سلطتها على شرائح كبيرة من المجتمع، وتخلصت من الصوت المطالب بالتطوير والاصلاح والمشاركة السياسية.

وللحديث بقية...

أوروبا الغربية نفاق وازدواجية معايير غير مسبوقتين

راسم عبيدات

.......منذ أن نشر الصحفي السويدي "دونالد بوستروم" من صحفية أفتون بلاديت" تقريره بتاريخ 17/8/2009،عن قيام إسرائيل بسرقة أعضاء شهداء فلسطينيين والمتاجرة بها معززاً بالأدلة والقرائن،وهو يتعرض إلى حملة تشويه وتشهير وإقامة دعاوى ضده من قبل الحكومة الإسرائيلية،وضغط على الحكومة السويدية لإدانة وتكذيب التقرير والتنصل منه،واللافت للأمر هنا ليس الموقف الإسرائيلي،فهذا معروف بأن إسرائيل" واحة الديمقراطية الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط" وجيشها لديه "أرفع وأسمى المعايير الأخلاقية" وهو لم يرتكب" لا مجزرة ولا مذبحة ولم يقتل لا طفلاً ولا امرأةً ولم يستخدم أسلحة محرمة دولياً " وكل ما يقال عن ارتكابها لجرائم حرب ومجازر واستخدام الأسلحة المحرمة دولياً هو كذب وخداع وتضليل ومعاداة للسامية، والغريب في الأمر هنا،هو التجند الغربي الأوربي خلف المواقف الإسرائيلية والدفاع المستميت عن كل خروقاتها وتجاوزاتها وخروجها على القانون الدولي،بحيث غدت أوروبا الغربية أكثر"كاثولكية من البابا نفسه"،بمعنى أنك في بعض الأحيان تجد بعض المؤسسات والحركات الإسرائيلية تدين وان كان بخجل الممارسات والإجراءات العقابية والإذلالية التي تمارسها وترتكبها إسرائيل بحق الشعب الفلسطيني،ولكن أوروبا الغربية والتي ينصب قادتها ومؤسساتها من أنفسهم حماة ومدافعين ل وعن حقوق الإنسان والديمقراطية،عندما يتعلق الأمر بإسرائيل وخروقاتها وتجاوزتها فهم "كالكلاب التي تتصارع على الجيفة" يهب كل واحد من جهته لكي يثبت ولاءه وحبه لإسرائيل،فأي كاتب أو موظف أوروبي غربي يتجرأ على انتقاد إسرائيل،ويشكك في حدوث المحرقة اليهودية أو عدم دقة الأرقام المعطاة عنها،فعدا عن حملة القدح والتشهير به،يتم طرده من وظيفته وحتى سجنه.

ولعله من المهم الإشارة بشيء من التفصيل إلى النفاق وازدواجية المعايير الأوروبية الغربية،فيما يتعلق بالقضايا العربية والإسلامية وفي القلب منها القضية الفلسطينية،ولكن قبل ذلك علينا القول أن من زرع دولة إسرائيل في خاصرة الأمة العربية،سيبقى حاضناً وراعياً لها،ولن يتخلى عن رعايته وحضانته لها،ما لم يحدث تهديد جدي لمصالحه عربياً وإسلامياً.

ففي الحرب الأخيرة على غزة كانون أول/2008 ،ارتكبت إسرائيل مجازر وجرائم حرب واستخدمت أسلحة محرمة دولياً من الفسفور الأبيض إلى الدايم بأدلة قطعية،وضربت وقصفت المؤسسات التعليمية ودور العبادة والمقرات والمؤسسات الدولية،ورغم كل ذلك رفضت أوروبا الغربية إدانة إسرائيل في مجلس حقوق الأسنان التابع للأمم المتحدة،وأيضاً عندما شنت إسرائيل حربها العدوانية على القطاع اعتبرت ذلك حرباً دفاعية مشروعة،واستجابت لطلب إسرائيل،بان وقف العدوان على غزة يجب أن يرتبط بقيام دول أوروبا الغربية،بتشكيل قوة أوروبية بحرية تجوب البحار والمحيطات وتراقب كل المداخل البحرية المؤدية إلى غزة من أجل منع تهريب السلاح إليها،وعندما أسرت المقاومة الفلسطينية الجندي الإسرائيلي"شاليط" تجند كل زعماء أوروبا لإدانة هذا العمل والمطالبة بإطلاق سراحه فوراً،ولم ينسى كل مسؤول أوروبي يزور إسرائيل أن يحج الى بيت أسرة "شاليط" ويعلن تضامنه معها،في الوقت الذي فيه أحد عشر ألف أسير فلسطيني في السجون الإسرائيلية ،مضى على وجود اثني عشر منهم أكثر من ربع قرن في السجون الإسرائيلية وفي ظروف غاية في المأساوية،ولم نسمع أي مسؤول أوروبي غربي يطالب لا بإطلاق سراح هؤلاء الأسرى أو حتى تحسين شروط اعتقالهم.

واليوم عندما نشر الصحفي السويدي تقريره حول سرقة إسرائيل لأعضاء الشهداء الفلسطينيين والمتاجرة بها،تجندت باقي الدول الأوروبية الغربية للضغط على الحكومة السويدية لإدانة هذا التقرير ووصفه "بالأكاذيب"،والذي يتولى هذه المهمة وزير الخارجية الإيطالي"فرانكو برتيني" فهو في هذا الصدد يقول في حديث لصحيفة :هارتس" الإسرائيلية" أنه اتفق مع وزير الخارجية السويدي كارل بيلت، الذي تتولى بلاده الرئاسة الدورية للاتحاد الأوروبي ،على أن يتلي بتصريحات خلال اجتماع وزراء الإتحاد نهاية الأسبوع الحالي،مفادها أن " أوروبا تدين بشدة اللاسامية وأن الاتحاد الأوربي سيعمل ضد كل مظاهرها في القارة الأوروبية".

وقال برتيني أنه سيطالب خلال الجلسة غير الرسمية لوزراء الاتحاد الأوروبي بأن يتضمن البيان الختامي نبذاً لتقرير " أفتون بلاديت" السويدية،وان يعتبر تقريراً من هذا النوع "عملاً لا سامياً لا لبس فيه"،ووصلت وقاحة برتيني حد القول عن التقرير الصحفي حول سرقة أعضاء الشهداء الفلسطينيين،القول"يدور الحديث عن ادعاءات فظيعة،كاذبة تلحق الأذى،ومن شأنها أن تساعد هؤلاء الذين يسعون للتحريض ضد اليهود والمعارضين لإسرائيل ووجودها.

وبرتيني هذا شأنه شأن رئيس الوزراء الفرنسي"ساركوزي" قهو يفاخر ويقول بأنه لن يألو أو يدخر جهداً من أجل إطلاق سراح الجندي الإسرائيلي المأسور "شاليط" ويبرر ذلك كون الجندي الإسرائيلي يحمل الجنسية الفرنسية،في الوقت الذي فيه هناك أسير فلسطيني اسمه صلاح الحموري موجود في السجون الإسرائيلية ومحكوم سبع سنوات،وهو لم يحمل السلاح،بل قاوم الاحتلال بالمقاومة الشعبية،ولم يتطرق له "ساركوزي" مرة واحدة،بل اضطر تحت ضغط المؤسسات والمنظمات الحقوقية الفرنسية الى توجيه رسالة إلى رئيس الوزراء الإسرائيلي من باب رفع العتب يطلب منه العمل على إطلاق سراح المناضل الحموري.

أما وزير الخارجية الإيطالي "فرانكو برتيني" فيفاخر بأنه من أشد المؤيدين لرفع مستوى العلاقات بين أوروبا وإسرائيل،ويفاخر أيضاً بأن الضغط الايطالي هو الذي قاد الى اتخاذ قرار في الاتحاد الأوروبي يقضي بفصل التقدم في العملية السلمية في الشرق الوسط عن رفع مستوى العلاقات مع إسرائيل.

إن هذا النفاق الأوروبي الغربي ومن قبله الأمريكي،و"تعهيرهم" للمعايير وازدواجيتها، سيستمر وبأخذ أشكالاً أكثر وقاحة وسفوراً،إذا لم يجابه بمواقف عربية صلبة،تتعامل مع هذه الدول بلغة المصالح،وتستخدم كل مقومات القوة العربية الاقتصادية والتجارية والمالية وبما في ذلك تفعيل المقاومة ودعمها واحتضانها،من أجل ممارسة ضغط جاد وحقيقي على أوروبا الغربية لحملها على التوقف عند حدها واتخاذ موقف تأخذ بعين الاعتبار المصالح العربية،وتحسب لها ألف حساب عند أي تصريح أو موقف تنوي اتخاذه بحق قضايا الأمة العربية.

حماس على خطأ

د. فايز أبو شمالة
حماس على خطأ، والصواب هو موافقتنا على خارطة الطريق المعدلة التي صدرت عن وزارة الخارجية الأمريكية في 30 أبريل من سنة 2003، والتخلي عن كل الثوابت الفلسطينية طوعاً، وعن حق العودة، وعن الانسحاب الإسرائيلي من الضفة الغربية، وعن القدس، والتمسك فقط بخارطة الطريق، والالتزام بما جاء فيها طالما التزم الإسرائيليون، فإن لم يلتزم الإسرائيليون، ألا يتوجب علينا أن نعاود التفكير بخطوات المسير؟
فماذا طالبت خارطة الطريق من الفلسطينيين، بشأن الأمن؟:
1- أن يعلن الفلسطينيون نهاية واضحة لا لبس فيها للعنف والإرهاب، ويباشرون جهوداً واضحة على الأرض لاعتقال، وتعطيل، وتقييد نشاط الأشخاص والمجموعات التي تقوم بتنفيذ أو التخطيط لهجمات عنيفة ضد الإسرائيليين في أي مكان.
2- تبدأ أجهزة أمن السلطة الفلسطينية التي تم إعادة تشكيلها وتركيزها عمليات مستديمة، وفعالة، تهدف إلى مواجهة كل الذين يتعاطون الإرهاب وتفكيك القدرات والبنية التحتية الإرهابية. ويشمل هذا الشروع مصادرة الأسلحة غير المشروعة وتعزيز سلطة أمنية خالية من أي علاقة بالإرهاب والفساد.
لقد التزم الفلسطينيون بكل ما طلب منهم في هذا الشأن، وأعلنت حكومة سلام فياض نهاية الإرهاب ( المقاومة الفلسطينية) وبدأت الأجهزة الأمنية للسلطة الفلسطينية في جمع السلاح المقاوم، واعتقال حامليه، ونفذت السلطة بند الأمن وفق ما جاء في خارطة الطريق، وأكثر قليلاً، حتى بات المستوطن لا يخشى على غنمه في طرق الضفة الغربية.
فماذا طالبت خارطة الطريق من الإسرائيليين بشأن المستوطنات؟:
1- أن تفكك إسرائيل على الفور المواقع الاستيطانية التي أقيمت منذ مارس 2001.
2- انسجاماً مع توصيات تقرير لجنة ميتشل، تجمد الحكومة الإسرائيلية جميع النشاطات الاستيطانية، بما في ذلك النمو الطبيعي للمستوطنات.
ولم تلتزم إسرائيل، ولم تفكك أي مستوطنة، بل كثفت البناء في المستوطنات، وتوسعت. وقد وصلنا إلى سنة 2009، وما زال الأمريكيون يتفاوضون مع الإسرائيليين على تطبيق بند المستوطنات من خارطة الطريق الصادرة سنة 2003.
ألا يكفي هذا الدليل لأن يراجع السيد عباس موقفه من المفاوضات العبثية، ومن لقائه مع نتانياهو، ألا تفرض هذا البينة الفاضحة على الأخوة في حركة فتح؛ أن يتحركوا من أجل فلسطين، ألا تفجر هذه الجزئية الصغيرة وطنية كل أولئك الذين شاركوا في المؤتمر السادس، وشاركوا في جلسة المجلس الوطني، ألا يفرض عليهم كل هذا الهوان أن يطالبوا حكومة فياض بوقف العمل بالبند الأمني من خارطة الطريق إلى حين التزام إسرائيل الكامل بالبند المتعلق بالمستوطنات، وبهذا يكون الفلسطينيون قد أعفوا أمريكا من التفاوض باسمهم مع الإسرائيليين، وأعفو العرب من حرج التطبيع مع إسرائيل مقابل التجميد المؤقت للمستوطنات؟
فإذا كان الواقع لا يأذن للقيادة السياسية بأن تتوضأ بالثوابت الفلسطينية كما يقال، فهل يصعب على القيادة المضمضة بخارطة الطريق، وأن تشترط التعبد في محراب الأمن الإسرائيلي مقابل وقف الاستيطان!.
أم أننا نقطع شرايين حياتنا، ونمزق جسد قضيتنا، ونحن واعون لما نقوم فيه؟!.
fshamala@yahoo.com

أوهام عربية تبددها تفجيرات بغداد

نقولا ناصر

(إن الآمال العربية الرسمية في تطور نوعي ينقل النظام المنبثق عن الاحتلال الأميركي في العراق إلى نظام سياسي يسوغ التطبيع العربي معه هي وهم بددته تفجيرات بغداد الأخيرة)

إن التخبط الأمني الذي انعكس في إقالة قيادات أمنية بصورة متسرعة غطت حجة "الاختراق الأمني" الصحيحة التي اتخذت ذريعة لها على السبب السياسي الأقوى لها المتمثل في توجيه هذه القيادات الاتهام لإيران وأذرعها في العراق في المسؤولية عن تفجيرات بغداد في التاسع عشر من آب / أغسطس، والتخبط السياسي فالدبلوماسي المتمثل في الانقلاب خلال أربع وعشرين ساعة على توقيع إعلان مشترك بالتعاون الاستراتيجي مع سوريا إلى اتهامها بأنها تحولت إلى "قاعدة خلفية لتدمير العراق"، والتخبط الإعلامي في توجيه الاتهامات المتناقضة عن تلك التفجيرات، هو تخبط فجر الوهم الأول الذي حاولت حكومة نوري المالكي تسويقه عربيا بأنها حكومة متوازنة قوية مؤهلة للاتفاق مع الدول العربية على ترتيبات ثنائية أو جماعية طويلة الأمد تمهد لتطبيع العلاقات العربية العراقية، خصوصا وأن حظوظ المالكي في الخروج منتصرا في انتخابات نهاية العام على شركائه السابقين في الائتلاف الشيعي الطائفي قد تضاءلت بعد أن وحدوا صفوفهم ضده، وبعد أن فشلت مناورته السورية في تعزيز رصيده الانتخابي.

كما بددت تفجيرات الأربعاء الدامي وهما عربيا ثانيا اشترى البضاعة الفاسدة التي يبيعها شركاء العملية السياسية الأميركية – الإيرانية في العراق للعرب بأن الأمن في العراق قد استتب لهم وأن على العرب أن يتعاملوا معهم كأمر واقع.

والوهم الثالث الذي كشفته تلك التفجيرات وينبغي له أن يدفن تحت ركام أنقاضها يوضحه المثال السوري، فالتوهم بأن وجود علاقات استراتيجية بين أي بلد عربي وبين إيران، وتعاطي مثل هذا البلد مع القوى والمليشيات الطائفية وقادتها في العراق المحسوبين بكل المقاييس على إيران، إنما يمثل حصانة سياسية كافية يمكنها أن تفتح أمام هذا البلد أبواب بغداد وهي ما زالت تحت الاحتلال الأميركي والهيمنة الإيرانية هو وهم بدده توقيت هذه التفجيرات بعد أربع وعشرين ساعة من توقيع "الإعلان المشترك" العراقي السوري على تأسيس مجلس لل"تعاون الاستراتيجي"، ثم الانقلاب العراقي خلال أيام قلائل على توقيع هذا الإعلان بتوجيه الاتهام العلني الصريح والمباشر لسوريا بالمسؤولية عن تلك التفجيرات لتنفجر أزمة دبلوماسية بتبادل استدعاء سفيري البلدين مما ينذر بتحويل التعاون الاستراتيجي إلى عداء استراتيجي، ليكتب ياسين مجيد المستشار الإعلامي لنوري المالكي، الذي وقع الإعلان مع نظيره رئيس الوزراء السوري محمد ناجي عطري، قائلا إن سوريا تحولت إلى "قاعدة خلفية لتدمير العراق" وإن "من المستبعد جدا أن تكون المخابرات السورية لا تعرف" بالتفجيرات ولترد عليه صحيفة تشرين السورية في افتتاحية لها بالقول إن العراق إنما يسعى إلى "تصدير الأزمات الداخلية إلى الآخرين" دون أن تفوتها الإشارة إلى أن "التوقيت والارتباط" بين الانفجارات وبين زيارة المالكي لدمشق "لم يكن عبثيا أو فرديا".

وإشارة تشرين هذه تقود إلى الوهم العربي الرابع الذي بددته التفجيرات، وهو أن العلاقات الاستراتيجية بين إيران وبين سوريا تستتبع أن تكون المصالح السورية والإيرانية متطابقة في العراق، وهي كما أثبتت مضاعفات التفجيرات غير متطابقة، فالخلاف الذي فجرته تفجيرات الأربعاء حول "البعث" بين بغداد وبين دمشق هو عنوان عراقي سوري مضلل للخلاف غير المعلن بين طهران التي ترى في البعث والمقاومة العراقية عدوا "إرهابيا" لها وللحكم الموالي لها في بغداد تحظى الحرب عليهما بالأولوية على مقاومة الاحتلال الأميركي وبين دمشق التي تدعو علنا إلى التراجع عن سياسة "اجتثاث" البعث وإلى ضمه والمقاومة العراقية إلى العملية السياسية لتحقيق مصالحة وطنية حقيقية في العراق لا غنى عنها لتسريع رحيل الاحتلال الأميركي، لذلك توقفت تشرين دون تسمية إيران أو امتداداتها في العراق أو قيادة حكومة إقليم كردستان باعتبار هذه هي الجهات الوحيدة القادرة على تنفيذ تفجيرات "غير عبثية وغير فردية" بهذه الدقة والتنظيم والقدرة على اختيار التوقيت وهي الجهات التي لها مصلحة واضحة في عدم تحقيق مصالحة وفق الرؤية السورية، فإيران بالرغم من زيارة الرئيس السوري بشار الأسد لطهران في اليوم التالي لتوقيع إعلان "التعاون الاستراتيجي" مع المالكي لم يفتها أن هذا الإعلان قد وقع في إطار تفاهم أميركي – سوري يستهدف الوقيعة بينها وبين سوريا من جهة بقدر ما يستهدف من جهة ثانية تحجيم نفوذ إيران المهيمن على الحكومة المنبثقة عن الاحتلال في بغداد، وبالتالي فإن إيران هي المتضرر الأول من هكذا تطور في العلاقات السورية مع كل من واشنطن وبغداد وهي المستفيد الأول كذلك من تفجير أي تطور كهذا، وبالتالي أيضا فإن الولايات المتحدة مستفيدة من حدوث هذا التطور ومتضررة بالتأكيد من أي تفجير له. أما قيادة إقليم كردستان التي أطار صوابها أن يوقع المالكي على إعادة تشغيل خط أنابيب نفط كركوك – بانياس وعلى "تأمين نقل النفط والغاز الطبيعي (العراقي) إلى الأسواق العالمية عبر سوريا" من كركوك، وهي القضية المتفجرة بين المالكي وبين هذه القيادة التي يحاول الاحتلال الأميركي احتواءها ويحذر من احتمال تسببها في "حرب عرقية" بين عرب العراق وبين أكراده، فإن الأضرار والفوائد لها غنية عن البيان. أما الاتهام الجاهز دائما للاحتلال الأميركي فإن أحدا لم يوجهه هذه المرة ولم يوجه أحد الاتهام أيضا ل"الموساد" الإسرائيلي بالرغم من أن هذا الاحتمال لا يمكن استبعاده كذلك.

وتبدد قراءة متأنية للرد السوري الرسمي على الاتهام العراقي وهما عربيا خامسا كانت الدبلوماسية السورية نفسها آخر ضحاياه، وهم ما زال يأمل عبثا في تطور نوعي ينقل النظام المنبثق عن الاحتلال الأميركي في بغداد إلى نظام سياسي يسوغ التطبيع العربي معه بينما ما زالت كل الشروط الموضوعية التي ولد فيها النظام وكذلك الأسباب السياسية لمقاطعته وعزله عربيا قائمة بل إنها تترسخ، وتأكد ذلك بما وصفته وكالة الأنباء السورية الرسمية "سانا" ب"تسرع الحكومة العراقية في إلقاء التهم جزافا" الذي كان مرده "خلافات داخلية" بين شركاء "العملية السياسية" من الوكلاء أو العملاء المزدوجين لشريكي الاحتلال الأميركي والإيراني، وهي العملية المستمرة برعاية الشريكين إياهما، أو كان "ربما (خلافات) خارجية" استنكفت "سانا" عن تحديدها لكن إشارتها كانت واضحة إلى الصراع الأميركي – الإيراني على النفوذ في العراق الذي كان العراقيون وقوده البريء منذ الغزو عام 2003 بقدر ما كانت العلاقات العربية – العراقية.

وكان التأكيد على "الحاجة الماسة أكثر من أي وقت مضى لتحقيق المصالحة الوطنية" العراقية في البيان الرسمي عن استدعاء السفير السوري من بغداد قد بدد وهما عربيا سادسا بأن النظام المنبثق عن الاحتلال مؤهل فعلا لإجراء مصالحة كهذه أصبحت مطلبا لكل الدول العربية كذريعة تضاف إلى حجة "الضغط الأميركي" لتسويغ الهرولة العربية نحو إضفاء شرعية عربية رسمية على الاحتلال والنظام المنبثق عنه.

فانقلاب المالكي السريع ضد "التعاون الاستراتيجي" مع سوريا لم يكن مفاجئا بل كان متوقعا، ليس فقط لأن المالكي كان قد أخل بوعود سابقة لتحقيق مثل هذا التعاون، وليس فقط لأنه توجه إلى دمشق مسايرة لضغوط أميركية في هذا الاتجاه تتعارض مع التزاماته الأصدق والأقوى تجاه إيران، وهو ما تأكد بالخلاف بين المالكي وبين رئيس مخابراته محمد عبد الله الشهواني الذي دربته المخابرات الأميركية والذي حمل إيران واذرعها المسؤولية عن التفجيرات والذي كان دفع المالكي لاستقالته شرطا مسبقا لما قالت دمشق إنه "فبركة" اتهامها بالتفجيرات، بل كذلك لأن الاستحقاقات "الانتخابية" المقررة أواسط كانون الأول / ديسمبر المقبل كانت ترجح غلبة ولاءات المالكي الإيرانية على اضطراره للخضوع للإملاءات الأميركية كون هذه الولاءات جاذبة أكثر للأصوات الطائفية، ليبدد انحياز المالكي وحزبه وقائمته الانتخابية للرؤية الإيرانية الطائفية للمصالحة العراقية، مثله مثل قائمة الائتلاف الشيعي الذي غير اسمه إلى الائتلاف "الوطني"، وهما عربيا سابعا توهم بأن تيار المالكي في "العملية السياسية" يمكن أن يؤسس لاستقلال عراقي عن الهيمنة الإيرانية، وقد نشا هذا الوهم تحت تأثير الاصطراع بين القائمتين على الحظوة في طهران باعتبار هذه الحظوة هي تذكرة المرور "الانتخابية" إلى الحكم في بغداد.

وكانت عودة التيار الصدري إلى حضن الائتلاف الطائفي الشيعي الذي ترعاه إيران بعد أيام من استقبال دمشق لزعيم هذا التيار مقتدى الصدر على أرفع مستوى وحثه على تبني الرؤية السورية لمصالحة وطنية حقيقية في العراق قد بددت وهما عربيا ثامنا،لأن هذه العودة مثلت انقلابا سريعا مماثلا لانقلاب المالكي على دمشق، وبالتالي على أي "شراكة" عربية مماثلة مع هذه القوى الطائفية، أكثر مما كان انقلابا على تحالف هذا التيار مع حزب الدعوة الذي وضع المالكي في رئاسة الوزراء. وقد تأكد الآن أن المالكي لم ينضم (حتى الآن في الأقل) إلى الائتلاف الطائفي الذي أعلن باسم "قائمة الائتلاف الوطني العراقي" الذي حشدت إيران فيه كل أذرعها العراقية استعدادا للانتخابات المقبلة ليس بسبب طائفيته بل لأنه يريد حصة (51%) لحزبه فيه، على ذمة الصدريين، مما يبدد أية أوهام عربية بان هذه القوى الطائفية التي ولدت في رحم إيرانية يمكن أن تخلع عنها جلدها الطائفي في أي وقت قريب.

وبالتالي فجرت تفجيرات بغداد وهما عربيا تاسعا -- يتجاوز أنقاض "الرموز السيادية" لحكومة الأمر الواقع الإيرانية – الأميركية في بغداد -- توهم بأن الحكومة المنبثقة عن الاحتلال يمكن أن تتخلى عن تبعيتها لقوة الاحتلال الأميركية وأن تنبذ ولاءاتها الإيرانية لكي تكون فعلا مؤهلة لإعادة العراق إلى حاضنته العربية الطبيعية، مما يؤكد حكمة الدبلوماسية العربية ،والسعودية منها بخاصة، التي ما زالت ترى أنه من السابق لأوانه تطبيع العلاقات العربية مع بغداد.

خلال زيارته لبغداد في آذار / مارس الماضي "تفاخر" أمين عام جامعة الدول العربية عمرو موسى أنه "بعد ثلاثة أشهر من احتلال العراق كان له مقعد في الجامعة العربية" قبل أن يؤكد أيضا بأن هناك قرارا من القمة العربية بفتح السفارات في بغداد، وقد تأجل فتح هذه السفارات لأسباب "أمنية" لا "سياسية" بعد جريمة خطف السفير المصري واغتياله ونسف مقر الأمم المتحدة عام 2005، قبل أن يتحول "الضغط الأميركي" إلى حجة سياسية تسوغ التدفق الدبلوماسي العربي على بغداد منذ عام 2008. إن وهم أن الدول العربية تتردد في التعامل مع النظام المنبثق عن الاحتلال الأميركي للعراق إما لأسباب سياسية أو تحت الضغط الأميركي هو وهم عاشر فجرته تفجيرات بغداد في التاسع عشر من الشهر، بدليل تأكيد الجامعة العربية مثلا حرصها على إبقاء بعثتها الدبلوماسية في العاصمة العراقية وتأكيد القاهرة، كمثال ثان، حرصها على عدم التراجع عن إرسال سفيرها الجديد إليها تنفيذا لتأكيد الرئيس حسني مبارك على ضرورة "الشراكة والتعاون" مع العراق وقد وقع وزير الخارجية المصري أحمد أبو الغيط "مذكرة تفاهم" بهذا الشأن نهاية الأسبوع الماضي دون أخذ أي عبرة من الانقلاب على اتفاق سوري عراقي مماثل قبل أن يجف حبره، انقلاب قالت مصادر سورية رسمية إنه كان "مبيتا".

والنية "المبيتة" لإيقاع السوريين في ما وصفه رئيس تحرير "القدس العربي" عبد الباري عطوان ب"المصيدة العراقية" كشفها صراحة علي الدباغ المتحدث باسم حكومة المالكي عندما قال إن "العراق سلم قائمة مطلوبين عدة مرات إلى السوريين"، كما فعل المالكي خلال زيارته الأخيرة التي وصفت ب"الاستراتيجية" لدمشق، دون أن يلقى استجابة، وإن العراق هو الذي "قدم اقتراحا" بإبرام اتفاقية استراتيجية مع سوريا "تفرض عليها طرد المشتبه بهم"، وإن العلاقات الثنائية وصلت الآن إلى "مفترق طرق" بسبب ذلك، بعد أن هدد رئيس وزرائه باللجوء إلى الأمم المتحدة ومجلس أمنها للمطالبة ب"محكمة دولية" لتنظر في التفجيرات التي وصفها ب"جريمة حرب"، مما يؤكد بأن المالكي إنما ذهب إلى دمشق لهذا الغرض فقط، مما يعكس بدوره مدى الخطر الذي تمثله المقاومة العراقية ودور حزب البعث القيادي فيها من خطر على نظامه، ويبدد أي وهم عربي بإمكانية الثقة في النظام المنبثق عن الاحتلال في العراق لإقامة علاقات عربية عراقية طبيعية.

لكن الوهم العربي الأكبر الذي فجرته تفجيرات بغداد هو التوهم بأن الاحتلال الأميركي راحل عن العراق طواعية وان إعادة نشر قوات الاحتلال من داخل المدن العراقية إلى أطرافها وإعادة نشر بعضها من العراق إلى أفغانستان أنما هو بداية النهاية لهذا الاحتلال، وبالتالي بداية النهاية للنفوذ الإيراني الذي يستظل به، فالتفجيرات نفسها ومضاعفاتها تحولت إلى ذريعة لمطالبة شركاء العملية السياسية المنبثقة عن الاحتلال بعدم التسرع في رحيله، ولهم في ذلك سند قوي في مطالبة مماثلة معلنة من عدة دول عربية، بدليل أن الاستفتاء الذي كان مقررا في شهر تموز / يوليو الماضي على "الاتفاقية الأمنية" مع الولايات المتحدة قد دفن تحت أنقاض تفجيرات الأربعاء التي تستخدم هي ومضاعفاتها وكذلك حمى الانتخابات المقبلة لإثارة زوبعة تغطي على هذا الاستحقاق المؤجل لكي يطوي النسيان موضوع هذا الاستفتاء إلى غير رجعة، لتظل المقاومة العراقية هي الحقيقة الوحيدة التي يمكنها أن تحول الأوهام العربية التي فجرتها تفجيرات بغداد إلى آمال واقعية تؤسس لعلاقات عربية – عراقية صحية وطبيعية.

*كاتب عربي من فلسطين
nicolanasser@yahoo.com*

الأحد، أغسطس 30، 2009

كيف تنشط الحركة الصهيونية بالبرازيل؟

جادالله صفا

الحركة الصهيونية العالمية التي يعود بدايات تاسيسها الى منتصف القرن التاسع عشر، والتي تمكنت من بناء مؤسساتها على طول وعرض الكرة الارضية، كانت قد نجحت بالوصول الى مراكز القرار بالعديد من دول العالم، وعلى سبيل المثال نفوذها وقدرتها بالتأثير على قرارات الادارات الامريكية المتعاقبة بشأن الصراع العربي الصهيوني وضمان انحيازها الكامل للكيان الصهيوني، وبالمقابل كانت الحركة الصهيونية ترفع راية العداء لكل الدول والحركات التي تنحاز بمواقفها الى الحق الفلسطيني وتدين جرائم الكيان الصهيوني، وكانت بمواقفها واضحة بعدائها الى الاتحاد السوفياتي والمنظومة الاشتراكية سابقا، والتدخل بالشؤون الداخلية للعديد من دول العالم لاسقاط حكوماتها المعادية للصهيونية وايديولوجيتها القائمة على العنصرية اساسا.

الحركة الصهيونية العالمية، تربطها علاقات حميمة وجيدة مع الامبريالية العالمية والدول الراسمالية الغربية بحكم طبيعتها العنصرية والاستغلالية بعدائها ضد الشعوب، وهي ترى بالراسمالية والامبريالية والدول الغربية مساحة تسمح لها بالحركة، وبحكم وطبيعة التناقضات العالمية والصراع الطبقي، وبحكم الطبيعة الطبقية للحركة الصهيونية فلا يوجد امامها الا خيار الانحياز للنظام الراسمالي والامبريالية باستغلال الشعوب ومعاداة الطبقات الكادحة والفقيرة.

لقد لاقت القضية الفلسطينية على مدار تاريخها، تضامن ومساندة الشعوب الكادحة والطبقات الفقيرة والمقهورة بالمجتمعات، وكانت العديد من الاحزاب والقوى اليسارية والعمالية التي رفعت راية النضال ضد الامبريالية والصهيونية من اجل الحرية والانعتاق، وتحرير الانسان من الاستغلال والاستعمار والعنصرية، قد قادت هذه الحركات كافة المسيرات ومظاهرات التضامن والتاييد للشعب الفلسطيني وحقوقه ونضاله العادل، وقادت كافة حملات الاستنكار والاحتجاج لجرائم الكيان الصهيوني والحركة الصهيونية العالمية، وكانت قد شهدت الساحة الدولية هذه الصراعات، ولم يكن قرار ادانة الصهيونية بالامم المتحدة واعتبارها شكلا من اشكال العنصرية الا ثمرة لهذا الصراع لصالح الحق الفلسطيني، كذلك مؤتمر دربان المناهض للعنصرية، وغيرها من حلقات المواجهة العالمية بين المعسكرين.

بعد هذه المقدمة البسيطة والموجزة، لا بد من الانتقال الى عنوان هذا المقال، فمنذ فوز حزب العمال البرازيلي واستلام لويس اناسيو لولا دا سيلفا، الذي يشهد التاريخ البرازيلي لهذا المناضل اليساري بمواقفه المبدئية والمناصرة لنضال الشعوب وحقوقها الغير قابلة للتصرف، فكان له ولحزبه ولاتحاد النقابات الذي له الفضل بتاسيسهما، دورا كبيرا بامتداد حركة التضامن البرازيلي واتساعها بالبرازيل، الى جانب كافة القوى اليسارية الاخرى وبمقدمتها الاحزاب الماركسية والشيوعية البرازيلية، فوجدت الحركة الصهيونية بهذا الفوز فرصة لممارسة ضغطها على حكومة عمالية مناصرة للقضية الفلسطينية ولقضايا التحرر العالمية، ولم تتوقف الحركة الصهيونية لحظة واحدة من التحرك باتجاه هذه الحكومة الجديدة، من اجل مكاسب للحركة الصهيونية والكيان الصهيوني، من خلال المؤسسات اليهودية بالبرازيل والممثلة بالكونفدرالية "الاسرائيلية" من خلال الزيارات المتواصلة لقصر الجمهورية والالتقاء مع الرئيس لولا، ومن خلال حلفائها بالبرلمان البرازيلي وقيادات الاحزاب الاخرى، ونفوذ الحركة بالعديد من الاحزاب والمؤسسات الحكومية وانصارهما، فقد نجحت الحركة الصهيونية على مدار السنوات السبعة الماضية من تحويل موقف الرئيس البرازيل المنحاز للحقوق الفلسطينية، وتحييده بعملية الصراع.

تدرك الحركة الصهيونية ان الضغوط التي تمارسها على اي حكومة يسارية سواء يالبرازيل او امريكا اللاتينية، واي مواقف تراجعية بمواقفها اتجاه الصراع العربي الصهيوني، تترك انعكاساتها على مواقف الاحزاب الاخرى، وتخفف من حالة الادانة المستمرة للكيان الصهيوني واجراءاته القمعية والعدوانية بحق شعوب المنطقة العربية وفي المقدمة منها الشعبين الفلسطيني واللبناني، وهذا بالفعل ما حصل عندما وقع رئيس حزب العمال وسكرتير العلاقات الدولية على بيان يصف العدوان الصهيوني على قطاع غزة بجرائم حرب لم تمارسها الا النازية، حيث قامت قيامة مسؤولين بحزب العمال على مستوى الحكومة والكونغرس والبرلمان ضد البيان وموقعيه، ارضاءا للحركة الصهيونية ومؤسساتها، ونجحت بالنهاية الضغوط الصهيونية من محاصرتها وتحييدها وتليين مواقفها اتجاه الصراع والحقوق الفلسطينية.

تمكنت الكونفدرالية "الاسرائيلية" من خلال لقاء جمعها مع الرئيس لولا خلال شهر تموز، من التوقيع على اتفاق "للبدء في تصميم مشروع مشترك للتعاون الدولي لمساعدة الدول النامية، وعلى سبيل المثال اقامة البرامج التدريبية الخاصة بمجال الصحة" ويقول رئيس الكونفدرالية " الاسرائيلية" بتصريح له حول الاتفاق "هدفنا هو التعاون مع السياسة الخارجية البرازيلية لمساعدة الدول الفقيرة التي تواجه مشكلات اجتماعية خطيرة في المنطقة" فرئيس الكونفدرالية لم يحدد هذه الدول الفقيرة بالمنطقة التي يرى انها بحاجة الى مساعدة، فالحركة الصهيونية بدون ادنى شك تتحرك من خلال المؤسسات اليهودية بالبرازيل، من منطلقات انسانية لتصل الى الاهداف التي تعمل من اجلها، وهكذا اتفاق، بكل تاكيد، يساعد الحركة الصهيونية والكيان الصهيوني من الوصول بكل سهولة الى الاهداف التي ترغب الوصول اليها، كما سيسهل للحركة الصهيونية ان تتحرك تحت اسم الكونفدرالية "الاسرائيلية" بالقارة وخارجها، مستغلة بذلك العلاقات القوية والجيدة التي تقيمها البرازيل بالعديد من دول العالم، والدور الايجابي التي تلعبه البرازيل على مستوى القارة، وما تكنه شعوب القارة وحكوماتها ودولها للحكومة البرازيلية الحالية من احترام وتقدير، فهل ستكون الحكومة البرازيلية الحالية قد شيدت جسرا للحركة الصهيونية لتصل الى دولا اخرا بالقارة واخرى خارجها؟

التحولات السياسية التي تجري بالقارة، ووصول قوى اليسار الى مراكز القرار بالعديد من الدول، كفنزويلا، بوليفيا، الاكوادور وتشيلي اضافة الى البرازيل، تشكل عائقا امام الاطماع الراسمالية والاستعمارية للادارة الامريكية، وهذا ما اثار جدلا كبيرا وخلافا على مستوى القارة عندما وافقت كولومبيا على اقامة قواعد عسكرية امريكية على اراضيها، بعد ان شهدت العلاقات الامريكية ازمات مع فنزويلا وبوليفيا والاكوادور، فما هو المصير الذي ينتظر دول القارة الامريكية الجنوبية؟ وما هو الدور الصهيوني الاسرائيلي الامريكي بالقارة وتوجهاته للمرحلة القادمة؟

تحاول الحركة الصهيونية بطاقاتها الكبيرة ونفوذها الواسع بالبرازيل على كل المستويات، من الاستفادة من كل هذه الطاقات لممارسة ضغوطها الكبيرة على الحكومة العمالية اليسارية، ولتكن هذه الحكومة هي البوابة التي من خلالها ستدخل، لتصل الى الاهداف التي تسعى لتحقيقها، فالحركة الصهيونية اليوم تخوض معركتها بالقارة ضد كل القوى اليسارية سواء كانت بمركز القرار ام خارجه، وختاما يبقى السؤال التالي: هل ستنجح الحركة الصهيونية بتهديد استقرار العديد من الدول بالقارة؟

ـ البرازيل

الحجاب "العلماني" الذي يحجب الحقيقة

نقولا ناصر

لقد انقشع الآن غبار الزوبعة التي افتعل البعض إثارتها حول "فرض الحجاب" في قطاع غزة، لكن بغض النظر عن الجدل الدائر حول الالتزام أو عدم الالتزام بزي إسلامي وتوقف أو عدم توقف هذا الجدل، فإنه لا يمكن المرور مرور الكرام على ظاهرة أثارها هذا الجدل كانت نموذجا لأقلام من المفترض فيها أنها قائدة للرأي العام فإذا بها تتحول إلى أبواق للتضليل، تخط قبل أن تتيقن، وتكتب نتائج مبنية على معلومات غير دقيقة لم تكلف نفسها عناء التحري عنها، وتخلص إلى استنتاجات مبنية على مقدمات افتراضية أملتها الأفكار المسبقة لا حقائق الواقع، ليتحول نتاج هكذا أقلام "علمانية" إلى حجاب علماني يحجب الحقيقة، أو يتحول إلى نموذج للإشاعة الناجحة في الحرب النفسية التي تبني على جزيء من الحقيقة لتعميم أكاذيب ملفقة تجافي الحقائق على الأرض.

كان افتعال "معركة الحجاب" في قطاع غزة نموذجا لتغليب الفرع على الأصل، وتقديم الثانوي على الرئيسي، والجزئي على الكلي، والمظهر على الجوهر، وتصيدا لسلبيات خاصة لصرف الأنظار عن إيجابيات عامة، وتحريضا على الانقسام الاجتماعي باسم الاحتجاج على ما ادعي بأنه إجراء يثير الانقسام الاجتماعي، ونفخا في اختلاف مجتمعي لتسعير خلاف سياسي، وتسييسا غير بريء لقضية كانت دائما مثار جدل بين المؤمنين.

فالأصل في القطاع الفلسطيني المحاصر هو الحصار المزمن الذي يزيد عمره أضعافا على عمر وجود حركة حماس في قيادته، والرئيسي في القطاع هو الاحتلال الذي يحاصره منذ عام 1967، والكلي في القطاع هو الفقر المدقع والبطالة العامة والموت الجماعي البطيء الذي أجبر أهل القطاع على البحث عن الحياة في الأنفاق تحت الأرض بعد أن استحال توفير أسباب الحياة فوقها، والجوهر في القطاع هو المقاومة لكل هذا الظلم التاريخي والدولي الذي يهون أمام ظلم ذوي القربى العرب وفي مقدمتهم أشقاء فلسطينيون، وكل ما عدا ذلك ينبغي أن يكون فرعيا وثانويا وجزئيا ومظهرا يجب ألا يمس الجوهر، لكن قلة قليلة ذات صوت نشاز مرتفع ما زالت بوعي أو دون وعي تصر على أن تختزل الصراع من أجل الوجود الإنساني والوطني في القطاع وعذابات أهل غزة في قضية الحجاب المفتعلة.

والافتعال في قضية الحجاب المضخمة توضحه مجموعة حقائق أولها أن ولاية وزارة التربية والتعليم الفلسطينية تطال مدارسها فقط التي تضم حوالي ربع مليون طالب وطالبة بينما يتبع عدد يقل عن ذلك قليلا ولاية الأمم المتحدة في مدارس وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين "أونروا" وولاية مدارس خاصة مسيحية وغير مسيحية، وثانيها أن الوزارة نفسها قد نفت أنها قررت فرض الزي الشرعي على طالبات الثانوية، أو أن تكون بصدد فرضه، وأكدت " تأكيدا رسميا أنه ليس هناك أي قرار بفرض الجلباب على طالبات الثانوية أو إلزامهن بأي زي على الإطلاق وأن زيهم هو المعتاد والمتعارف منذ سنوات" وأعلنت أنه بإمكان أية طالبة أو ولي أمر مراجعة الوزارة إن كان هناك أي تهديد من أي إدارة مدرسية بالحرمان من التعليم في حال عدم الالتزام بالزي الشرعي (وكيل وزارة التربية والتعليم بغزة د. يوسف إبراهيم). أما ثالث هذه الحقائق فيؤكد بان حركة حماس انسجاما مع نفسها "تنصح وتدعو" إلى الالتزام بالزي الشرعي طوعا لكنها لم "تأمر" به، ورابع الحقائق أن قيادة حركة المقاومة الإسلامية تكرر تأكيدها بأنها في هذه المرحلة من النضال الوطني الفلسطيني تعمل كحركة تحرر وطني وأن برنامجها الاجتماعي مؤجل إلى ما بعد التحرير والتحرر من الاحتلال.

لكن الحقيقة الخامسة تؤكد بأن ملصقا من إدارات المدارس قد علق على مداخل بعض ثانويات الإناث في غرب غزة، وهذا قطاع تعليمي محدود من مدينة غزة ناهيك عن القطاع بكامله، حدد شروط الزي المدرسي للعام الدراسي الجديد ب"جلباب كحلي فقط"(وليس أسود)، وغطاء رأس أبيض وحذاء ابيض أو أسود، ووجد المتصيدون في المياه الفلسطينية العكرة في هذا الملصق والإجراء المترتب عليه فرصه سانحة لشن حملة مضخمة في محاولة لتعميم حالة خاصة معزولة لم تعمر طويلا على كل حال بعد أن سارعت حماس إلى احتواء مضاعفاتها السلبية. لكن الحملة مستمرة في تعميم مشبوه لما كان حالة محدودة وفي تسييس مغرض لقضية دينية واجتماعية سوف يستمر الجدل حولها كما استمر منذ ما يزيد على ألف وأربعمائة سنة ليس في قطاع غزة فقط بل في كل العالم حيث يوجد مؤمنون وعلمانيون.

وقد بولغ في لي عنق الحقيقة في هذه الحملة مبالغة وصلت حد الشطط، تضع علامة سؤال كبيرة حول الأهداف الحقيقية لها، إذ اشتط بعض الكتاب ليعنون أحدهم مقالا له ب"قمع المرأة" بعد "إصدار قرارات ملزمة للآخرين دون استشارتهم" أو استشارة "القوى الأخرى في غزة" ليخلص من مقدمته المبنية على معلومات مغلوطة إلى الاستنتاج بأن "المقاومة قد تحولت لتقاوم حريات الناس"، وليكتب آخر بأن حماس "فرضت حصارا داخليا" ويضيف مستهجنا"كأن الحصار الخارجي لا يكفي" ليستنتج بأن "القرارات الحمساوية تعلن في شكل لا لبس فيه عن مشروع إنشاء إمارة إسلامية في غزة" وبأن "حماس قررت استبدال هدف تحرير فلسطين من الاحتلال، بهدف بناء مجتمع إسلامي" ليخلص بدوره إلى "أن تحجيب غزة، سوف يمنعها من رؤية ما يجري في بقية الأراضي الفلسطينية"، ليقرر ثالث بأن حركة حماس بدأت "مؤخراً بفرض مظاهر السَعوَدَة في داخل قطاع غزة" ليستنتج هو الآخر أن حماس تقوم "بفرض ثقافة دخيلة عليه قسراً" (كذا!)، ويشتط رابع ليقول إنها "ممارسات طالبان العرب" التي تطلق "العنان لدولة الاستبداد الديني المطلق الذي يعتبر الاحتلال، ومن وجهة نظر واقعية، أكثر حداثوية وانفتاحاً مجتمعياً" مما جعل الناس في غزة "يترحمون على أيام الاحتلال"، إلخ.

إن هؤلاء وغيرهم يتجاهلون حقيقة أن الزي الإسلامي أصبح علامة مميزة منتشرة على نطاق واسع فلسطينيا وعربيا وعالميا "طوعا" ودون إصدار أية أوامر أو صدور ما وصفوه ب"الفرمانات الطالبانية" في عواصم وشوارع وجامعات ومدارس البلدان المنخرطة، قيادة أو تبعية، في الحرب العالمية الأميركية - الإسرائيلية "على الإرهاب"، وفي مقدمتها دولة الاحتلال الإسرائيلي، وبالضد من "الفرمانات العلمانية" التي تحاول احتواء هذه الظاهرة في هذه البلدان وهي الفرمانات التي ما زالت الأقلام المتباكية على الحريات العامة في قطاع غزة تستنكف حتى عن توجيه أي نقد لعدوانها السافر على تلك الحريات، ويتجاهلون أن هذه الظاهرة اجتاحت أيضا الوطن الفلسطيني قبل وقت طويل من وجود حماس في قيادة القطاع وبأن انتشارها في الضفة الفلسطينية لنهر الأردن حيث تسيطر "علمانية" الاحتلال أو سلطة الحكم الذاتي الفلسطينية لا يقل عن انتشاره في غزة.

واللافت للنظر أن شطط هذه الأقلام قد حول قضية "فرض الحجاب" التي افتعلوها إلى حجاب بينهم وبين الحقيقة، عندما التقطوا انتقائيا جزئيتها المعزولة فعمموها "لغرض في نفس يعقوب" بينما تجاهلوا عمدا "تعميم" الحكومة بغزة في اليوم السابق تماما بعدم التقيد بالزي المدرسي مراعاة "للوضع الاقتصادي" الناجم عن الحصار الذي جعل العثور عل هذا الزي مثله مثل القرطاسية والدفاتر المدرسية أمرا مستحيلا، وتعميم الأونروا لندائها العاجل لتوفير (181) مليون دولار لإغاثة أهل القطاع في شهر رمضان، وتعميم مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية "أوشا" عن "الكارثة الإنسانية العميقة" التي أسفر الحصار عنها، وتجاهلوا حقيقة أن حماس خاضت في رفح قبل أيام مواجهة دموية فرضت عليها مع تلك القوى التي تسعى حقا إلى فرض رؤيتها تعسفا بالقوة الغاشمة حتى دون "فرمانات"، إلخ.، لكنهم تجاهلوا قبل كل ذلك حقيقة أن العامل الاقتصادي له قوة الإيمان الديني في اختيار الزي الإسلامي وأن قوة هذا العامل في القطاع مضاعفة بسبب الحصار المتواصل وان بذور "الدعوة" إليه تقع في أرض خصبة مهيأة للاستجابة أكثر مما هي مهيأة للرفض.

غير أن الحكومة في غزة لا تستطيع إعفاء نفسها من مسؤولية الزوبعة التي أثيرت بتحميلها للوزارة المختصة، ولا تستطيع الوزارة التنصل من المسؤولية بتحميلها لما قالت إنه كان "اجتهادات" شخصية أو "مبادرات" خاصة من بعض مديرات المدارس، لأنه "لا مكان للاجتهادات الشخصية" -- كما قال مصطفى الصواف رئيس تحرير صحيفة "فلسطين" التي توزع في غزة فقط حاليا بعد أن منعت سلطة الحكم الذاتي في رام الله إصدارها في نابلس وتوزيعها في الضفة الغربية المحتلة لنهر الأردن -- عندما تكون هناك حكومة وقانون ونظام عام، وإلا كان الأمر سابقة في مجال التعليم ستفتح أبواب الفوضى في قطاعات المجتمع الأخرى.

كما لا يسع حركة حماس التي تدير الأمور في القطاع المحاصر التنصل من مسؤولية تقصيرها في توضيح أن برنامجها السياسي هو في المرحلة الراهنة برنامج للتحرر الوطني الفلسطيني والمقاومة وأن برنامجها الاجتماعي سابق لأوانه قبل التحرير لأنه يفجر صراعات اجتماعية تصرف الأنظار بعيدا عن مقاومة الاحتلال.

أما بعد رحيل الاحتلال فليتجادل المتدينون والعلمانيون كما يشاءون حول ما إذا كان هناك، أم لم يكن، سند ديني أو تاريخي لغطاء الرأس وللثوب الفلسطيني الجميل المقصب والمطرز بألوان متعددة زاهية تحبب الإنسان في الحياة وهو الزي الذي ارتضاه عرب فلسطين جميعهم، مسلمون ومسيحيون، زيا وطنيا لنسائهم في ظل الحكم الإسلامي، العربي وغير العربي، طوال قرون من الزمن، قبل أن يفتحوا معركة أموية – عباسية في القرن الحادي والعشرين حول ما إذا كانت ثياب الحداد بيضاء كما كانت في عهد الخلافة الأموية أم سوداء كما تغيرت في عهد الخلافة العباسية التي أعقبتها.

*كاتب عربي من فلسطين
nicolanasser@yahoo.com*

السبت، أغسطس 29، 2009

الحمد لله على نجاة سمو الأمير محمد بن نايف

فادي الحاج
بسم الله الرحمن الرحيم...
الحمد لله على نجاة وسلامة مساعد وزير الداخليه السعودي سمو الامير محمد بن نايف من يد الدنس واللؤم والغدر التي لاتعرف سوى الترهيب والتطاول على أسيادها وعلى رعاة الأمن وحماة المواطنين من رؤوس الفتنة والإجرام في بلدنا الثاني الأمين . والحمد لله الذي أخذ هذا الخائن بعقليته الحاقدة , ونسأل الله لسمو الأمير محمد بن نايف دوام الصحة والعافية ودوام فضله وعزه الذي عرفناه دومآ بتواضعه وعنفوانه ورحابة صدره فقد أراد سموه إستقبال هذا المجرم لإظهار حسن نيته وسعادته على توبة هذا الضال الآثم . اللهم أسألك بعزتك وجلالك وعظمتك وجبروتك أن لاتجعل مجرمآ وضالآ إرهابيآ في اى بلد في العالم إلا وأخذته أخذ عزيز مقتدر . وكل من يحذو حذو عقليتهم وتفكيرهم العقيم . حمدآ لله على سلامة الأمير محمد بن نايف والعمر الطويل له بإذن الله والغيظ والنكد لمن أراد له الضر والشر.
والله يحفظهم ويحفظ هالبلد وحكامها ، لكن للأسف الفئة المتطرفة أعداء للحياة وللخُلُق والإنسانية بكافة أشكالها ، لا ينبغي أن يعيشوا بين البشر لأنهم سرطان يجب استئصاله من جذوره. نحمد الله الذي سلم اميرنا الغالي الذي نذر نفسه ووقته لتحقيق الأمن في هذه البلاد الطاهرة, وأما أنتم يامعشر الخوارج أصحاب الغدر (موتوا بغيظكم) فلن تصلوا لمرادكم فالعزة لله ثم لحماة التوحيد وحراس العقيدة آل سعود.
الارهابين اصحاب الفكر الضال لايؤمن مكرهم يجب ان لا يمنحوا اي فرصه فعقولهم مؤدلجه لايمكن تطهيرها من تلك الافكار القذره. نقول لكم ايها الارهابيين اننا جميعا سعوديين ومسلمين سنتحد معا لحفظ أمن وطننا من فتنتكم. ونسأل الله أن يكفيناكم بما يشاء وهو السميع العليم وأن يرد كيدكم في نحوركم ويجعل تدبيركم تدميرا عليكم ان الله على كل شيء قدير احفظ بلدنا وبلاد المسلمين من كل شر. الله يحفظ سموه من كل شر فما والله حاولوا اغتياله الا لحقدهم عليه لتدميره لخلاياهم و تفكيكها الله يعينك يا سمو الامير على ما انيط بكم من مسؤولية و انتم كفو لها.
الله لايوفقهم وينتقم منهم والحمد لله على سلامه الامير الشئ اللي مايعرفونه عامة الناس ان الامير هو من شن الحرب على اصحاب الفكر المنحرف والمتطرف وهو من اخرجهم من اوكارهم وكان يشرف على كل صغيره وكبيره ايضا هو من اعتمد برنامج المناصحه لأنه آمن ان الفكر لايعالج الا بالفكر حيث يتم اقناع اصحاب الفكر بالرجوع الا طريق الصواب ومساعدتهم بالعوده والاندماج مع المجتمع ايضا امر بالاهتمام بعوائل اصحاب الفكر المنحرف والمطلوبين وكان يقول انه اذا كانت الثمره الفاسده لايعني ان الشجره كلها فاسده ايضا اهتم سموه وبشكل شخصي بأسر الشهداء ممن فقدوا اهلهم بالاحداث الارهابيه اتمنى وهذا الشئ متأكد منه انه لن يرضخ ولن يتهاون عن اهدافه بعد ما حدث اتمنى للأمير الصارم والقوي الشفاء والعافيه استمر ياسمو الامير.
نعم..لانامت أعين الجبناء...!! وحسبنى الله ونعم الوكيل... هذا أكبر دليل أن سموه بجهوده العظيمه كان شوكة في حلوقهم... فلقد ضيقت وزارة الداخلية الخناق على هذه الفئه..وأفشلت مخططاتهم...الحقيرة.. الذي أود أن أقوله بلا مجاملة أو تملّق ... أن سمو الأمير بجهوده وبجهود رجاله وبأمر الله قبل ذلك كله قد حفظوا المواطن وهذا البلد من دمار خطير...وعمليات ارهابية كبرى.. تستهدف أمن هذا البلد..وتسيء للأسلام والمسلمين...!! وليس غريبا أن يكون هذا الأمير الشهم حصنا منيعا ودرعا للوطن...!! في سبيل الله ثم في سبيل الوطن...سنقف صفا واحدا... وسمو الأمير قدوة بتصديه لكآفة رجال الامن وللشعب السعودي بأكمله
الحمدلله على سلامة الأمير الخلوق ورجل الأمن الكبير محمد بن نايف حفظه الله.. والله نسأل أن يجعل ما تعرض له اليوم من هذه المحاولة البائسة في ميزان حسناته إن شاء الله.. مبروك لنا جميعاً سلامة الأمير محمد بن نايف.. وكما قال سموه ان هذا لن يزيده إلا اصراراً في عمله الوطني الكبير.. هذه الحادثه بقدر ماهي حقيره الا انها قد ترشد المسؤلين الى الطريقه المثلى للتعامل مع المتطرفين .. لابد ان تضرب أعناق هؤلاء الخوارج وبأسرع مايمكن .. أما حكاية المناصحة فلا تنفع معهم لابد أن تقتلع جذورهم وتجفف منابعهم وأن تتعامل معهم الحكومه بصرامه .لاتنفع معهم مناصحه بل السيف أصدق سيبقى الوطن وابناءه البرره شوكه في عيونكم المعمية.
حفظ الله سمو الامير وحفظ الله آل سعود وشعب المملكه من كل سؤ وان شاءالله ان يديم الله للشعب السعودي والامة العربية والاسلامية الامن والايمان. نسأل الله ان يقينا شر الارهابيين الضاليين, والعابثين يا رب العالمين.

fadiozy@yahoo.com.au,
PO Box 21. Punchbowl NSW 2196

ليلى: بين الذئب وحقوق الانسان

مأمون شحادة
wonpalestine@yahoo.com

المسافة طويلة ما بين الانطلاق الى نقطة الوصول، الامر الذي جعل ليلى تستريح في منتصفها، مجهدة من طول المسافة وعناء الطريق، جلست على الرصيف ناظرة هنا وهناك، حتى استقر نظرها بعيدا، وقفت مذعورة وتقدمت قليلا للامام، حدقت النظر اكثر، فاذا به حاجز اسرائيلي منصوب على الطريق مكتوب عليه كلمة " قف "، تقدمت ليلى اكثر لتصل ذلك الحاجز، حتى اخذ الجندي بالصراخ " عد من حيث اتيت" ...
اضطرت ليلى ان تأخذ طريق اخر للوصول الى بيتها، صحيح ان الطريق طويل، لكنها مصممة على الوصول، حتى وصلت،....،،، دخلت البيت واستلقت على سريرها متعبة من طول المسافة، كانت الساعة في ذلك الوقت الثالثة عصرا، تذكرت ليلى انها متعودة في ذلك الوقت على سماع صوت "كوكب الشرق" ام كلثوم على اذاعة " راديو بيت لحم 2000" ، اسرعت الى المذياع لتشغيله،... اخذت تدير مؤشر المذياع يمينا ويسارا فلم تجد مكانا لتردد الاذاعة، .... نادت على امها، لتسألها ما السبب، اجابتها قائلة:" ان الاحتلال سرق جهاز البث الاذاعي التابع للاذاعة"،.... اضطرت ليلى ان تبحث عن صوت ام كلثوم على محطة اخرى، الا انها اصطدمت بنشرة للاخبار مفادها "ان جنود الاحتلال يسرقون اعضاء الشهداء الفلسطينيين"،... استلقت ليلى مرة اخرى على السرير متعبة ليس من طول المسافة وانما من اسئلة كثيرة تدور في عقلها،....حتى دخلت في صراع ما بين طرح السؤال والاجابة،...متسائلة ما الذي يحدث، حواجز عسكرية على الطريق تسرق الارض الفلسطينية!!، وسرقة لاجهزة البث الاذاعي الفلسطيني!!، وقتل متعمد للشعب الفلسطيني من اجل سرقة اعضائه البشرية!!، ... فتذكرت ليلى ان سرقتهم لتلك الاشياء انما هي بالوراثة" خبرة الاجداد ومهارة الابناء"، فالارض سرقت، والاعضاء البشرية سرقت، وصوت الجماهير الاذاعي سرق ايضا،،، ما الذي تبقى بعد ذلك!؟،...... اهذه هي الديمقراطية وحقوق الانسان ايها العالم ؟

الجمعة، أغسطس 28، 2009

فلسطينية على ضفاف نهر بوتوميك

د. فايز أبو شمالة
قبل أن أُفْطَمَ عن السجائر، وقفت ليلاً في واشنطن على جسر تتدفق من تحته مياه نهر "بوتوميك"، رفعت يدي لأقذف عقب السيجارة في مياه النهر، وإذا بيدٍ من الخلف، تمسك بيدي، وتحول دون تنفيذ ذلك، وأشار إلى حاوية في مكان بعيد، وقال: هنالك يمكنك أن تقذف عقب سيجارتك، أرجوك، لا تلوث مياه النهر!.
قلت له: إنها مياه نهر متدفق، وتصب في المحيط الأطلسي، فكيف سيلوث عقب سيجارتي هذا الكم الهائل من الماء؟، ثم؛ إنه مكان عام، فلماذا أنت متحرق على النظافة إلى هذا الحد، ثم؛ نحن في آخر الليل، ولا يوجد أمريكي عندنا كي يتهمنا بعدم النظافة!.
قال محمد أبو شمالة، اللاجئ الفلسطيني المولود في قطاع غزة، والذي يعمل مع وزارة الخارجية الأمريكية: إنها عاداتنا، وأخلاقنا في أمريكا، وبغض النظر عن المكان، أو الزمان، لا يصح أن نلقي في النهر أي شيء يلوث البيئة، أو يخدش براءة الكائنات.
تذكرت هذه الواقعة وأنا أراقب بحر قطاع غزة في الصيف، وأشاهد بأم عيني كيف يتحول الشاطئ النظيف إلى ساحة مطعم، أو مخلفات سوق، أو مصنع بلاستك مهجور، وقد تراكمت أطنان القمامة، التي يتركها المواطن الفلسطيني على الشاطئ عمداً دون أن يكلف نفسه عناء جمعها، أو الخجل من نفسه، وعدم إلقاء الفضلات على شاطئ البحر، وهنا أوجه التهمة إلى المرأة الفلسطينية، فهي المقصرة في تهذيب الطفل، وغرس العادات الصحيحة، وهي التي لم تؤسس أبناءها على النظافة العامة، ولم تحضهم على احترام المال العام بالقدر ذاته الذي يحرص فيه على المال الخاص، وهنا يمكن استشفاف سلبية امرأة لم تسهم في تنشئة الجيل الذي يقدر الآخرين بمقدار تقديره لنفسه، ولاسيما إذا لم يحافظ على نظافة الشارع بذات القدر الذي يحافظ فيه على نظافة غرفة نومه، ولا يحافظ على نظافة الشاطئ بقدر الحفاظ على جمال جسده، ونضارة وجهه، إنها الأمُّ، والأمُّ مدرسة شاءتْ أم أبتْ!.
أصر الدكتور سالم الكرد عميد كلية الحقوق في جامعة الأزهر أن أقف بالسيارة إلى جوار الحاوية كي يلقي فيها ما تبقى من فضلات، وقال: هذا بعض ما تعلمته من الفرنسيين الذين نلت شهادة الدكتوراه في القانون من بلادهم، إنهم يهتمون بالنظافة إلى أبعد مدى، وهي عنوان رقيهم، وتكاد لا تجد في شوارع المدن الفرنسية ما لا يروق لعينك، وكأن المرأة الفرنسية ترش العطر على الرصيف، وتنثر ياسمين الابتسامة على المارة.
إنها المرأة، وإنها المرأة أينما يممت وجهك، حتى صار الولدُ أمَّهُ!
fshamala@yahoo.com

رمضان يجمعنا

د. حبيب بولس

في حمأة هذا الزمن الرديء، وفي ظل انقلاب المفاهيم والقيم، حتى صار الواحد منا يلقى الآخر، بوجه ابي ذَرّ وقلب ابي جهل، في هذا الزمن العربي الرديء، ونحن نجتاز مفازة لاهبة مليئة بالحصى وبالبثور، في هذا الزمن المُثقل بالهمّ وبالوجع وبالجوع، زمن الانكسارات والتشرذم والفُرقة الذي فيه تفتّقت خيوط عباءتنا وبهتت الوان حطّتنا. في هذا الزمن الذي صرنا فيه دويلات وطوائف، "في كل ارض وطئتُها امم- تُرعى بعبد كأنها غنم". يهرول زعماؤها وملوكها ويخمعون وراء احمق لا همّ له سوى ضرب وحدتنا وتفتيتها، وزرع بذور الفتنة والاحتراب الطائفي والعرقي، في ظل هذا الزمن السيء الذي نامت فيه نواطيرنا، فسرح تجار الكرامة المزيفة، ومرحت الثعالب الوطنية، في حمأة هذا الزمن الذي يقود العالم فيه شهّاء دماء وفتنة، تلهث خلفه قياداتنا العربية وتُنتف عند ابوابه شواربهم، لانهم "ارانب غير انهم ملوك مفتحة عيونهم نيام". في زمن يسوّغ فيه المقصر تحقيره ومذلته بالحِلم هربا من المواجهة مع علمه بأن "كل حِلم اتى بغير اقتدار حُجّة لاجئٌ اليها اللئام". فمن يَهُن يسهُل الهوان عليه، ما لجرح بميت ايلام".

في زمن كهذا يتبوأ قيادته مأفون: "من كل رخو، عظيم البطن، مُنتفخ- لا في الرجال ولا في النسوان معدود". في زمن كهذا يشهد تراجعنا وتخاذلنا وترهّلنا، من الطبيعي ان تُخلّع ابوابنا، وان تُهدم اسوار كرامتنا، وان تُقتحم قلعتنا، وان تستباح خدورنا وحرماتنا، ومعتقداتنا، ومقدساتنا، حتى صرنا عُرضة للهجوم والتّهجم الوقحين من نفر ما كان يجرؤ لو ان في جموعنا رجالا. فتارة نصحو على رسومات شائهة لشخص الرسول العربي الكريم، وطورا على مقال لفرنسي، يُعيد فيه الى الاذهان تقرير "اللورد كريمر" في العقد الاول من القرن المنصرم، القائل:" ان الدين الاسلامي دين لا يليق بهذا العصر"، وتارة ثالثة على قبسة باباوية فطير، كنا نأمل- سامحه الله- ان تكون خميرا تلائم مركزه، يتعرّض فيها للدين الاسلامي على انه دين لا يُحكّم العقل، وتارة رابعة على تقليعة تُردف الارهاب بالدين. هذا التطاول ما كان له ان يتم لو ان الاجنبي، كان يعلم اننا مُوحدون زعامة وشعبا.

وفي حمأة كل ما ذكر يهلّ علينا شهر رمضان المبارك ليغسلنا من ادراننا وليزيل ما علق بأجسادنا من ترهل ودسم واورام، وليمسح عن وجوهنا الاصباغ كي نظهر على حقيقتنا، وكي نلتقي مع انفسنا، في لحظة صدق. مع اهلالته الكريمة لا نملك الا ان نقول لكل المُضلِّلين والمُضلَّلين: ان ما يجري تسيب اخلاقي وفلتان، فحرية التعبير عن الرأي مهما حاولتم مكيجتها، يجب ان تلجم اذا هي تجاوزت حدودها ومسّت الآخرين في صميم معتقداتهم. ومن هنا لا يمكن ان نسمح بما يجري من جهة، ولكننا من اخرى نقول نحن ضد الارهاب مهما كانت مصادره واسبابه، ومهما كان فاعلوه ومهما كان انتماؤهم. فالخطأ لا يُعالج بخطأ، والشرّ لا يقتلعه شر، لقد قال "لقمان الحكيم" لابنه:" يا بني، لقد كذب من قال: ان الشر بالشر يُطفأ، فان كان صادقا، فليوقد نارين، ولينظر هل تطفئ احداهما الاخرى، انما يطفئ الخير الشر، كما يطفئ الماء النار".

نحن هنا نحذر ونقول للمُضلّلين: اياكم والخلط بين الارهاب والدين، فالاسلام دين سماحة وحضارة وعلم اجّ وتوهّج واشتعل فأنار العالم اجمع وهداه سواء السبيل. عليكم ان تعلموا انه مهما بلغ بكم الحقد على الاسلام والمسلمين، لن يمسّ هذا الحقد الدين بشيء، بل سينقلب عليكم:" ان الدين يُسر، ولن يشاد الدين احد الا غلبه" (حديث شريف). الاسلام دين راسخ، دعائمه العدل والخير والمحبة، لذلك لن يستطيع شخص او فئة النيل منه:" ان هذا الدين متين فأوغل فيه برفق"... (حديث شريف). لن تضير المسلمين رسومات تشوّه سواء كان فاعلها يعرف فتعمّد التهتك او يجهل فادعى التنسك، فهو في الحالتين اساء. فمن كلام عليّ (كرم الله وجهه):" قصَم ظهري رجلان: جاهل متنسك، وعالم متهتك" وفي الحالتين الذنب هو الذنب. نحن هنا مسلمين ومسيحيين،نقول:" نحن في الشرق والفصحى بنو رحم- ونحن في الجرح والايمان اخوان".

من هنا فليعلم الجميع ان الدين الاسلامي دين سماحة وقيم وحضارة وعلم وعقل، ولن تضره رسومات ولا اقوال شائهة طائشة، ومن هنا ثانية نقول وبعقيرة مرفوعة جهيرة: ان رسولا كريما تجمّعت فيه القيم والصفات الحميدة فصار أسّا ومرتكزا وقدوة حسنة، لا يمكن ان نسمح لاحد بالمس به. ان رسولا اخترق العالم بتعاليمه وانار ظلمته، لا يمكن ان نسمح لاحد بان يهزأ به. ان من يدعو الى الوحدة والتآلف والى نبذ البغضاء والاحقاد، من يدعو الى مكارم الاخلاق والتواضع والمحبة، والرحمة والتسامح، وإنصاف الضعيف، حيث يقول صلّى الله عليه وسلّم:" لا تباغضوا، ولا تحاسدوا، ولا تدابروا، وكونوا عباد الله اخوانا". و" احبكم اليّ احاسنكم اخلاقا، الموطئون اكنافا، الذين يألفون ويُؤلَفون". و:" لا يؤمن احدكم حتى يُحبّ لاخيه ما يحب لنفسه". و:" يا علي، إتقّ دعوة المظلوم، فانه يسأل الله حقه، وان الله لا يمنع ذا حق حقه". او كما جاء على لسان ابي بكر رضي الله عنه:"ألا ان اقواكم عندي الضعيف حتى آخذ الحق له، واضعفكم عندي القوي حتى آخذ الحق منه". أيُضام رسول كهذا، بهذه الاخلاق وبهذه القيم!! انه قابع في قلوب الناس منه يستمدون وبه يستنيرون. "لحُبّ ابن عبد الله اولى- به يُبدأ الذكر الجميل ويُختم".

نعم، ايها الاخوة، الاسلام دين سماحة وحضارة وعلم وعقل. قال ابن رشد الفيلسوف:" الشريعة والعقل أخوان في الرضاعة".

من هنا، اقول لقداسة البابا: دُلّني قداستك على ملك اوصى قائده قبل المعركة، كما اوصى الصدّيق قائده الفتى اسامة قبل ان يشخصه على رأس حملة، حيث قال:" لا تخونوا ولا تغدروا، ولا تغّلوا ولا تُمثّلوا، ولا تقتلوا طفلا ولا شيخا كبيرا ولا امرأة، ولا تعقروا نخلا، ولا تحرقوا، ولا تقطعوا شجرة مثمرة، ولا تذبحوا شاة ولا بقرة ولا بعيرا الا لأكله". وسوف تمرّون بأقوام قد افرغوا انفسهم في الصوامع فدعوهم وما فرغوا انفسهم به.." أليس هذا عين العقل، قارِن قداستك هذا الكلام بما جاء في التوراة عن فتح اريحا".

دُلّني قداستك على ملك ابرم معاهدة وجعل بندها المركزي كتبا، كما فعل الخليفة المأمون حين ابرم معاهدته مع ملك الروم، واشترط عليه ارسال الكتب والمخطوطات الى بيت الحكمة لنقلها وترجمتها، قارِن قداستك هذا الامر مع ما جرى في برلين في بداية العقد الثالث من القرن المنصرم من احراق اعظم مكتبة هناك، مكتبة "أونترن لندن".

ان دينا يبوِّئ القلم المنزلة الاولى ويقدمه على كل شيء، والقلم آلة الفطنة والعقل ورمزهما لا يُقال عنه انه دين لا يحكّم العقل. فهذا العتّابي يقول: "الاقلام مطايا الفطن"، والمأمون يقول: "لله در القلم، كيف يحوك وشي المملكة" وهذا ابن الرومي يقول: " بذا قضى الله للاقلام مُذ بُريت - ان السيوف لها مُذ أُصليت خدم". وصلاح الدين القائد الفذّ يقول لجنوده:" لا تحسبوا اني فتحت البلاد بسيوفكم، بل بقلم القاضي الفاضل". وهذا غيض من فيض، الا يدل ما تقدم على تحكيم العقل. من اين استمد هؤلاء على شتى مراتبهم وعصورهم؟ أليس من تعاليم دينهم، من القرآن الكريم ومن سنّة الرسول المشرّفة. من هنا نحن نردد مع الشاعر ونقول:" من سبّ دين محمد- فمحمد متمكن عند الاله رسولا". لن يضير هذا الدين شيء. وبعد، لو ان مطلقي هذه الاتهامات والتهجمات فكروا للحظة لعرفوا ان ما قاموا به سيكون له عواقب وخيمة وسيمس اقدس ما نحرص عليه ونجعله قرآنا وانجيلا في حياتنا هنا في الشرق، واعني ذلك النسيج المتلاحم بين مسلمينا ومسيحيينا، فنحن العرب المسيحيين نرى بهذه الاقوال مسّا بنا وبمرتكزات وجودنا وبحضارتنا وبتراثنا. لقد عشنا هنا متآخين متحابين اخوة في الهمّ وفي الشدائد، اذا عثر احدنا أقاله الآخر، يجمعنا وئام وحرية معتقد وحلم أخضر بالواحة. من هنا احذر واقول: ان ردّة الفعل مشروعة، ولكن المطالبة بالحق شيء والخروج عن حدود ذلك شيء آخر. يجب حين نردّ ان نرقى الى مستوى دياناتنا والا نأخذ الكل بجريرة البعض. التعميم مرفوض، لانه:" اذا انحطّ قدر الدّر من اجل بائع فذاك جهل باللآلئ". يجب ان نفكر بعقولنا، اذ لا يجوز مهما بلغ بنا الغضب ان نسقط ذلك على العرب المسيحيين، فالمسيحيون هنا، ليسوا رهائن عند احد، بل هم شركاء واخوة، يجب ان ننتبه وان لا نسمح بان يُستغل غضبنا للتطاول على المسيحيين العرب، فالاحتجاج شيء واعمال الشغب وحرق الكنائس شيء آخر، شيء يجهض نضالنا ويُهمّشه ويعطي الفرج للمسيئين الينا.

نحن هنا، مسلمين ومسيحيين نقولها صادقة لن نسمح بالمسّ برسلنا وبأنبيائنا ومقدساتنا، لن نسمح بتفتيت وحدتنا وبتمزيق نسيجها، مهما حصل، ولن تُفلح اية قوة في ان تحرف مسارنا وان تشوّه تاريخنا وعيشنا المشترك. "واما الزّبد فيذهب جفاء واما ما ينفع الناس فيمكث في الارض". صدق الله العظيم. لنخرج من هنا ايها الاخوة موحدين متآزرين كحبّات العقد الواحدة تسند الاخرى، لنخرج صخرة عتيّة تتحطم عند قدميها قرون الوعل. ولننتبه يا اخوتي لانه "اذا الرعاة اختلفوا تجرأ الذئب". وكم من ذئب على الابواب يتربّص. وعلى امل الاّ يكون لقاؤنا هذا فورة تعقبها غورة، ننتظر رمضان القادم لنرتق سوية ما تفتّق من خيوط عباءتنا ولنرد الى الوان حطّتنا التي بهتت البهاء. لنردد مع شاعر بني تغلب ما يليق بنا:" حُشد على الحق عيّافو الخنى اُنف- اذا ألمّت بهم مكروهة صبروا". ولنهتف مع شوقي:" نحن اليواقيت خاض النارَ جوهرُنا – ولم يهن بيد التشتيت غالينا/ لم تنزل الشمس ميزانا ولا صعدت- في ملكها الضخم عرشا مثل وادينا". وها انا العربي المسيحي اقولها بكل صدق وفخر:"اولئك اخواني فجئني بمثلهم- اذا جمعتنا يا جرير المجامع".

الله اسأل ان يسبغ علينا نعمته وان يقوّي اواصر وحدتنا وان يشدّ أزرنا. "ربنا اننا سمعنا وأطعنا". "ربنا لا تزغ قلوبنا بعد اذ هديتنا، وهب لنا من لدنك رحمة، انك انت الوهّاب". صدق الله العظيم.

وكل عام وكل رمضان وانتم ونحن بألف خير وعافية.

د. حبيب بولس ، ناقد ومحاضر جامعي - الناصرة

drhbolus@yahoo.com

في ذكرى المؤتمر الصهيوني الأول

محمود كعوش
من حلم تيودور هرتزل إلى إرهاب بنيامين نتنياهو:
قرن وإثنا عشر عاماً من الإرهاب الصهيوني المتواصل
أذكر أنه عندما كان الصهاينة يحييون مرور قرن على رحيل ملهمهم والمنظر الأكبر لإرهابهم تيودور هرتزل في التاسع من شهر تموز قبل خمسة أعوام، حذرت بعض صحفهم المعروفة من مغبة حدوث كارثة حقيقية قد تهدد الوجود المصطنع للكيان الصهيوني القائم بقوة الحديد والنار فوق ثرى فلسطين منذ عام 1948، إذا ما استمر قادته بممارسة سياسة التمييز العنصري بحق الفلسطينيين الذين كان قد مضى على اغتصاب أراضيهم بالقوة في حينه ستة وخمسون عاماً. ولربما أن صحيفة "هآرتس" كانت أكثر وضوحاً ومباشرة في التحذير من الصحف الصهيونية الأخرى. يومها قالت الصحيفة المذكورة في افتتاحيتها التي خصصتها للمناسبة ما نصه: "إنه يتعين علينا ـ أي على الإسرائيليين ـ القول دون خشية أو تردد أن صهيونية الألفين لن تبقى على قيد الحياة في حال ظل تفسيرها لدولة اليهود على أنها دولة الأبارتهايد التي تتحكم بالفلسطينيين خلافاً لإرادتهم ورغباتهم. ويجب أن نذكر أن معاناة الفلسطينيين الذين يعيشون تحت احتلال إسرائيل قاسية مثل معاناة يهود أوروبا في نهاية القرن التاسع عشر. إن مستقبل دولة اليهود مرتبط بمستقبل الشعب الفلسطيني الذي يعيش إلى جانبها وفي داخلها. والحل المنطقي والأخلاقي لهذا لا يمكن العثور عليه في الحلم وإنما في إصلاح الواقع".
وتدلل الوقائع التاريخية التي تؤكدها أدبيات المنظمات الصهيونية على أن "الحلم الصهيوني" كان قد بدأ يعبر عن ذاته بشكل سافر واستفزازي مع التئام شمل المؤتمر الصهيوني الأول الذي انعقد قبل 112 عاماً في مدينة بازل على الحدود السويسرية الألمانية، وتحديداً في شهر آب 1897. ففي ذلك المؤتمر تم وضع الأساس النظري للدولة العبرية، التي قامت فيما بعد على أنقاض فلسطين الحبيبة في قلب الوطن العربي، في ظل خنوعٍ عربي وتواطؤ أممي وتآمرٍ دولي. وقد عرفت الفترة الممتدة بين التاريخ المذكور واللحظة الراهنة محطات خطيرة ومؤلمة كثيرة حاول الصهاينة خلالها تمزيق وتفتيت الوطن العربي واختراق كل خطوطه الدفاعية، بدعمٍ وتأييدٍ مطلقين من الغرب عامة والولايات المتحدة خاصة. فخيوط الصهيونية التي نُسجت قبل 112 عاماً انتشرت في العالم كالسرطان وتمددت بشكل مدروس ومتسارع لتطال معظم أرجائه، وذلك من خلال استئثارها بزمام الأمور الاقتصادية والإعلامية في غالبية بلدانه وتزعمها للانقلابات العسكرية فيه تمويلاً وتنفيذاً، وامتلاكها لأضخم إمبراطورية مالية تغذت خزانتها من مساعدات المنظمات الصهيونية والجاليات اليهودية والتيارات المسيحية المتصهينة المتعاطفة معها ومن التعويضات الألمانية والمساعدات الأميركية التي ما تزال تتدفق عليها حتى الآن والتي اقتربت من حدود 200 مليار دولار.
انعقدت جلسات المؤتمر الصهيوني الأول بين التاسع والعشرين والحادي والثلاثين من شهرآب 1897 في المدينة السويسرية بتنظيم وإشراف ورئاسة المفكر والكاتب اليهودي المجري تيودور هرتزل الذي يُعدُ أبو الصهيونية العالمية، وحمل المؤتمر شعار "العودة إلى صهيون". وصهيون كما نعرف هو جبل في مدينة القدس الفلسطينية المحتلة. وحضره 204 مندوبين يهود، منهم 117 مثلوا جمعيات صهيونية مختلفة، وسبعون جاءوا من روسيا وحدها. كما حضره مندوبون من القارتين الأميركيتين والدول الاسكندنافية وبعض الأقطار العربية وبالأخص الجزائر. وكان مقرراً للمؤتمر أن ينعقد في مدينة ميونيخ الألمانية، إلا أن الجالية اليهودية هناك عارضت ذلك لأسباب خاصة بها مما استوجب نقله إلى مدينة بازل السويسرية. وافتتح الإرهابي تيودورهرتزل المؤتمر بخطابٍ "ناري وعاطفي" كشف فيه عن الهدف الحقيقي من وراء عقده، والذي تمثل بما أسماه "وضع الحجر الأساسي للبيت الذي سيسكنه الشعب اليهودي في المستقبل"! وأعلن في ذلك الخطاب "أن الصهيونية هي عودة إلى اليهودية قبل العودة إلى بلاد اليهود"! كما حدد فيه مضمون المؤتمر فاعتبره "الجمعية القومية اليهودية". وأقر المؤتمر أهداف الصهيونية التي عُرفت منذ ذلك الوقت باسم "برنامج بازل" الذي حسم موقف الصهاينة من موقع دولتهم، التي لطالما حلموا بها!! وبرغم اقتصار أبحاث المؤتمر، إلى حدٍ ما، على المناقشات والمداولات دون أن يكون هناك التزام واضح من قبل هرتزل بقيام هذه الدولة "الوطن" في فلسطين بالتحديد، إلا أن المؤتمر شكل بدايةً حقيقية لمشروع الدولة الصهيونية، في ظل توفر العديد من الخيارات والأوطان بينها الأرجنتين وأوغندا. ومع ذلك فقد شكل المؤتمر الانطلاقة الأولى باتجاه فلسطين. وقد سبق لهرتزل أن فكر في مثل هذا قبل عامٍ من انعقاد المؤتمر كما ظهر جلياً في كتابه "الدولة اليهودية". كما نقطة تحول هامة وخطيرة جداً في تاريخ الحركة الصهيونية، بعدما نجح منظموه في جمع معظم صهاينة العالم تحت سقفٍ واحد وفي إطار واحد أطلقوا عليه تسمية "المنظمة الصهيونية العالمية"، وهي المنظمة التي تولت من حينه الإشراف على مجمل الأجهزة الصهيونية في العالم. ووفق ما جاء في "الموسوعة الفلسطينية" فإن إنشاء المنظمة شكل فاتحة عهدٍ جديد من النشاط الصهيوني الهدام استهدف تحقيق جميع مخططات الحركة الصهيونية. وقد تفرع عن المؤتمر لجنة تنفيذية تكونت من 15 عضواً كانت بمثابة مجلس شورى وأخرى صُغرى تكونت من خمسة أعضاء كانت بمثابة حكومة. وتم تأسيس مكتبة مالية لجمع الاشتراكات الصهيونية السنوية من جميع اليهود في العالم، إلى جانب فتح المصرف اليهودي الاستعماري برأسمال بلغ مليون جنيه إسترليني. ووضع المؤتمر برنامجاً سارت عليه جميع المؤتمرات التي عُقدت بعد ذلك، كما وناقش تقارير مفصلة عن فلسطين والنشاط الاستيطاني فيها. ونصبَ المؤتمر تيودور هرتزل رئيساً له ورئيساً للمنظمة الصهيونية العالمية.
بعد مُضي 112 عاماً على ذلك المؤتمر وبنتيجة تزايد الضغوط اليهودية عليها، عرضت الحكومة البريطانية على المنظمة الصهيونية العالمية ستة آلاف ميل مربع أراضي أوغندا في القارة السمراء لإقامة الوطن القومي اليهودي المنشود!! لكن "منظمة الأرض اليهودية" التي كانت تشكل أحد أبرز أذرعة تلك المنظمة، رفضت ذلك العرض وأصرت على أن يكون في فلسطين، متذرعة بما أسمته زوراً وبهتاناً "الرؤية التوراتية"!! وبنتيجة الضغوط المماثلة على الولايات المتحدة الأميركية والمعسكر الغربي الذي تشكل منه "الحلفاء" إبان الحرب العالمية الأولى، أصدر وزير الخارجية البريطاني آنذاك جايمس بلفور وعده المشؤوم في عام 1917 الذي قضى بإقامة "الوطن اليهودي" على أجزاء من فلسطين، ليكون نقطة حماية استراتيجية للدفاع عن قناة السويس وطريق الهند، وليكون قاعدة متقدمة للإمبريالية في الوطن العربي. وتبنى الرئيس الأميركي هاري ترومان ذلك الوعد بحماس كبير و"طيب خاطر طبعاً"!! وتطور الحال إلى أن جاء المؤتمر الصهيوني الثاني والعشرون الذي انعقد في بازل السويسرية أيضاً في عام 1946 وتبنى بدوره مشروع "بلتمور 1942" الذي قضى بإنشاء دولة يهودية في فلسطين كبرنامج للحركة الصهيونية.

لقد رمى المشروع الصهيوني بظلاله السوداء والكارثية على الأرض الفلسطينية والفلسطينيين في آن معاً. فبعد خمسة عقود من مؤتمر بازل، تمكنت الحركة الصهيونية من إقامة الكيان الصهيوني على 78 بالمئة من مساحة فلسطين التاريخية، بعد أن طردت بالإرهاب والإكراه والتنكيل والتعذيب 850 ألف فلسطيني من أراضيهم. ثم أجهزت في عام 1967 على ما تبقى من فلسطين، بعد طرد وتهجير مئات آلاف الفلسطينيين الجدد. وبالنسبة للهجرة اليهودية إلى فلسطين، فقد اتخذت بعد مؤتمر بازل الأول طابعاً منظماً، حيث ارتفع عدد اليهود من 30 ألفاً في عام 1897 إلى 650 ألفاً في عام 1948، وهو تاريخ نكبة فلسطين وولادة "الدولة العبرية القيصرية". وقد تواصلت سياسة التهجير "الإسرائيلية" ومصادرة الأراضي وإقامة المستوطنات والهدم والحفر والعزل وتغيير المعالم في فلسطين بالشكل الذي تناسب وتلاءم مع المطامع اليهودية الصهيونية، كما وتواصلت سياسة الهجرة اليهودية ليصل عدد اليهود إلى ما يزيد عن خمسة ملايين من أصل يهود العالم الذين لا يتجاوزون 13 مليوناً. وليس من قبيل المبالغة القول أنه ومنذ حدوث نكبة فلسطين في عام 1948 وحتى اللحظة الراهنة، و"الإسرائيليون" يمارسون السياسة في إطار الأيديولوجية الصهيونية ويتعايشون مع الخوف المتواصل والمفتعل، وسط اللجوء إلى الغرب وبالأخص الولايات المتحدة الأميركية لتأمين الأسلحة الفتاكة والمفاعلات النووية والتكنولوجيا المتطورة، والحصول على الدعم السياسي والمعنوي لسياساتهم العدوانية ومخططاتهم التوسعية. ومنذ لحظة الاغتصاب الأولى وحتى هذه اللحظة والألم الفلسطيني في تصاعدٍ مستمر ومتنام نتيجة تلك الممارسة وذلك التعايش والانحياز الغربي ـ الأميركي الأعمى "لإسرائيل". وإذا ما دققنا في ملفات منظمة الأمم المتحدة بما في ذلك ملفات مجلس الأمن الدولي لوجدنا أن الولايات المتحدة الأميركية لم "تكلف نفسها" عناء تسجيل أي إدانة للممارسات الإرهابية اللاأخلاقية واللاإنسانية التي ارتكبها "الإسرائيليون" بحق الفلسطينيين والعرب منذ بدء حلم تيودور هرتزل في عام 1897 وحتى إرهاب أيهود أولمرت في وقتنا الحاضر. والثابت حتى الآن أن الأيديولوجية الصهيونية ما تزال هي المتحكمة بعقليات وسياسات قادة "إسرائيل"، بغض النظر عن انتماءاتهم الحزبية وتوجهاتهم اليمينية أو اليسارية. فقد حرص اسحق رابين كل الحرص عند طرحه "إعلان المبادئ" الذي أبرمه مع الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات أمام أعضاء الكنيست "الإسرائيلي" على الادعاء بأن "الصهيونية قد انتصرت"!! أما بنيامين نتنياهو، فقد حرص هو الآخر على أن يقتفي أثر سلفه ويدعي في كتاباته "أن للصهيونية دوراً هاماً يجب عليها القيام به من أجل توطين ثمانية ملايين يهودي حفاظاً عليهم من عداء السامية المستشري في العالم، على حد زعمه!! وبرغم جميع الاجتهادات والأفكار "البروباغندية" التي طرحها زعيم حزب العمل الأسبق والرئيس الحالي لدولة الاغتصاب شمعون بيريس في كتابه "الشرق الأوسط الجديد" بغية الفصل بين جيلين "إسرائيليين" سابق قامت سياسته على الأحلام والتطلعات الأيديولوجية وحالي تقوم سياسته على حقائق العصر، إلا أنه لم يستطع أن يعدل عن مواقف الصهيونية الخاصة بدعوى أرض "إسرائيل التوراتية" والتي تشمل الضفة الغربية والقدس وقطاع غزة ومرتفعات الجولان، تماماً مثله مثل أي قائد "إسرائيلي" أخر!!
قرن وإثنا عشر عاماً مرعلى تاريخ انعقاد المؤتمر الصهيوني الأول في مدينة بازل السويسرية وما زال قادة "إسرائيل" من الأحزاب الرئيسية الثلاثة العمال والليكود وكاديما عاجزين عن تطوير الصهيونية بما يتفق مع حقائق العصر بمعناها الحقيقي ومفهومها الواضح. فحتى اسحق رابين نفسه حين خطا خطواته على طريق "السلام" لم يجرؤ على الإقرار بحق الفلسطينيين في إقامة دولتهم المستقلة في الضفة والقطاع والقدس الشريف، لا بل تمسك ببقاء المستوطنات اليهودية في مواقعها ووضعها تحت حماية قوات الأمن "الإسرائيلية" وتحت إشراف سياسي كامل من قبل السلطة السياسية "الإسرائيلية" في تل أبيب. وإذا كان هكذا الحال مع رابين "شريك الفلسطينيين في سلام الشجعان" كما كان يصفه الرئيس عرفات، فلا بد أن يكون أدهى وأمر وأشد تصلباً مع القادة الآخرين الذين خلفوه في رئاسة الحكومات "الإسرائيلية" المتعاقبة.
لا شك أن الألم الفادح الذي أوقعته الصهيونية العالمية بالعرب عامة والفلسطينيين خاصة من خلال ممارسة الإرهاب المتواصل ضدهم قد بدا في بعض الأحيان ثقيلا إلى حد ما على ضمائر بعض المفكرين والسياسيين والعسكريين اليهود في تل أبيب وبعض العواصم الغربية من أمثال ألبرت أنشتاين ومكسيم رودونسون والبروفسور تالمون وناحوم جولدمان وعيزرا وايزمان وآخرين وفق ما جاء في تصريحاتهم وكتاباتهم، إلا أن الواقع يشهد على أن "إسرائيل" لم تزل تُصر على التمسك بوضعية دولة الأبارتهايد التي تتحكم بالفلسطينيين خلافاً لإرادتهم ورغباتهم، الأمر الذي لا يُرجح احتمال قرب نهاية الصهيونية، تماماً كما تكهنت صحف صهيونية بينها صحيفة "هآرتس" في الذكرى المئوية لرحيل "ملهم الصهاينة والمنظر الأكبر لإرهابهم" تيودور هرتزل!!

كاتب وباحث عربي مقيم في الدانمارك
kawashmahmoud@yahoo.co.uk

الوصية السادسة




د. يوسف الغازي

بعض الذكريات من حرب حزيران 1967 لا تزال محفورة في ذاكرتي. لم أكشف عنها حتى هذا اليوم، لأسباب سآتي على ذكرها لاحقا. بعد ما يقارب الأربعين عاما، بدأت أشعر بالحاجة إلى تسجيلها ونشرها. إنها قصة الحرب خاصتي. ولأنها قصة شخصية لإنسان مسيّس، فهي أيضا قصة مسيّسة. ونظرا لضيق المكان، أسوق هنا مقاطع مختارة منها.**

نحو المجهول

سماء الشرق تلبدت في أيار 1967. كان بالإمكان استشعار الحرب الداهمة. كنت في الـ 29 من عمري، محررا لأسبوعية "زو هديرخ" ("هذا الطريق") – لسان حال القائمة الشيوعية الجديدة في إسرائيل ("راكاح")، أحد شقي الحزب الشيوعي الذي انقسم في صيف 1965. في يوم الجمعة، التاسع عشر من أيار، في الظهيرة، أجريت مقابلة مع عوديد كوتلر، الذي فاز في تلك السنة بجائزة أفضل ممثل في مهرجان الأفلام في كان عن دوره في فيلم "ثلاثة أيام وطفل". في المنزل، كنت أتابع الأخبار التي لم تبق مجالا للشك: المنطقة تتدهور، بخطوات واثقة، نحو حرب جديدة.

في الواحدة بعد منتصف الليل أيقظتني، من نومي القلق، دقات قوية على الباب. جنديان من الاحتياط كانا يقفان عند الباب يحملان أمر الاستدعاء. أمراني بالمثول عند الصباح في وحدة الاحتياط التي أنتمي إليها. العد التنازلي نحو الحرب قد بدأ. مريم، زوجتي في تلك الأيام، والتي كانت حاملا في الشهر السابع، تسمّرت خلفي ولم تنبس ببنت شفة. إمتلأتُ غضبا، لكنني تمالكت نفسي ألآ أصرخ كي لا أوقظ إبننا غادي، ابن السنوات الخمس، من نومه.

هيّأتُ نفسي لفترة طويلة من الخدمة العسكرية. دسستُ كل ما استطعت في حقيبة الاحتياط خاصتي، وبدلا من العودة إلى النوم جلسنا، مريم وأنا، للعمل: لاستغلال الساعات القليلة المتبقية حتى الصباح، أمليت على مريم نص المقابلة مع عوديد كوتلر.

في الصباح، مثلتُ في ملتقى الوحدة ـ كتيبة الاحتياط من سلاح المشاة ـ في مركز حي سكني في يافا. رويدا رويدا، وصل جنود احتياط آخرون وعلى الفور انخرطوا في محادثات حول مواضيع الساعة. ردودها تفاوتت بين الحماس الصاخب للحرب وبين القلق الخافت من المجهول.

بقيت واقفا وحدي، معظم الوقت، مستغرقا في التفكير بما يجري وبما ينتظرنا، وبعائلتي التي تركتها خلفي. ولأنني كنت مدركا لحقيقة أن أفكاري السياسية من شأنها أن تثير غضب مستمعيّ، فقد آثرت التزام الصمت. تملكني الخوف. تذكرت قضية اعتقال مجموعة جنود الاحتياط أعضاء الحزب الشيوعي قبل ذلك بـ 11 عاما، لأنهم عبروا عن معارضتهم العلنية لحرب سيناء – السويس في العام 1956 (ملحق "هآرتس", 10.1.1997).

من يافا تم نقلنا إلى إحدى القواعد العسكرية التابعة للجيش الإسرائيلي قرب الرملة، بغية الانتظام والاستعداد والتزود بالمعدات. وبحكم وظيفتي مضمدا للفرقة، فقد حمّلوني، أيضا، حقيبتين للإسعاف الأولي ونقالة جرحى قابلة للطيّ. في المساء، إنطلقنا في قافلة شاحنات نحو الجنوب. في الطريق، مرت القافلة على بلدات عديدة. حشود من الناس كانت تقف على جانبي الطريق، يصفقون لنا ويهتفون. كانت ثمة نسوة تطلق زغاريد الفرح كأنما نحن في حفل زفاف، آخرون كانوا يمطروننا بالسكاكر والحلوى. مظاهر الفرح هذه عمقت مشاعر الغضب والاكتئاب لديّ. وسط الاكتظاظ الذي كان على الشاحنة، إتكأت على السلم المثبت عليها، انزلقت ببطء نحو الأسفل حتى جلست على الأرضية متلفعا بكآبتي. شعرت، في داخلي، بأنني لا أنتمي إلى هنا.

تحت جنح الظلام وصلنا إلى مركز تجمع القوات في قطاع كتسيعوت ـ كديش برنيع ـ نيتسانا، عند الحدود المصرية. كانت المنطقة مشابهة جدا لتلك التي تدربنا فيها قبل ذلك ببضعة أشهر. وكما في المرة السابقة، صدرت لنا الأوامر بحفر مواقع وقنوات في الأرض الصخرية.


الوصية السادسة


"إذا لم يسر الإنسان بوتيرة رفاقه، فربما لأنه يصغي لضربات طبل آخر" (هنري ديفيد ثورو، "فالدن").


الأيام التي سبقت اندلاع الحرب سميت أيام الانتظار. في النهار كنا ننشغل بتحسين المواقع والتدريبات، وفي الليل نتناوب على الحراسة. جزء كبير من الأخبار في "صوت إسرائيل" كان مكرسا لخطابات الحماسة المتغطرسة التي كانت تبث عبر أثير "صوت الجمهورية العربية المتحدة" من القاهرة، والتي كانت تقدم خدمة جلى لقباطنة الحرب لدينا، المندفعين بحماس نحو الحرب. ماكينة الدعاية الرسمية غذّت مشاعر الخوف التي تملكت الجمهور في البلاد حيال سماع التهديدات من القاهرة، الديماغوغيا الصقرية التي ميزت سياسيينا والكلام الوطني الذي تغنى به فنانون ومهرجون متطوعون.

غبار الصحراء ورملها تسربا إلى كل ثقب وصدع ـ إلى الخيام، إلى الملابس، إلى الأنوف، إلى الآذان، إلى السلاح الشخصي. في ساعات النهار كان الحر قائظا جدا، وفي الليالي كان الطقس باردا. التعرق الزائد، النقص في المياه وانعدام الشروط الصحية أدت جميعها إلى ارتفاع جدي في منسوب الأوساخ والنتانة. البعض أصيب بحالات الإسهال. وبغية التخلص، ولو قليلا، من الاكتئاب الذي تملكني، شرعت في المطالعة. فقبل مغادرتي البيت بدقيقة واحدة كنت قد دسست في حقيبتي السيرة الذاتية لتشارلي شابلن، "سيرة حياتي"، بترجمة فرنسية.

إلى ذلك، فقد حرصت أيضا على مظهري الخارجي، خلافا للمجندين الآخرين الذين طوروا مظهرا صحراويا وقتاليا. جميعهم، تقريبا، كانوا غير حليقي الذقون، مغبّرين، متسخين وتنبعث منهم رائحة العرق المثيرة للاشمئزاز. عبأت ماء في علبتين من الصفيح بما يكفيني لحلق ذقني، للاغتسال وحتى لغسل ملابسي الوسخة.

جاري في خيمة الاستطلاعيين كان شابا متدينا يعتمر "الكيبا" (طاقية اليهود المتدينين)، لطيفا وذا مزاج مريح. كان هو موظف الفرقة. في حياته المدنية كان باحثا زراعيا، باحثا في علوم الحشرات. فوجئ، لكنه لم يصدم، حينما أكدت له ما كان قد سمعه من جنود آخرين عن أن رفيقه في الخيمة ـ والعياذ بالله ـ مُلحد وشيوعي في آن. وبرغم الخلاف في وجهات النظر بيننا والنقاشات المتواترة التي كانت تجري بيننا، إلا إن العلاقة بيننا تميزت بالاحترام المتبادل وبالاستعداد لمساعدة أحدنا الآخر. بل لقد تحسنت وتعززت هذه العلاقة حينما تأكد له حقا، كما سمع من جنود متدينين في الكتيبة، إنني مستعد عند الحاجة لتلبية الطلب بأن أكون الرجل العاشر لاستكمال العدد المطلوب لتأدية الصلاة، كمكرمة رفاقية.

جاري وأنا درجنا على تبادل رسائل التشجيع التي كان يرسلها تلاميذ وتلميذات من جميع الأعمار إلى الجنود المجهولين الذي تجندوا للحرب. كثيرون من الأولاد كانوا يعيدون ما كان يردده معلموهم على مسامعهم من إنه "جيد أن نموت من أجل بلادنا". هاكم أحدهم: "أتمنى لكم أن تهزموا هؤلاء العرب السيئين وأن تتحلوا بشجاعة عالية. أتمنى أن تنتصروا على العرب وأن ندمر لهم بلادهم".

يوميا، تقريبا، كنت أكتب إلى البيت. في رسائلي، كنت أسأل كيف يتدبر مريم وغادي أمرهما حيال المصاعب اليومية والخوف من الحرب المتوقعة. ومنطلقا من وعيي بحقيقة أن مريم كانت تحمل ندب طفولتها من الحرب العالمية، كتبت لها: "من هنا، أفهم أفكارك وهواجسك عن الماضي البعيد، وها نحن الآن، مرة أخرى، حيال أخطار جديدة". وناشدتها أن "إصمدي وتغلبي، وحاولي بشكل خاص أن لا يشعر غادي بعدم الأمن والأمان، إجعليه مشغولا على الدوام". ذكرى والدي، القلق الدائم، خطرت في إحدى الرسائل: " أعترف بأن الهدوء يغمرني أحيانا لأن والدي ليس على قيد الحياة. من المؤكد إنه كان سيصاب بالتشنج جراء القلق". إشتقت كثيرا إلى بيتي وعائلتي الصغيرة. في تلك الأيام لم يكن بالامكان بعد معرفة جنس الجنين في بطن أمه، لكن هذا لم يمنعني من أن أكون واثقا تماما، تقريبا، بأن مولودة بنتا ستولد لنا عما قريب، وقد قررنا اسمها، ياسمين.

وصفت في رسائلي بعضا من تجاربي في فترة الانتظار، محاذرا عدم الكشف عن "أسرار عسكرية". وحين فرغت من قراءة كتاب تشارلي شابلن، سمحت لنفسي باقتباس بضعة أسطر من خطابه الشهير في فيلم "الدكتاتور الكبير"، بترجمة حرة: "أيها الجنود! لا تستسلموا لهؤلاء البلطجيين، لهؤلاء الذين يحتقرونكم، يستعبدونكم... يفرضون عليكم أعمالكم، أفكاركم ومشاعركم!... الذين يتعاملون معكم كأنكم قطيع من البهائم ويستخدمونكم لحما للمدافع! لستم ماكينات! أنتم بشر! قلوبكم عامرة بحب الإنسانية! لا تكرهوا!".

كمضمد الفرقة، لم يكن لي كثير عمل. كان بعض الجنود يأتون إلي شاكين آلاما في الرأس أو في البطن، أو بسبب جرح بسيط. الآخرون كانوا يتلقون العلاج في خيمة العيادة التابعة للكتيبة، حيث كان ثمة طبيب. أحببت وظيفة المضمد، التي هوّنت عليّ كثيرا عبء الخدمة العسكرية، النظامية والاحتياطية، نحو 35 عاما معا. فحينما أقبلت على التجند للجيش احترت كثيرا وطويلا في السؤال: ماذا سأفعل في الجيش؟ وما أن سألني ضابط التصنيف إن كنت أريد أن أكون مضمدا حتى تلقفت العرض. ففي التضميد ستكون الاحتمالات كبيرة جدا لأن أتلافى القتال الحقيقي. لا بل، العكس صحيح: سيكون في مقدوري معالجة المحتاجين، من الجنود الإسرائيليين ومن "جنود العدو"، وربما استطيع إنقاذ حيوات بعضهم أيضا.

تطلعي هذا تحقق بأسرع مما كنت أحلم. في كانون الأول 1956، وبعد أن أنهيت دورة المضمدين، تم إلحاقي بالعيادة العسكرية التي كانت تعمل في شرم الشيخ في أعقاب احتلاله من أيدي المصريين. هناك توليت معالجة جندي من الجيش الإسرائيلي وأسرى حرب مصريين.


العدو الذي كنت أعرفه


في يوم الأربعاء، 24 أيار، وعلى خلفية أنباء عن أن الرئيس المصري أمر بإغلاق مضيق تيران في وجه السفن الإسرائيلية، سرت بين المجندين شائعة بأننا سننطلق إلى الحرب في الغداة. الاستعدادات كانت تشمل فحص جهوزية القطع الحربية، حفر المزيد من المواقع والقنوات ونشر حقول الألغام. كما أجريت أيضا بعض التدريبات، وبينها تدريب الهجوم على مواقع.

في الحقيقة، لم أندم على أنني تجندت – كان يهمني أن أكون مع الآخرين جميعا وأن أعيش معهم في تلك الساعات المصيرية. ومع ذلك، في الليلة ما بين الأربعاء والخميس لم أنجح في إغماض عينيّ. لم تكن أفكاري مركزة في مصيري الشخصي. كنت قلقا على عائلتي الصغيرة وعلى أمي. حاولت أن أتخيل كيف ستتدبر مريم الأمور مع غادي وهما وحيدان في البيت. قدّرت أن تنضم أمي، التي تسكن غير بعيد عن شقتنا، إليهما، كعادتها مساء كل سبت. وفكرت أيضا، بالطبع، كيف يتدبرون الأمور في الصحيفة من دوني.

لكن السؤال الأساسي الذي أشغلني في تلك الليلة كان: كيف سأتصرف في حال إرسالي إلى المعركة؟ ورغم أنني كنت مدركا لاحتمال الإصابة، مثلي مثل جميع المشاركين في القتال، إلا أنني لم أخش على جسدين بل على روحي بالأساس، وعلى مصير عائلتي. كنت أعلم، على الدوام، إنني غير قادر وغير مؤهل أن أطلق النار على إنسان، أن أجرحه، أن أقتله. كنت أعلم إن في ساحة المعركة احتمالين لا ثالث لهما: مُصيب ومُصاب، قاتل ومقتول. كنت أعلم إن إرادة البقاء والحياة هي التي تقرر وتملي سلوك أي محارب في المعركة، وإنه لن تتسنى لي إمكانية طلب استراحة/ مهلة لكي أعلن: "اللعنة، أنا لست بلاعب/مشارك – لا تصيبوني"! أرّقني وأقلقني كثيرا السؤال: كيف سأعيش مع نفسي بعد الحرب إذا ما اضطررت إلى التصرف وفقما هو متوقع من أي جندي في المعركة – إطلاق النار، إصابة الهدف والقتل دفاعا عن البقاء. لكن فكرة الهرب لم تخطر ببالي، قطّ.

مرت الساعات. وحين بزغ الفجر كنت لا أزال محاصرا بدوامة الأسئلة التي أرّقتني طوال الليل. جهّزنا القوّاد للتحرك. عبر الجنود عن قلقهم المتزايد، أصبحوا الآن أقل ثرثرة. وكلما دنت ساعة الانطلاق للمعركة تضاءلت تعابير التبجح والغرور. زال التوتر كله، فجأة، حين زّفت إلينا بشرى تأجيل ساعة الانطلاق. تأجلت - لكنها لم تُلغَ، أكد القادة. عدنا إلى روتين حياتنا.

النهارات والليالي تعاقبت بطيئة. في الليالي كنت أجد صعوبة كبيرة في الخلود إلى النوم، بسبب الهاجس المؤرق الذي لم يغادرني لحظة: ماذا أنا فاعل إن اضطررت للمشاركة في المعركة؟ لم أشأ بلوغها بغير جاهزية. استعدت في مخيلتي مقاطع من كتب ضد الحروب كنت قد قرأتها، مثلا، "كل شيء هادء في الميدان الغربي" لأريك ماريا ريمارك، "وداعا للسلاح" لآرنست همنغواي، "يوميات الحرب" لأنري باربيس، "جوني عاد من الحرب" لدالتون ترمبو. لم أجد في أي منها جوابا/ حلا للمشكلة التي حرمتني النوم.

ففي الحرب، حتى المضمد أيضا مُطالَب بالقتال دفاعا عن البقاء. لا تقتصر مهمته على معالجة الجرحى. ضايقني السؤال: هل سأسهم أنا أيضا بقسطي من الحساب الدموي بين إسرائيل وجيرانها العرب؟ وماذا سيحدث إن كان بين جنود "العدو المصري" شخص أعرفه – هو أو عائلته – من الحي الذي ترعرعت أنا فيه في الإسكندرية، أو من الحي الذي كانت تقع فيه حانة والدي؟

في أحد الأيام زار منطقة التجمع قائد اللواء، الجنرال أريئيل شارون، الذي كان يتمتع لدى كثيرين بهالة من الاحترام والتقدير كمحارب مغوار. من الأنباء التي سمعناها عبر الأثير استطعنا أن نفهم أن التحركات المكثفة في الأروقة الدبلوماسية ليس من شأنها إعاقة الاستعدادات للحرب أو إحباطها. لم يكن الجيش وحده هو الذي تم تحضيره للحرب – بل الجبهة الداخلية أيضا. وقد التهبت الأجواء في أعقاب "خطاب التأتأة" الذي ألقاه رئيس الحكومة، ليفي أشكول، في بث مباشر إلى الأمة، يوم الأحد 28 أيار. وبعد أيام معدودات تم ضم موشي ديان ومناحيم بيغن إلى الحكومة. بعد سنوات عديدة فقط تبين حجم الضغوطات التي مارستها أوساط عظيمة التأثير في المستويين السياسي/الحزبي والعسكري في الدفع نحو تشكيل حكومة وحدة تكتل قومي ونحو شن الحرب. فقد اتخذت تلك الضغوطات أحيانا طابع التهديد بانقلاب عسكري.


مصابيح تضيء الكثبان الرملية


عند الفجر، يوم الإثنين الخامس من حزيران، تلقينا الأمر بالاستعداد للانطلاق إلى الحرب. جلسنا ساعات على عتادنا نترقب الإشارة. عرض قائد الكتيبة على مسامعنا تفاصيل المهمة التي ألقيت على كتيبتنا. طـُلب إلينا أن نحتل، سوية مع قوات إضافية أخرى، منطقة أم قطف التي وُصفت بأنها موقع محصّن، وفقا للنظرية العسكرية السوفييتية. وقد ألقيت على كتيبتنا مهمة "تطهير" القنوات الدفاعية التي حوّطت الموقع، بالرصاص، بالقنابل، بالبنادق وبالاشتباك وجها لوجه. ووزّعت علينا معدات دفاعية في وجه هجوم غازيّ محتمل ومصابيح صغيرة للرؤية الليلية.

عند الظهر صعدنا إلى الحافلات التي أقلـّتنا غربا. قطعنا الحدود المصرية. خلال السفر، استقرّ قراري: لن أصيب ولن أقتل أي إنسان، حتى وإن كان الثمن تعريض حياتي للخطر. قررت لنفسي التقدم مع بقية الجنود في القوة، لكن دون تصويب سلاحي الشخصي، رشاش "عوزي"، ضد أي إنسان، حتى وإن هوجمتُ وتعرضت للخطر. قررت تقديم أفضل العلاج الممكن للجرحى، إسرائيليين ومصريين على السواء. في اللحظة التي قررت فيها ما أنا فاعله شرعت في ترديد صامت، في عقلي، لكل الإجراءات التي ينبغي على المضمد القيام بها في معالجته الجرحى. الترديد هدّأ من روعي. من هذه اللحظة فصاعدا شعرت بأنني اتخذت القرار الصائب.

نزلنا من الحافلات وواصلنا التقدم غربا، مشيا على الأقدام، في منطقة من الكثبان. لن أنسى تلك الرحلة. بعض أجزائها تتراءى أمام عينيّ كأنها فيلم رعب. الخطى في الرمل المتهافت كانت عصية على الاحتمال. أثقلتني حقيبتي الشخصية، حقيبتا التضميد، رشاش "العوزي"، خراطيش الذخيرة، مطرتا (قربتا) ماء مليئتان والنقالة المطويّة. كان التقدم بطيئا وشاقا. تنفست، شهيقا وزفيرا، مثل قاطرة. وبسبب وزن جسمي الثقيل والعتاد الكثير الذي حملته على كتفيّ، كانت ساقاي تغوصان في الرمل حتى الخصيتين تقريبا، في كل خطوة.

رحلة المشي في الكثبان رافقها قصف مصري متواصل. لاحقا، تبين أنه لم يوقع خسائر، لكنه كان مخيفا جدا. الترنحات في المشي البطيء والمعقد أدت إلى إنارة المصباح الذي كان معلقا عليّ، من حين على آخر. ليس مصباحي وحده فقط أضيء، بل مصابيح جنود آخرين أيضا، مما جعل القادة يصرخون، مرارا وتكرارا: "أطفئوا المصابيح"، خشية أن تكشف المدفعية المصرية موقعنا الدقيق.

سِرنا في طابور واحد طويل. كانت الأوامر تقضي بضرورة أن تبقى كل فرقة، وكذا كل جندي في الفرقة، على اتصال بصري مع تلك التي أمامها. بيد أنه كلما اشتد الظلام كلما تباعدت المسافات وحصل انقطاع بين الفر ق. كمضمد، كان موقعي في نهاية الطابور الخاص بكتيبتي. وخلال المشي المتثاقل لمحت جنديا يجرجر نفسه ببطء وينتحب بهستيريا إنه لا يستطيع مواصلة المشي. القادة والجنود الذين تجاوزوه صرخوا به شيئا ما، لكنهم لم يتوقفوا لمساعدته. أنا أيضا واصلت المشي، لكن بعد بضع خطوات دب بي الخوف: خشيت من احتمال أن نضيّعه، واعتقدت إن من واجبي، كمضمد، أن أساعده.

عدت على أعقابي للبحث عنه. وحين عثرت عليه كان أكثر هستيريّة. وخلال المشي، كما تبين لي لاحقا، رمى ذلك الجندي المسكين عن ظهره تلك الحافظة التي أثقلت كاهله. سندته إليّ بذراعيّ وجررته إلى جانبي. لم يُعِنّي في ذلك أحد. بصعوبة فائقة وصلت إلى هنا مع عتادي كله، وهاأنذا أجد نفسي أجرّ معي شخصا آخر. لست أدري، حتى يومي هذا، من أين استمديت تلك الطاقة اللازمة لذلك.

أحضرتُ ذلك الشاب إلى نقطة التجمع استعدادا للانقضاض. ولا أعرف شيئا عمّا حصل له لاحقا. بعد ما يزيد عن 35 عاما التقيته، صدفة، لدى مروري بجانب كشك كان يمتلكه في مركز مدينة تل أبيب. هو لم يتعرف عليّ، لكنه تذكّر، بالتأكيد، تلك الليلة وتلك الرحلة الليلية المشتركة في الكثبان الرملية.


السلاح غير معبأ


بعد توقف قصير للاستعداد، تلقت الكتيبة أمرا باقتحام الموقع المحصّن والاستيلاء على القنوات، ما يسمى باللغة العسكرية "تطهيرها". فقدت الإحساس بالزمن، كليا. كان الظلام دامسا. أيقنت أن سريّتي تسير خلف فرقة الاستطلاع التي رافقت قائد الكتيبة، لكنني لم أفهم حقيقة ما يحصل بالضبط. تقدمت في المنطقة وفي القنوات بتثاقل، كمن يسير في المنام، مثل روبوت. جسدي كان ثقيلا جدا عليّ، وكذلك رأسي. بقرار واع، وخلافا للأوامر، لم أعبئ سلاحي الرشاش.

أذكر كم من الوقت مشينا. فجأة، أطلقت النيران علينا. لم أستطع تحديد مصدرها، من الذي أطلقها وبماذا. بالقرب منا سُمعت أصوات محرك وجنازير دبابة تقترب، وبعد ثوان قليلة انفجار مدوٍ. قذيفة سقطت لصقنا. رميت نفسي أرضا، مثلما فعل الآخرون من حولي. أغمضت عينيّ. كنت مصدوما.

نداءات "مضمد! مضمد!" أعادتني إلى الواقع. وحين عدت إلى رشدي، أدركت إنني لم أُصَب بأذى. تقدمت، زحفا، نحو المكان الذي صدرت منه نداءات الاستغاثة. كان هناك جندي أصيب في كتفه، بشظية كما يبدو. ضمدت جرحه وحاولت تهدئة روعه. وعدته بالاهتمام بأن ينقلوه، على وجه السرعة، إلى نقطة التجمع (إلتقيته، ثانية، بعد الحرب، في حفل توزيع وسام الحرب. كلما مجّد قائد الحفل الحربَ وامتدحها، أمسك ذلك الجندي خصيتيه وأطلق شتيمة قذرة بالإسبانية، فلم نقوَ نحن على خنق ضحكاتنا).

وفيما أنا منشغل بمعالجة الجندي المصاب، زحف إليّ جندي وأخبرني بأن مصابا آخر ملقى في الجوار. زحفت نحو المصاب الآخر. كانت عيناه مفتوحتين وهو يتأوه بصوت خفيض. عرفته، على الفور. إنه شاؤولي، جندي الاستطلاع الذي كان ملازما لقائد الكتيبة على الدوام وكان معروفا جيدا بين جميع جنود الكتيبة. لقد أصيب، إصابة بالغة، في رأسه. وضعت لفافات كبيرة على الجرح. زحفت حتى قائد الكتيبة وهمست في أذنه إن شاؤولي قد أصيب إصابة بالغة وينبغي إخلاؤه على الفور إلى محطة التجميع. تبين إن الطبيب ومحطة التجميع بعيدان عنا. كان ذلك "قتيلي" الأول في هذه الحرب.

تواصل تبادل إطلاق النيران، دون انقطاع، من فوق رؤوسنا. بين الفينة والأخرى كانت الرصاصات المضيئة تشق الظلام. أصوات الانفجارات كانت تدوي كل الوقت وتضيء السماء. لم أستطع التمييز ما إذا كانت تلك قذائف مدفعية أم راجمات، ومن الطرف الذي يطلقها. كنا منبطحين على بطوننا ونحن ندسّ رؤوسنا في الأرض، عميقا. خلال انبطاحنا، وبشكل تلقائي، حفرنا تحت أجسادنا، بالأيدي وبالأظافر، في محاولة يائسة للبحث عن ملاذ. طال انبطاحنا، على تلك الحال، وقتا طويلا جدا، بدا أزليا، حتى بزغ الفجر.

خفت حدة النيران، تدريجيا، حتى توقفت كليا. مر وقت طويل حتى تجرأ بعض الجنود على رفع رؤوسهم، النهوض والخروج من الحفريات. طالما لم يتوجه إليّ أحد، لم أبرح مكاني. واصلت الانبطاح أراقب، مصدوما، ما يجري من حولي. شاهدت جنودا يتراكضون هنا وهناك. بين فينة وأخرى رأيت أيضا جنودا مصريين يخرجون من مخابئهم ويتراكضون في كل الاتجاهات. بعضهم تعثر وسقط إذ أصيب جراء النيران الكثيفة التي أطلقت عليهم.

بقيت منبطحا في مكاني وقتا طويلا. شعرت بجوع وعطش شديدين. بذلتُ جهدا لأجيل النظر من حولي، لكنني شعرت كمن لا ينتمي إلى هذا المكان. وحين اتضح إن موقع أم قطف قد سقط، كله، في أيدي القوات المهاجـِمة وتوقفت كل أشكال المقاومة من جانب المصريين المهزومين، خرج الجنود المنتصرون من مواقعهم، تجمعوا في مجموعات صغيرة وتناقلوا بينهم قصص المعركة وتجربتها. بعضهم كان يباهي بالأعمال البطولية التي سطروها. وانتشرت أيضا شائعة مفادها إن قواتنا قد أطلقت النيران علينا، خطأ، في مرحلة ما من المعركة. لم يصدر أي تأكيد لذلك من أي مصدر رسمي.

مع الانتهاء من "عمليات التطهير" خرج بعض الجنود باحثين عن غنائم، وخصوصا الأسلحة والذخائر. آخرون عكفوا على جمع "التذكارات": حربة، زوج أحذية، جهاز ترانزيستور، قبعة تحمل الشعار المصري، محفظة نقود، صور عائلية وبطاقات بريدية. هذا الشغف بالغنائم عمّق مرارتي السوداء التي كنت غارقا فيها.

في الصباح انضم إلينا زميلي في الخيمة، موظف الكتيبة الذي لم يشارك في المعركة. كان يبحث عني للاطمئنان على سلامتي والتأكد من إنني لم أصب بأذى. حاول فتح محادثة معي، لكنني التزمت الصمت. لا أعرف كيف فسّر مزاجي.

خرجت، من يوميّ الحرب الأولين، دون أية إصابة جسدية. لم أكن أعرف أي المهمات ستلقى على وحدتنا لاحقا. كان قراري حازما: لاحقا أيضا لن أشارك في هذه اللعبة، وليكن ما يكون.


حشوت رصاصة في البندقية


"لا يجدر تنمية احترام القانون مثلما يجدر تنمية احترام العدل" (هنري ديفيد ثورو، "العصيان المدني")


في صبيحة يوم الأربعاء، 7 حزيران، تلقت الكتيبة أمرا بالتقدم في اتجاه الشمال الغربي نحو العريش. نحن، جنود الكتيبة، لم نعرف بالضبط ما ينتظرنا هناك. لم نعرف ما إذا كنا سنشارك في المعارك لاحتلال المدينة أم إنها قد احتلت وقضي الأمر. صعدنا على الحافلات ثانية وانطلقنا في الطريق. سمعنا هدير الطائرات فوق رؤوسنا، ومررنا، على طول الشارع، على هياكل مفحّمة من الحافلات والدبابات المصرية المدمرة. الحفر العميقة التي خلفها القصف الجوي في الشارع كانت تعيق تقدمنا. وكان الجنود يستغلون تلك التوقفات الاضطرارية للنزول من الحافلات، لقضاء حاجة أو لشدّ العضلات. بالقرب من شاحنة مصرية مفحّمة كانت جثتان لجنديين مصريين ملقاتين محترقتين، بدتا من بعيد كأنهما رغيفا خبز محروقان. الجلد في بطن أحدهما كان ممزقا والأمعاء مدلاة خارجها. لدى الآخر لوحظ نتوء عضوه التناسلي المنتصب. أوضح لنا الضباط إن الجنديين قد أصيبا، بالتأكيد، إصابة مباشرة بقذيفة نابالم.

أنا لم ابرح مكاني في الباص. نظرت من النافذة فرأيت جنديا من كتيبتي يقف، ظهره إليّ، وهو يتقيأ روحه. وحين استدار عرفته على الفور: شاب أنهى خدمته النظامية منذ فترة وجيزة عاد والتحق بكتيبة الاحتياط خاصتنا. في أيام الانتظار، وكذلك في أعقاب المعركة في أم قطف وفي الباص في الطريق إلى العريش، كان يتباهى مثل الديك مبديا روحا قتالية سرعان ما تلاشت، في لحظة، لدى رؤية الجنديين المصريين المحترقين. أحد الجنود مدّ مطرته إلى جندي الاحتياط الشاب مقترحا عليه أن يغسل وجهه، مهدئا من روعه ومقدما له المساعدة في الصعود ثانية إلى الباص. منذ تلك اللحظة بقي جالسا في مقعده، صامتا، شاحبا، ساهما ومنطويا على نفسه.

حين اقتربنا من مدينة العريش رأينا، على جانبي الشارع، شِباكا من القشّ المجدول كان الصيادون المحليون يستخدمونها في اصطياد طيور السُّمّن في موسم هجرتها. أبلغنا أحد القادة بأن العريش لم تسقط نهائيا في يدي "تساهل" (الجيش الإسرائيلي) وبأن القوات المصرية لا تزال تحارب دفاعا عنها. وحين دخلنا إلى المدينة سمعنا أصوات تبادل النيران من جهات مختلفة. أمَرَنا القادة بالاستعداد للنزول من الحافلات في أية لحظة للمشاركة في ما أسموه، مرة أخرى، "تطهير" المدينة من جيوب المقاومة.

ومن ثم أمرونا بتجهيز الأسلحة والاستعداد للانطلاق. الوقت الآن ليس ليلا، نور النهار في الخارج وليس من الممكن التملص أو الاختباء. في لحظة قررتُ: عبأت رشاشي، حشوت فيه رصاصة وصوبته إلى كفّ يدي اليسرى وضغطت على الزناد. حين أصابتني الرصاصة شعرت بضربة قوية جدا في يدي زعزعت بدني كله. نظرت، لثانية واحدة، إلى الجرح المفتوح والنازف في كف يدي. على الفور تحلق حولي الجنود والقادة الذين لاحظوا إصابتي، هبوا لنجدتي وتشجيعي. كان بينهم زميلي في الخيمة، أيضا. وفيما أنا أتأوه وأتلوى من الألم، قام أحد المضمدين بتضميد جرحي.

أنزلوني من الحافلة ونقلوني إلى محطة تجميع الجرحى. هناك تم تضميد الجرح ثانية وحقني بوجبة من المورفيوم. أذكر، بالتباس وضبابية، كيف حملوني إلى سيارة الإسعاف التي كان يستلقي فيها بضعة مصابين آخرين. في ذاكرتي الملتبسة يهَيّأ إليّ إن السائق قد فقد السيطرة على السيارة فانقلبنا خلال السفر. ربما كانت تلك مجرد هلوسة جراء المورفيوم. لكنني أذكر جيدا إنني تلقيت، بعد بضع ساعات، حقنة ثانية من المورفيوم، وربما كانت ثمة ثالثة أيضا، لاحقا. واذكر إنني شعرت، أيضا، بآلام باهتة، غير حادة، وبأنني كنت ساهمان محلقا في حالة من النشوة. تلك المرة الوحيدة في حياتي التي كنت فيها تحت تأثير السموم. يخيّل إليّ إنه تم نقلي، جوّا، سوية مع مصابين آخرين، لكنني لا أذكر شيئا من تفاصيل تلك الرحلة الجوية.

حين زال تأثير المخدّر كنت قد أصبحت ممددا في المستشفى في كفار سابا. كان ذلك في ساعة متأخرة من الليل. شعرت بآلام حادة جدا وكنت واعيا بما يدور حولي. ممرضات وأطباء انكبوا على تقديم العلاج لي، بإخلاص وتفان لافتين، خلعوا عني بزّتي العسكرية وألبسوني برنسا. أرسلوني إلى تصوير الأشعة وما أن تلقوا النتيجة حتى اقتادوني، مباشرة، إلى غرفة العمليات. وقبل أن يقوموا بتخديري تمهيدا للعملية، سألت أفراد الطاقم الطبي عما إذا كان أحد ما قد قام بإبلاغ عائلتي بحالتي وبمكان وجودي. وتمكنت، أيضا، من الطلب من الممرضات التفتيش في جيوب السروال الذي خلعوه عني لإخراج محفظتي التي حفظت فيها صورة ابني غادي. تأثرت كثيرا لسماع ملاحظات الممرضات "يا له من طفل جميل" فانفجرت بالبكاء. لكنني سرعان ما أصبحت تحت رحمة الأطباء، الممرضات ومواد التخدير.


بسكويت من قلقيلية


حينما استعدت وعيي عند الفجر كان قد تم نقلي إلى القسم، وكنت أشعر بألم شديد في يدي المضمدة والمثبتة. رويدا رويدا، تخلصت من تأثير المواد المخدرة. تسلل الخوف إلى قلبي من احتمال كوني ـ بتأثير مواد التخدير ـ قد أفشيت سرّي خلال العملية الجراحية. ولدى جولة الأطباء في القسم، سألتهم والممرضات ما إذا كنت قد تحدثت أو قلت شيئا خلال العملية. ردوّا بالإيجاب مضيفين، بمزاح، إن ليس ثمة ما يمكن أن أخشاه ـ لم أفضح أي سرّ عسكري. لم يكن بمقدورهم التخمين بأن خوفي وقلقي لم يكن مبعثهما أية "أسرار عسكرية"، بل سرّي الشخصي أنا. هذا القلق لازمني ولم يفارقني لسنوات عديدة.

في يوم الخميس حضرت مريم وغادي لعيادتي في المستشفى. كان تأثري بالغا جدا، لكن المحادثة لم تتطرق إلى ظروف إصابتي. فقد تركز اهتمامي في حمل مريم، سألتها كيف يتدبر غادي الأمر في روضة الأطفال وفي الحي، حيال نشوة الحرب. ظاهريا، كان من المتوقع أن تؤدي الزيارة والمحادثة إلى تهدئتي. لكن ليس هذا ما حصل. فقد بقيت، بعد الزيارة أيضا، متوترا مشدودا مثل زنبرك. عرفت أن الحرب لا تزال متواصلة. وفي محاولة لتهدئة نفسي، رغم الآلام الشديدة، طلبت من الممرضات إشغالي بشيء ما في سريري. بدأت بتحضير لفائف للتضميد. في الليل، بسبب الألم والتوتر، لم أفلح في الخلود إلى النوم سوى بمساعدة "تحميلة" للنوم.

عندما استيقظت في صباح يوم الجمعة قررت الخروج، بأي ثمن، إلى عطلة السبت. من المستشفى في كفار سابا سافرت رِكابَةً حتى رمات غان. أنزلني السائق بجانب الكشك الواقع تحت دار السينما "رما". صاحب الكشك، موشي (موسى) خوري، صديق قديم وعزيز، استفسر عن حالي وصحتي بينما انفجرت أنا بالبكاء وفقدت القدرة على الكلام. مسكونا بالقلق عليّ، أوصلني إلى منزلي.

غادي ومريم فرحا كثيرا بملاقاتي، ولاحقا حضرت والدتي أيضا. قلائل فقط هم الذين حضروا لزيارتي، وتملصت أنا بنجاح فائق من كل المحاولات لاستنطاقي بأية معلومة حول ظروف إصابتي. عن وعي، كانت أجوبتي ضبابية مما جعل المتسائلين يفترضون إنني لا أزال، كما يبدو، مضطربا مشوشا وغير واع تماما لحقيقة ما حصل لي.

في نهاية الأسبوع قضيت وقتا طويلا في النوم. ومن حين إلى آخر تابعت الأخبار عبر المذياع. لقد توقف القتال في الجبهتين المصرية والأردنية، لكنه تواصل في الجبهة السورية. في مساء يوم الجمعة، حينما أذيع أن الرئيس جمال عبد الناصر قد أعلن قرار استقالته، في خطاب مباشر إلى الأمة، وصلت إلى مسامعنا هتافات الفرح التي أطلقت في الشوارع. فجأة، رفعت حالة الإظلام التي كانت تسود الدولة كلها، طبقا للأوامر. فقد أنيرت المنازل والشوارع من جديد. استقالة الرئيس عبد الناصر استقبلت في إسرائيل باعتبارها الإنجاز السياسي الأول للنصر العسكري في الحرب المبادَرَة.

في مساء يوم السبت توقفت، أخيرا، المعارك في هضبة الجولان. في الغداة عدت إلى المستشفى. في القسم ثارت عاصفة من الانفعال حول قصة جندي شاب أصيب بجراح بالغة وأحضر إلى المستشفى في المساء السابق. إحدى الممرضات أخبرتني بأن الأطباء قضوا ساعات طويلة في غرفة العمليات لإنقاذ حياته. تبين أنه أصيب في بطنه جراء رصاصة أطلقها عليه زميله في الوحدة خلال لعبة fair fight التي كانا يلعبانها، بفعل الملل كما يبدو. وبينما ارتدع هو عن الضغط على الزناد، أطلق زميله الرصاصة ولم يخطئ. استدارت الرصاصة عدة مرات في جسمه وأصابت أعضاء داخلية عديدة.

في المستشفى تواصل ورود الرسائل إليّ، من تلميذات وتلاميذ. مريم وغادي يذكران إنني كنت مستلقيا في السرير محاطا بحزمات من الهدايا والرسائل. إحتفظتُ ببعض منها. تلميذة من إحدى البلدات في منطقة الشارون كتبت إليّ: "كيف الحال في الكتيبة؟ مؤكد أنكم فرحون جدا... أمس رأيتُ بسكويتا من قلقيلية أحضره شباننا. كان ذلك مؤثرا جدا... الآن بالذات كان ينبغي أن تُنظم لنا رحلة سنوية وحفل اختتام في نهاية السنة. ربما يتم ذلك لاحقا، وربما تقام رحلة إلى العريش، إلى غزة أو إلى القدس القديمة. أليس كذلك؟ من يدري؟".

الوضع السياسي الذي أفرزه النصر العسكري السريع الذي حققه "تساهل" أثار لديّ قلقا شديدا. نشوة النصر دبت بي الخوف وأثارت شعوري بالغثيان، وخصوصا تعابير الفرح العلني التي صدرت عن الناس حيال مشاهد جثث جنود العدو، طوابير الأحذية المهجورة خلال الفرار في الصحراء، قوافل اللاجئين. فرغم الرقابة، بدأت تتوارد شظايا معلومات عن تدمير قرى فلسطينية بأكملها وتشريد سكانها.

أنا الذي بادرت، بنفسي، لتحريري قبل الأوان من المستشفى. في البيت زارني زميلي في الخيمة، ذلك الذي يعتمر "الكيبا". هو الذي أحضر لي أغراضي الشخصية التي بقيت في الوحدة. مؤخرا فقط، بعد 39 عاما تقريبا، إلتقيته مرة أخرى. إستعدنا ذكريات تلك الأيام وذكّرني هو كيف كنت أنا، في فترة الانتظار، الجندي الوحيد في الكتيبة الذي نفّذ الأمر بالنوم منتعلا الحذاء. وحين سألني آنذاك لماذا لا أخلع حذائي مثل بقية الجنود، أجبته ـ كما قال ـ بأنني، كمضمد، ينبغي ألاّ أضيع وقتا ثمينا في حال استدعائي الطارئ لتقديم إسعاف أولي.

وذكّرني، أيضا، بالاستعراض الذي أقيم عشية الحرب، وخلاله توجه قائد الكتيبة إلى الجنود طالبا مِن كل مَن لا يرغب في الخروج إلى الحرب أن يتقدم خطوة واحدة إلى الأمام، فلم يفعل ذلك أي من الجنود. غريب، لكنني لا أذكر شيئا من ذلك قطّ. وحين قلت له هذا، ردّ بالقول إنني ربما لم أشارك في ذلك الاستعراض لانشغالي بشيء آخر. ربما.


زيارتان في اللطرون


غداة تحريري من المستشفى، لم أتمالك نفسي وتوجهت إلى مكاتب هيئة تحرير "زو هديرخ". بسرعة فائقة انخرطت، من جديد، في العمل. مساهمتي الأساسية في تلك الأيام تمثلت في ترجمة تقارير من الصحافة العالمية، التي لم تكن خاضعة لمحظورات الرقابة العسكرية الإسرائيلية. وكانت، في غالبها، صورا وتوصيفات عن الرحيل الفلسطيني، الثاني في غضون عقدين من الزمن، من المناطق المحتلة، في الضفة الغربية عبر الجسور إلى الضفة الشرقية في الأردن، ومن قطاع غزة عبر سيناء إلى مصر. وقد منعت الرقابة العسكرية، أيضا، نشر شهادات أدلى بها إسرائيليون كانوا شهود عيان على عمليات التدمير والتطهير العرقي التي نفذها "تساهل" ـ مثلا، في منطقة اللطرون ومنطقة قلقيلية في الضفة الغربية، كما في هضبة الجولان السورية أيضا، حيث جرى تدمير غالبية القرى، عن بكرة أبيها.

المحادثة التي جرت بيني وبين الكاتب إميل حبيبي، عضو الكنيست عن الحزب الشيوعي آنذاك، حول عمليات حيث وقفنا عن كثب على حجم الدمار والخراب في قرى يالو، بيت نوبا وعمواس: لم يفلح "تساهل" في إنجاز محو القرى الثلاث عن وجه الأرض، لكنه تمكن من توزيع أراضيها على البلدات اليهودية المجاورة. وبالنظر إلى أسيِجة الصبار التي أحاطت بساحات البيوت، كان لا يزال بالإمكان إعادة ترسيم مواقع البيوت التي تم تدميرها ومحوها.

بعد مضي ثلاثين عاما عدتُ إلى زيارة المنطقة، وهذه المرة برفقة لاجئين من القرى الثلاث، في إطار الإعداد لنشر ريبورتاج مصور في ملحق صحيفة "هآرتس" 11.7.1997). الصور الفوتوغرافية في ذلك التقرير زودنا بها يوسف هوخمان، الذي كان التقطها في لحظتها الحية.


بمسحة من الفخر


عُدت إلى مزاولة حياتي العادية. بعد الحرب بأشهر قليلة ولدت ابنتنا ياسمين. لم يسألني أي من الأصدقاء أو أفراد العائلة عن ظروف إصابتي. فاجأتني، بشكل خاص، حقيقة إن سلطات الجيش (تساهل) لم تجر، حدّ علمي، أي تحقيق بشأنين بل تعاملت معي كما مع بقية جرحى الحرب. وقد تقررت لي، لقاء إصابتي، درجة عجز مؤقت بنسبة 10% لمدة سنة كما تلقيت تعويضا ماليا لمرة واحدة مقداره نحو ألف ليرة (نحو 250 دولارا). لقد صرفت الشيك ـ خفت من لفت انتباه زائد لم أكن معنيا به ـ لكنني حوّلت المبلغ، كتبرع من مجهول، إلى جمعية لمعالجة الأطفال المرضى.

لقد نجح الأطباء في مستشفى كفار سابا في جَبْر العظمة المكسورة وخاطوا الجرح المفتوح، بمهنية فائقة، فبقيت على كف يدي اليسرى ندبة صغيرة لا يمكن ملاحظتها إلا بصعوبة بالغة. لا أشعر بأي تقييد قط، تقريبا، في حركة يدي. في الشتاء فقط، حين يكون الطقس باردا، أشعر ببعض الألم في كف اليد، وإذا ما تلقيت ضربة على الندبة فإنها تتورم على الفور.

لم أستطع، حتى اليوم، كشف الدافع الحقيقي وراء تجاهل سلطات الجيش ظروف إصابتي. كنت أعلم أنه قد تم "تعليمي" باعتباري شيوعيا وأن ملف الخدمة العسكرية خاصتي يحتوي على كل التفاصيل المتعلقة بقضية من شهر تموز 1958. فقد تم اعتقالي، آنذاك، من قبل سلطات الأمن الميداني ووجهت إليّ تهمة توزيع منشورات في معسكرات الجيش. في تلك المنشورات، إنتقد الحزب الشيوعي قرار حكومة إسرائيل القاضي بفتح المجال الجوي الإسرائيلي أمام سلاحي الجو البريطاني والأمريكي، اللذين أرسلا طائراتهما إلى الأردن ولبنان بغية إنقاذ حكامهما من قبضة معارضيهما. وفي نهاية تلك القضية، حُكم عليّ بالسجن لمدة 35 يوما مع وقف التنفيذ. تبددت تخوفاتي من التحقيق في إصابتي في العريش في 7 حزيران 1967. ربما يكون الجيش قد فضّل عدم النبش في جروح الحرب تلك، كي لا يضطر إلى الاعتراف بوجود ظاهرة كهذه حقا.

حتى هذا اليوم، أيضا، لم أكشف لأي إنسان عما فعلته بالضبط. خلال السنوات العديدة الماضية، رويت لأشخاص معدودين، مقربين مني جدا، أشياء عمومية جدا ومبهمة. كان ثمة من تكهن بما حصل، تقريبيا. ثلاثة منهم فقط تحدثوا معي حول الموضوع: إميل حبيبي، الكاتب والشاعر مردخاي أبي شاؤول (رئيس عصبة حقوق الإنسان والمواطن) وزوجته ليئا. قال لي أبي شاؤول ذات يوم: "ليئا وأنا نعرف ما حصل وما فعلتـَه خلال الحرب، لكننا لا نريد أن نعرف عن ذلك شيئا، فهكذا أفضل".

خلال سنيّ صداقتنا ونشاطنا المشترك، والتي تكدرت غير مرة بسبب خلافات حادة، جرت بيني وبين إميل حبيبي بضعة حوارات من الأعماق. أحدها جرى بعد الحرب بأشهر قليلة، في أيلول 1967، في موسكو. في تلك المحادثة، تحدثنا عن العلاقة بين التزام الإنسان الشخصي تجاه ذاته وضميره، وبين التزاماته وواجباته تجاه الإطار الذي يعيش فيه، شريكا وناشطا. وكان المقصود، تحديدا، الحزب الشيوعي الذي كنا، كلانا، عضوين فيه.

ذَهَلني حبيبي بصراحته. قال: "الإنسان العضو والناشط في تنظيم، وخصوصا في تنظيم ثوري مثل الحزب الشيوعي، يشعر بالتزام عميق تجاه التنظيم، باعتباره أمرا بديهيا ومفهوما ضمنا. ولكن، بالرغم من هذا الالتزام، مهما يكن صدقه وإخلاصه، ثمة حالات فريدة ينبغي على الإنسان أن يتخذ فيها قرارات مصيرية وضميرية، لوحده تماما من دون أن يسأل التنظيم أو يستشيره، وذلك جراء الخطر في احتمال أن يتخذ التنظيم قرارا آخر، مغايرا لوعيه الذاتي، مناقضا لميله الداخلي ولحُكم ضميره".

وعندها، أنزل حبيبي المحادثة من المستوى النظري إلى أرض الواقع: "لو أنك أتيت، قبل تصرفك المحدد خلال الحرب، للتشاور معنا، مع الحزب، فإنني واثق تماما، تقريبا، إن الحزب كان سيمنعك من القيام بذلك العمل. واليوم أيضا، إذا ما عُرف بين الناس حقيقة ما فعلت، فليس من المستبعد أن تعلن قيادة الحزب تحفظها منه".

كان حبيبي يتحدث عن "العمل" دون أن يسميه، لكنه كان ينقـّل نظراته ـ خلال حديثه ـ بين عينيّ وبين كف يدي. كان مقصده واضحا لكلينا. وقد علمت، بناء على إشارات مختلفة، إنه كان قد أفشى سرّي، بمسحة من الفخر، لعدد من معارفنا المشتركين ولعدد من أصدقائنا الحميمين في الضفة الغربية ومصر.

هذا التخوف ـ من أن يتنصل الحزب من تصرفي وأن لا يقف خلفه ـ كان، حقا، أحد الأسباب التي دفعتني إلى إخفائه، لكنه ـ بالتأكيد ـ لم يكن السبب الوحيد.

شخص آخر، قريب جدا وعزيز، هو ابني غادي، اكتشف الأمر بطريقته. لم أخبره بأي شيء عن ذلك، إطلاقا. في طفولته، حرصنا على القول له إنني لم أصب بنيران العدو، بل برصاصة أفلتت حين سقطت من الحافلة التي سافرنا بها. لكنه حينما قبع، هو بنفسه، في العام 1981 في سجن مجيدو جراء رفضه الخدمة العسكرية في المناطق المحتلة ـ هكذا روى لي بعد إطلاق سراحه ـ تذكّر الأمر، أجرى حساباته الخاصة فربط بين مشاهداته خلال خدمته العسكرية وبين تخبطاته هو، ففهم. وحين تزوجت للمرة الثانية، رويت لزوجتي، طليله، قصة الواقعة. أولادي الآخرون سيكتشفون الحقيقة حينما يقرأون القصة هنا.

لقد حرصت على كتمان سرّي هذه طيلة سنوات عديدة. لماذا؟ الجواب البسيط هو أنني كنت أخاف التورط. نعم، هكذا بالضبط. الأمر الأساس بالنسبة لي كان إنني حققت الهدف الذي من أجله فعلت ما فعلت: أن لا أقتـُل. كنت أعلم أنني، من وجهة النظر القانونية، قد ارتكبت مخالفة، بل مخالفة خطيرة. حتى إنني قد حاولت ذات مرة أن أفحص: هل يسري التقادم على مخالفة من هذا القبيل؟

واجهت خلال حياتي بضع حالات زاد فيها منسوب تخوفي، بشكل مميز، من مغبة افتضاح سرّي واستغلاله للتشكيك بي وبمواقفي السياسية. هكذا كان الحال حينما أصررت على رفض الخدمة، كجندي في الاحتياط، في المناطق المحتلة، في أعقاب نشر سلسلة الريبورتاجات التي أعددتها عما يجري هناك وضمنتها في كتاب "أبي، ماذا فعلت حين هدموا بيت نادر؟" (1974). وهكذا كان، أيضا، عندما كتبت عن رافضي الخدمة العسكرية في المناطق المحتلة ورافضي التجنيد، في سلسلة التقارير الصحفية التي نشرت في صحيفتي "زو هديرخ" و"هآرتس" وفي الصحافة العالمية.

قراري بالخروج عن صمتي، الآن، نضج إبان تأليف كتابي الأخير، "الضحية"، الذي رويت فيه قصة مأساوية عن جندي شاب، هو المسالم اللاعنفي روتم شبيرا، الذي وضع حدا لحياته خلال خدمته العسكرية، ولم يكن قد بلغ الـ19 عاما.

-------------

* د. يوسف الغازي ولد في الإسكندرية, مصر, في سنة 1938. مؤرخ وصحفي ومناضل سياسي واجتماعي إسرائيلي. سابقا سكرتير عصبة حقوق الإنسان والمواطن.

** هذا النص (هو جزء من نص أكبر لم ينشر بعد) نشر في صحيفة "هآرتس", عبري وإنجليزي (26.5.2006). (الترجمة إلى العربية: سليم سلامة)